Thursday, January 24, 2019

فروغ فرخزاد.. شعلة إيرانية للتمرد والعناق

 نُشر في المنصة - نوفمبر 2018
لقد كانت امرأة مُطلَّقَة، تكتب شعرًا صريحًا من منظور أنثوي بلا خجل، بجانب عملها السياسي وموقفها المناهض للسلطة، فأصبحت ولا تزال رمزا للثقافة المضادة.


كنت تجر العالم إلى النار

وتقول.. من يعبد إبليس يحترق!
ومن خلق إبليس الملعون سواك؟
أنت الذي خلقه كغول يأتي إلينا
وأعطيته الوقت مادام العالم قائما
...
لِمَ تلهو بنا؟..
نحن خيط مسبحة تدور بين يديك
وأعيننا حين وقعت بعيون الحياة..
أصبحنا نعرف الخطأ
أصبحنا الخطأ نفسه

- قصيدة "تمرد العبودية"*

في هذا المقطع من قصيدتها "تمرد العبودية"، تضعنا الشاعرة الإيرانية المتمردة "فُرُّوغ فرُّخزاد" أمام أنفسنا، وتجعلنا ندرك أننا، وبخاصة النساء منّا، لم نبلغ الطريق الثوري بعد. ورغم تمرد بعضنا في الآونة الأخيرة؛ إلا أن تمردنا ليس كافيًا. ومن فعلن؛ يظلَّن قليلات، وقد دفعن ثمن ذلك التمرد من سمعتهن وأعمارهن، تمامًا كما دفعت هي: الشاعرة والمخرجة الإيرانية فروغ فرخزاد (1934-1967).


كانت علاقة فروغ مضطربة بكل من حولها تقريبًا. أرهقها التمرد أكثر مما فعل مع المحيطين بها. طليقها الذي تزوجته وعمرها 16 عامًا، وابنها، ووالدها وأخوها الأقرب إليها "فريدون". كما لو أن وجودها كان مُتعبًا للوجود بأكمله، فكان عليها الاعتذار وتبرير موقفها طوال الوقت في رسائلها وفي قصائدها، وفي النثر القليل الذي كتبته بعيدا عن الشعر.
ففي رسائلها لوالدها الضابط السابق بالجيش الإيراني، تعتذر فروغ بشدة عن تأخرها في الرد على خطابه، ويبدو أنها تلقت تأنيبًا شديدًا؛ فهي تسعى بقوة لإثبات "أن من تحبهم من صميم قلبها لا تنساهم أبدا"، كما تقول له في رسالة أخرى "كنت أرغب في الكتابة لكم عن كل حياتي ومشاعري ومشاكلي، ولم أكن قادرة ومازلت عاجزة عن ذلك، إذ كيف يمكننا الوصول إلى تفاهم مشترك بيننا؛ عندما تكون قواعد أفكارنا وعقائدنا قد تشكلت في زمنيين ومجتمعين مختلفين من ناحية الشروط والمعطيات؟.. ألمي العظيم أنكم لا تعرفونني أبدا ولم ترغبوا يوما في ذلك، وربما لا زلتم عندما تفكرون بي؛ تعتبرونني مجرد امرأة فارغة الرأس حشت قراءة الروايات الغرامية والقصص التي نشرتها مجلة طهران مصور (طهران المصورة) رأسها بالأفكار الحمقاء. ليتني كنت هكذا، لكان باستطاعتي آنذاك أن أكون سعيدة".
وجهت أسئلتها للإله مباشرة، وضغطت في تساؤلاتها وكأنها تريد إجابة فورية. ربما لهذا رغبت في موت مبكر، لأنها ضاقت من تساؤلات لا تجد لها إجابة هنا.
كانت تستجديهم ليسمحوا لها بنشر كتاب بدون ضغوط أو مشاكل، وتؤكد لهم أنها بالفعل تحبهم وتكترث لمشاعرهم، لكنها غير قادرة على كبح موهبتها وكتمان دخيلة صدرها. كما دافعت عن سمعتها التي ساءت بحكم إنها سيدة مطلقة أولا، وشاعرة ثانيا "من يستطيع أن يدعي أنني نمت ولو ليلة واحدة خارج المنزل؟ كلا، فأنا في غرفتي ليل نهار أنجز أعمالي، وغير راغبة حتى في الخروج. بعكس ما تتصورون فأنا امرأة تحب التجوال في الشوارع، بل أنا ذاتي، امرأة تحب الجلوس إلى الطاولة وتقرأ وتكتب الشعر وتفكر.. لو كنتم تسمحون لي وتعدون بعدم الاستياء مني لقلت أشياء كثيرة أخرى.. أما إن كنتم ستستاؤون مني فالأفضل أن تبقى شفاهي مطبقة كما كانت العادة دوما. يكفي أن تعرفوا أنني أحبكم مثل بقية أولادكم ولا أريد أن أقوم بما يزعجكم". ورغم كل هذا الاستجداء إلا أنها لم تتوقف يوما لتنظر خلفها، بل أن تمردها طال الإله نفسه، تمرد ناعم في شكل تساؤلات وعتاب حينا؛ وحينا آخر بصوت عال ومواجهة صريحة. كأن الإله كبش فداء لكل أسئلتها وروحها المتعبة التي لم تستطع بها مواجهة عائلتها بشكل مباشر.
تنبأت الشاعرة الإيرانية -التي ستظل شابة لرحيلها قبل أن تتم الثالثة والثلاثين- بأنها سترحل صغيرة. قالت فروغ لأخيها الشاعر والموسيقي فريدون في رسالة؛ "على أي حال أول من سيموت في عائلتنا هي أنا، ومن بعدي يأتي دورك، أنا واثقة من هذا".
ولثقل الحزن واليقين بقرب الموت؛ اقترنت أشعار فروغ فرخزاد بهما، وحملتهما (الحزن والموت) راية عصيان ضد الحياة، وخاصة في دواوينها الأخيرة.
عندما أخرج عباس كيارستمي فيلمًا حمل عنوان قصيدة لها "سوف تحملنا الرياح" The wind will carry us؛ كان فيلمًا عن الموت وانتظاره، تسير أحداثه في قرية جبلية صغيرة، يحضر إليها شاب مجهول ويمكث في أحد بيوتها الصغيرة في انتظار موت السيدة ملك التي تجاوزت المائة عام بكثير، حتى أن أهل القرية توقفوا عن عد سنوات عمرها. الشاب ينتظر موتها يوما بعد يوم، بينما أهل القرية جميعهم يعملون على راحتها ويدعون لها باسترداد الصحة. الموت مقابل الحياة؛ حتى لو كانت حياة فقيرة استهلكت سنواتها ومضت ذروتها.




