Sunday, December 30, 2012

نظرة إلى رسائل إليوت الخاصة

كطفل خجول ولد بفتق في بطنه سأل ت إس إليوت مرة ممرضته لماذا لا يرتدي الصبي العاري بالكتاب حزام حول بطنه؟. كان حينذاك صبي لم يتجاوز التسع اعوام بعد ولكنه كان حسن التربية ولديه الكثير من الفضول، يهتم بطفولية ببعض ازهار عباد الشمس المفقودة من منزل العائلة الصيفي والميكروسكوب المكسور الخاص به، ذلك المنزل الذي يقع في جلستر بولاية ماساشوستس الامريكية كتب منه العديد من رسائله الموجهة الى والده.
طالما تاق إليوت الى ان يكون فيلسوف اكثر منه شاعر. أشتعلت الحرب الكبرى فور وصوله الى المانيا من اجل التخرج ففر هاربا الى انجلترا دون حتى وداع الاسرة التي استضافته. لم تكن حياته سهلة ابدا فلقد كان دائما على عجل ولكن وجهته كانت ضبابية. قبلت اطروحته العلمية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة ولكن حالت الحرب دون رجوعه ولكن هارفارد تعقبته بعد ذلك بوقت طويل بعد ان فقد الامل وقامت بتعيينه. وهناك مارس إليوت هوايته الشعر وقد حالفه الحظ ونشر له الشاعر الامريكي عزرا ويستون باوند (1885 – 1970) شعره في مجلة "Poetry” الشعرية. ولكن الرجل الوسيم لايزال غير واثق من موهبته. لقد تزوج زوجته الاولى فيفيان بعد ثلاث اشهر فقط بعد أول لقاء بينهما وقد بدت الحياة مكتملة. ولكنه عاني من اعباء مادية واضطر الى ان يتسول من عائلته المال. ثم تحسنت احواله المالية قليلا بعد توظيفه المفاجئ في بنك لويدز.
قصيدته "ارض الضياع"، او كما اطلق عليها قبلا
 He Do the Police in Different Voices
 ربما تكون ملهمة من اعمال تشارلز ديكنز ولكنها في النهاية تعكس حساسية شخصية 
إليوت. في البداية قضي الموظف البنكي ،بالمصادفة، لياليه يكتب المقالات الواحدة تلو الاخرى ويرسلها الى الجرائد الفلسفية ثم غير وجهته الى المجلات الادبية. لم يؤمن بموهبته الشعرية لمدة طويلة ثم جاء الشعر تباعا. وبينما هو يعمل بجد في البنك وكتابة المقالات النثرية ليسدد ديونه، كتب إليوت القليل من الابيات خلال اقامته في لندن، لانه كان مرهق جدا لمجرد التفكير في الشعر.
بعد ان نضب شعره اصبحت رسائله بمثابة نوافذ على روحه او بالاحرى ابواب لسردابه. مجلدان قاما بتصوير كفاح إليوت لايجاد وظيفة وشق طريقه في عالم لندن الادبي الذي يعتبر مدرسة من سمك القرش، الكتاب يلتهمون اصدقائهم والناشرون يلتهمون كتابهم. معظم الرسائل الاولى كتبت الى عدد قليل من الناس مثل ابويه واخيه هنري، بعض الادباء وبعض مضيفات لندن الثرثارات. من بين الشخصيات الادبية الاكثر تأثيرا عزرا باوند، والفيلسوف والمؤرخ البريطاني برتراند راسل وفيرجينيا وولف التي كانت ناقدة لاذعة بشدة فلقد وجدت إليوت حاد الطباع ومتمرد ومغرور وصاحب صوت كئيب.
معظم رسائله كانت اجتماعية، دعوات ترحيب او رفض، الاتفاق على موعد او ألغاؤه، وكانت حياته الاجتماعية بمثابة خلق طريق لفرص عديدة مثل علاقته برئيس تحرير المجلة الادبية البريطانية
 The Criterion