في رسائل العتاب التي تبادلتها مع أخيها فريدون، الشاعر والفنان الذي كان يعيش في ألمانيا، كانت ترسل له النقود وتعتذر عن قلتها لأنها فقيرة، ولا يوجد أحد لتستند إليه في أيام فقرها الشديد. تشكو من الوحدة والتعاسة وتعنت الناشرين في نشر دواوينها ودفع مستحقاتها المالية، وترجوه ألا يلومها لعدم الكتابة بانتظام. كانت تحبه وتُدلِّله بـ"حماري الصغير"، وتؤمن بموهبته الشعرية. كما انتظرت منه أن يمد إليها يد العون، كونه أقرب أخوتها إليها، وأكثرهم إحساسا بمعاناتها، ولأنه كذلك يكتب الشعر ويدرك مخاطره. لكن يبدو أن هذا العون لم يأت أبدا.
كان لفروغ ولد وحيد؛ كاميار "كامي كما كانت تدعوه"، أَُخذ منها بعد الطلاق دون رغبة منها، بعدما اتهمت بتعدد علاقاتها العاطفية. لكنها لم تحاول استعادته، لقد وهبت حياتها كلها للفن وضحت بكل شيء من أجل حريتها وقلمها. تقول عنه "أنا مقطوعة الصلة عن حياتي السابقة - عندما أرى كامي في الشارع، حيث يصل طوله اليوم إلى أكتافي، يبدأ بدني بالارتعاش وقلبي بالانفجار، ولكنني لا أريده لا أريده. ما الفائدة من هذه الروابط والعلاقات؟"




مدينتي أنا وأنت يا طفلي
منذ أمد وهي بيت للشيطان
سيأتي يوم وعيناك – بحسرة - ..
ستنزلقان على هذه الأغنية الموجعة
تبحثان عني بين كلماتها
وتقول مع نفسك.. هل كانت أمي هكذا؟

لكنها حملت مشاعر الأمومة بداخلها أينما ذهبت. فهي تهتم بأخيها وترسل له الأموال، وتقدم له نصائح تساعده في حياته الاجتماعية والزوجية، وتخبره برأيها في شعره وتشجعه على الكتابة والبقاء في ألمانيا وعدم العودة لطهران حيث الوسط الأدبي "متعفن ومناخه لا يشجع على النشر والتطور". كما تبنت طفلاً عانى والداه من مرض الجذام، وأخذته يعيش في منزل والديها. وكانت ترسل الرسائل لوالديه بانتظام لتطمئنهما عليه، وأخرجت فيلم "البيت أسود" عن مرضى الجذام ومعاناتهم.


في طيات أشعارها؛ يسير اليأس والحب والتمرد جنبا إلى جنب. وكأن أحدهم هو من يدفعنا نحو الآخر ثم ينفرنا منه، علاقة طردية وعكسية في آن، فتقول في قصيدة "الخصام"


تركت جسدك في هذا العالم
فغايتي ليست جسدك
لو أنني ركضت لأجلك
فقط لأنني أعشق العشق لا الوصال بك
حتى ظلام ليلي الحالك
الحلم بالعشق أجمل من طيفك



وهي واحدة من قصائد قليلة، تمردت فيها على العاشق الذي تناجيه طوال كتابتها السابقة. إنها ترفع راية الخصام وتقولها بوضوح إن العشق هو المعشوق النهائي، أمّا شخص المحبوب؛ فما هو إلا وسيلة تصلها لغايتها. لكنها تعود، في قصائد أخرى وتعلن عن حبها الهائل، لكنه حب خائف أحيانا، ولا يكتمل أبدا. بعد انطلاقها في الحب لحد الابتذال في قصائدها الأولى. تقول في قصيدة "الخوف"


من غصن شجرة العزلة
في سرير العشب الطري
بقيت أنا وشعلة العناق
أخشى من هذا النسيم أن يعانقني
أخشى أن تفوح من جسدي بين الأغراب رائحة العشب الطازج

بدءًا من ديوانها الثالث "العصيان"، يمكننا أن نلمس تجربة شعرية حقيقية قادتها فروغ بحساسية وحيرة وتساؤلات وجودية فريدة، حتى أنها وجهت أسئلتها للإله مباشرة، وضغطت في تساؤلاتها وكأنها تريد إجابة فورية. ربما لهذا رغبت في موت مبكر، لأنها ضاقت من تساؤلات لا تجد لها إجابة هنا، كما رغبت في جسد آخر في زمن آخر. ربما كل هذا الضيق لتستطيع الحياة مرة أخرى وقد نحَّت الحيرة جانبا، وكرَّست وجودها لـ"الوصول". تقول فروغ "لا أعرف ما الوصول، إلا أنه بلا شك هدف يتجه كل وجودي نحوه".
أتمنى أن أنتهي أو استمر هكذا. لا يهمني الصعود أو التقدم. أرغب فقط في النزول، الانحدار مع كل الأشياء التي أحبها، لأحل في كل [شيء] غير قابل للتبدل.
في رسائلها لحبيبها ابراهيم كلستان، كتبت الكثير من هواجسها وأفكارها. كان هو الوحيد الذي لم تضطر إلى الاعتذار إليه عن أي شيء، أو تبرير نفسها له. كانت تطلق يديها وتكتب له دون اكتراث لسمعتها التي تلطخت بأسباب عديدة، وعلى رأسها علاقتها به.
قالت له في أحد الخطابات؛ "عندما كنت عائدة إلى المنزل كما الأطفال اليتامى، كنت أفكر بزهوري.. زهور عباد الشمس. إلى أي حد نَمَت؟ اكتب لي. عندما تتفتح الزهور بادر بالكتابة لي. من مكاني الذي أنام فيه أستطيع أن أرى البحر.. القوارب على سطح الماء ولا أحد يعلم أين نهاية البحر. لو كنت أستطيع أن أكون جزءًا من هذه اللانهاية، لاستطعت أن أكون حيثما شئت.. أتمنى أن أنتهي أو استمر هكذا. لا يهمني الصعود أو التقدم. أرغب فقط في النزول، الانحدار مع كل الأشياء التي أحبها، لأحل في كل غير قابل للتبدل. يبدو لي أن هذا هو المهرب الوحيد من الفناء والتدهور والضياع والاندثار".
تعود أهمية فروغ وشهرتها العالمية لتجاهلها القيم المحافظة في عصرها، وهذا يعني الكثير. لقد كانت امرأة مُطلَّقَة، تكتب شعرًا صريحًا من منظور أنثوي بلا خجل، بجانب عملها السياسي وموقفها المناهض للسلطة، فأصبحت ولا تزال رمزا للثقافة المضادة. وقد كسبت معجبين ومنتقدين على نفس القدر من الحماسة. تقول في قصيدة "سألقي التحية على الشمس".