 والتي كانت المجلة الادبية الرئيسية في هذه الايام. كان لإليوت رغبة ماسوشية في العمل، فالمجلة كانت "تعمل بدون مكتب وبدون فريق عمل او مدير اعمال ولكن بواسطة موظف بنكي بائس وزوجته" كتب إليوت. كما انه لا يتلقى راتب نظير الساعات القصيرة التي يقضيها في العمل بعد عودته من لويدز. وقد كانت شقته الصغيرة بلونها البرتقالي الصارخ مكان عزلته الرهيبة بعيدا عن اسرته فلقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره ولا يزال يكتب رسائل حب لوالدته ويثرثر فقط من اجل الثرثرة. كان جو البيت اللندني الحار المخنوق بالحروب وحياته الخاصة الهادئة قاسم مشترك مع قصيدة "ارض الضياع" والتي كانت تبدو ذات طابع شخصي بشكل كبير تحمل في طياتها عنصرية ملحوظة كما انها تعتبر تحليل عنيف لوضع المجتمع حينذاك.
نادرا ما يستطيع القارئ ان يلمح ما وراء الستار الذي يغلف به إليوت ايامه وتصرفاته. فلقد عانت فيفيان من شتى انواع المرض: التهاب الاعصاب، الالم العصبي، التهاب القولون، الصداع نصفي، والعديد من الامراض التي تعجز الادوات الطبية عن تشخيصها او معالجتها. وهنا اقترب إليوت كثيرا من الدجل لعلاجها وقدم الاطباء محاولات للعلاج بالماء وغسل القولون واكياس الغدد وحقن بالبكتريا العصية. فلقد كانت ممارسات يومه ليست بعيدة عن اراقة الدماء والحجامة وكأنه في العصور الوسطى.
كان إليوت ماكر، كما ينبغي على المحرر ان يكون، ونشر لوولف والكاتب الانجليزي إي. أم. فورستر بشكل موسع وكأنه فاترينة 
 عرض.
 لاحقا عندما تخلص من العمل البنكي وعمل لشركة نشر انجليزية جديدة
 Faber & Gwyer،
 اتهم بانه يسرق المؤلفين من دار نشر
 Hogarth Press
 التي تملكها فيرجينيا وولف وزوجها. كما انه كتب خطاب بذئ وجائر للشاعرة الامريكية الحداثية مارينا موور (1887 – 1972). لا يمكن اعفاؤه كليا من جراء الازمة في حياته الزوجية (خطاباته قبل زواجه من فيفيان تظهر سلوك شيطاني غاب تماما طوال الوقت الذي قضاه معها).
لم يكن إليوت يخفي معاداته للسامية بل كان يضرب بها عرض الحائط. فلقد اشار الى تاجر يهودي وسمح لنفسه بان يقول "اشعر بالمرض عندما افكر في عقد عمل مع ناشر يهودي". انها ادانة ان تكون هذه الملاحظات تطلق فقط بحضور هؤلاء الذين يؤيدون انحيازاته. ولا يزال إليوت يعتمد على اصدقائه ليونارد وولف والروائي البريطاني سيدني شيف (1868 – 1944) وكما كانت تصريحاته ضد السامية مروعة فأنها لم تكن تناسب زوجته وأمه قط حيث قال "لدي نفور غريزي تجاه اليهود، كما لو اني مضطر لرعاية الحيوانات".
اذا كان الجزء الاول من الخطابات بمثابة مسرحية ذات طابع انتقامي انجليزي، فهو البطل الذي ينتظر خيانة اصدقائه، فان الجزء الثاني يعتبر بعث للكوميديا عن زوج عجول يعمل بشكل هستيري وزوجة عبوس عصبية مكوعة في الفراش. الخطابات في هذه الفترة كانت فقط عن فيفيان التي كانت ثاقبة ذات اخلاص فظ ومحافظة على دفع زوجها نحو المشاكل المادية. ولقد كانت ايضا ملكة الدراما المحلية وبالكاد اعتبرت ممثلة سينمائية. ولقد كانت تتصرف بوقاحة في بعض الاحيان فوصفت الكاتبة النيوزلانيدة كاثرين مانسفيلد (1888 – 1923) بأنها "مخلوقة للمقاهي" وجعلت فيرجينا وولف تقريبا تتقيأ. بطريقة غريبة اصابت اسرة إليوت نفسها بالمرض. فمن الصعب ان لا نفكر ان فيفيان استغلت محنتها للسيطرة على زوجها.