أخذني إلى بستان الورود الحمراء

وعلق على جدائلي المضطربة ورودا حمراء
وفي النهاية نام معي فوق ورقة من الورد الأحمر
أيها الحمام المشلول
أيتها الاشجار الساذجة اليائسة
أيتها النوافذ العمياء
تحت قلبي وفي أسفل ظهري الآن تنمو وردة حمراء
حمراء
كعلم في يوم المعاد
اه.. أنا حبلى.. حبلي حبلى

يقول المخرج الايراني مهدي جامي "في ثقافة أي بلد؛ هناك رموز ثقافية، مثل شكسبير في بريطانيا. فرخزاد كانت كذلك بالنسبة لإيران المعاصرة، فهي من شكلت الهوية الحديثة للشعر الإيراني. كانت تكتب بطريقة بسيطة وحميمة. لم تكن تتصنع لا في شخصيتها، ولا في شعرها... كانت آخر شخص  يقول الحقيقة في بلادنا".
عاشت فروغ فرخزاد حياة بسيطة، للحد الذي جعلها تسافر أوروبا لأول مرة على متن طائرة بضائع، واستنكرت بشدة كل المظاهر الفارغة التي يتمسك بها البشر بلا قيمة حقيقة. كتبت الشعر وخاضت مختلف المجالات الفنية مثل التمثيل في أفلام ومسرحيات، والإخراج السينمائي والوثائقي. كما كتبت القصة القصيرة وعملت في الإنتاج والاعلانات والدوبلاج. تُرجِمَت أشعارها إلى العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والكردية والنيبالية والروسية والتركية والأردية والأوزبكية. حاولت الانتحار مرتين ودخلت إلى مصحة نفسية للعلاج من الاكتئاب أكثر من مرة. كما اعتقلت مرات عديدة إثر اشتراكها في نشاطات سياسية ديمقراطية.
عندما رحلت كانت مكتملة ومتوازنة بشكل كبير. لم ترحل قبل أوانها، كما يشير البعض، رغم إنها لم تكمل عامها الثالث والثلاثين.
بنظرة سريعة على قصائدها نجدها في الدواوين الأولى "الأسيرة" و"الجدار" كأنها مراهقة في حالة عشق مع الحب ذاته. تتلون حالتها المزاجية ما بين الحب واليأس ولوعة الانتظار. وتنضج المراهِقة وترى الحياة من جوانب أخري، وتدرك قيمة التمرد في ديوان "العصيان"، وتوجه تساؤلاتها وحيرتها للإله ذاته، وترفع راية الثورة وتشفق على كل من عصى وتطلب له الرحمة. وتسير ببطء في رحلة كالفردوس المفقود لميلتون، لتحكي ثنائية الإنسان والشيطان، وتوهتهما في دروب الإله المختلفة.


كيف يمكننا أن نأمر ذلك الذي يذهب الآن

بصبر..
وثقل..
وضياع..
أن يقف
كيف يمكننا أن تقول لذلك الرجل
أنه ليس على قيد الحياة..
وهو لم يكن حيا أبدا

يضم ديوانها الأخير الذي نشر بعد موتها "فلنؤمن بطليعة الموسم البارد" قصائد كأنها كُتبت من العالم الآخر، من تحت التراب، كأنها لم تنس أن تكتب الرسائل التي سترسلها لنا من هناك لتؤكد على رحيلها ووجودها داخل الأرض الطرية وشعورها الدائم بالبرد "كأنها لم تدفأ أبدا". لكنها رغم ذلك لم تتوان عن إلزام الموت بالوقوف، أو على الأقل فكرت في هذا.