انتهى هذا الجزء بانفصال إليوت عن زوجته بشكل مؤقت وقد أدخلت نفسها في دوامة أدت بها في نهاية المطاف بعد سنوات في مستشفى للامراض العقلية. لم يكن إليوت خرج من دائرة العالم السفلي لحياته الزوجية بعد فبقى رجل متغير المزاج مع مسحة من الخيلاء. كتب خطاب لأمه يخبرها بان هناك من يؤمن به باعتباره "أفضل ناقد وشاعر على قيد الحياة في انجلترا بأسرها" بالرغم من انه اخبر صديقه الروائي والشاعر والناقد الانجليزي فورد مادوكس فورد (1873 – 1939) انه غير راض الا عن 30 بيتا فقط من قصيدته "ارض الضياع".
ماذا كان سيحدث لو ان إاليوت توفى بالمرض الذي اصابه بالفك عام 1925 قبل ان يغادر البنك؟ لم تكن لتتضاءل سمعته الشعرية او النقدية كثيرا بل كان سيبقى على نحو ما واحد من اعظم الشعراء الذين كتبوا باللغة الانجليزية يوما ما.
الان يتم الاستخفاف بموهبة إليوت النقدية، ينبذه ناقدون اقل منه وعي وذكاء. فشعره الذي يعد اساس للانثولوجيا الحديثة، يحاولوا الان ان يقفوا ضده (قصيدته "ارض الضياع" تعد من أفضل ما كتب من شعر في القرن العشرين). اختفت تقريبا افضل قصائد إليوت تحت 
 اكوام من غبار النقد والشرح الذين جلبوا بدورهم المزيد من الغبار.
 العديد من اعماله الشعرية الاولى
 Prufrock، Sweeney، Gerontion، وحتى The Waste Land
 او "ارض الضياع" يمكن ان يتم وصفهم بأنهم قصائد شعر ريفي مدني وهو جزء من التحول في الشعر الانجليزي من الريف الى المدينة. قد يأخذ احياء هذه القصائد مرة اخرى وقتا طويلا بعد ان قام العديد من الشعراء الوقوف ضد إليوت سواء كانوا اصدقاء او اعداء ومنهم من مات منذ زمن بعيد والى ان يتم بعث تراثه مرة اخرى سيبدو عالمه وكأنه موضة بالية مثل وضع البابا الان.
من خلال الخطابات نستطيع ان نعرف ماذا كان إليوت الشاب قبل ان يصير شيخا، موظف بنكي مرهق، محرر في مجلة بعد عودته ليلا، منهك في حياة زوجية تعيسة وحزين لما وصل اليه حاله. يبدو في بعض الاحيان ضيق الافق وحاد الطباع ومزعج وقد قال عنه الروائي الامريكي كونراد ايكن (1889 – 1973) "لقد كان اغبى مما قد اتذكره، في الحقيقة كان احمق" بالرغم من عمله في البنك كان مناسب لمزاجه بشكل ما، فاقترابه لمدة طويلة من الادب لم يكن يدعم موهبته.
من الممكن قراءة "ارض الضياع" ليس كمأساة صاخبة صارمة كتبها رجل عانى من انهيار عصبي ولكن كمجموعة من التذمر الساخر او كما اطلق عليها هو فيما بعد "تمرد ايقاعي". انها قصيدة باردة صادمة.
الجزء الاول من هذه الطبعة تحكي تقريبا عن ربع القرن الماضي. وقد اعيد طبعه وبداخله 200 خطاب جديد مع المزيد من ملاحظات إليوت. اما الجزء الثاني فيحتوي على مراسلات حتى عام 1925. إليوت الذي رغب ان يسمع امه تغني له اغنية طفولته بينما كان في الثلاثين من عمره وزوجته التي كانت تطلق عليه رغم كل مشاكلهما "وينكي بينكي"، سوف تعيش خطاباته اكثر من شاهد قبره فهم بمثابة رواية روسية طويلة انتهت في منتصف طريق مرعب ومهين ومرهق في نهايته.

ترجمة:أميمة صبحي
نُشر بأخبار الادب
مارس - 2012

No comments:

Post a Comment