أنا بعد موتي

لم أجرؤ يوما على النظر في المرآة
ومت بالقدر الذي لا أستطيع فيه أن أثبت موتي لأحد




جميع النصوص الواردة لفروغ فرخزاد. المصادر:
نصوص نثرية – ت: خليل علي حيدر – دار العين
الأعمال الشعرية الكاملة – ت: مريم العطار – دار المدى

Saturday, June 30, 2018

اليوم المثالي لسمكة الموز

مثل الابن الأكبر لعائلة جلاس، تأثر سالنجر بعمق بتجربته كجندي مقاتل في الحرب العالمية الثانية وطال هذا كتاباته. يقول كينيث سلاوينسكي أن سالنجر اعترف "أن الشاب في سمك الموز لم يكن سيمور بل كان هو نفسه". بعد صدمة معركة الثغرة ومعسكرات الاعتقال النازية وجد سالنجر أن "من المستحيل الاندماج مع مجتمع يتجاهل حقيقة انه الآن يعرف".
اقتبس سالنجر بيت شعر من قصيدة أرض الخراب للشاعر تي إس إليوت في الحوار الذي دار بين سيمور والطفلة سيبيل حين تحدثا عن المنافسة بينها وبين شارون ليبشوتز. قال سيمور "أوه شارون ليبشوتز. كم يعيد هذا الإسم مزج الذكرى بالرغبة". كتب إليوت في المقطع الشعري "دفن الموتى"
أبريل أشد الشهور قسوة
يخرج زهور الليلاك من بطن الأرض الميتة
يمزج الذكرى بالرغبة.

يبدأ مقطع "دفن الموتى" بمقتطفات من رواية الكاتب والسياسي الروماني بترونيوس يقول "رأيت لمرة واحدة بعيني تعلق كيومن سيبيل بوعاء وعندما سألها الأولاد "ماذا تريدين يا سيبيل؟" قالت "أن أموت"
يرجح سلاوينسكي أن اختيار سالنجر لإسم سيبيل للطفلة الصغيرة جاء جليا بين تصور إليوت لكيومن سيبيل في الأسطورة اليونانية وقصة سيمور في سمك الموز.
يحتل الأطفال مكانة بارزة في أعمال سالنجر. وجودهم فارق فنجد مثلا تناقض بين سلوك سيمور العاطفي مع الأطفال وبين سلوكه المتصنع والانعزالي مع البالغين. عقب حديثه الطفولي مع سيبيل "قام سيمور بتصور استنتاجاته الخاصة فيما يتعلق بتكوين البشرية والعالم من حوله".
"اليوم المثالي لسمك الموز" هي قصة قصيرة لجي دي سالنجر. نشرت لأول مرة في 31 يناير 1948 بمجلة ذا نيويوركر كما نشرت في مجلد "55 قصة قصيرة من مجلة النيويوركر" عام 1949 وفي مجموعة سالنجر القصصية "تسع قصص" عام 1953. وهي القصة الأولى من قصص عائلة جلاس التخيلية التي كتب عنهم سالنجر. وعدل سالنجر في القصة عدة مرات بناءا على نصائح من فريق تحرير نيويوركر ووفقا لبول ألكسندر، كاتب سيرة سالنجر، فأن القصة "غيرت مكانته بشكل دائم في المجتمع الأدبي. فتعاونه لتطوير القصة يمثل تقدما في مسيرته وأدى لدخوله إلى مستوى الكتاب النخبة في المجلة". تحولت القصة للعديد من الأفلام القصيرة.                   

اليوم المثالي لسمكة الموز

كانوا 79 صحفي بالفندق قادمون من نيويورك. وبسبب احتكارهم للخطوط التليفونية، اضطرت المرأة بالغرفة 507 الانتظار من الظهيرة حتى الثانية والنصف تقريبا لتتلقى مكالماتها التليفونية. لكنها لم تهدر الوقت واستغلته في قراءة مقال مجلة نسائية بعنوان "الجنس متعة أم جحيم". غسلت مشطها وصففت شعرها. تخلصت من البقعة في تنورة بدلتها البيج. نقلت الأزرار من بلوزتها. نتفت شعرتين نبتا حديثا في شامتها. عندما اتصل العامل بتليفون حجرتها أخيرا، كانت جالسة على كرسي الشرفة وكانت قد انتهت للتو من وضع طلاء أظافر يدها اليسرى.
كانت امرأة لا تكترث كثيرا لجرس الهاتف. كأن الهاتف يرن بشكل متواصل منذ مرحلة بلوغها.
بفرشاة طلاء أظافرها الصغيرة، بينما كان الهاتف يرن، مرت على ظفر أصبعها الصغير وعدلته. أعادت غطاء زجاجة الطلاء ثم وقفت، وحركت يدها اليسرى، الرطبة، للأمام وللوراء في الهواء. وبيدها الأخرى، الجافة، مسكت منفضة السجائر من فوق كرسي الشرفة وحملتها معها إلى الطاولة حيث الهاتف. جلست على واحد من السريرين المتطابقين المنظمين وكان الهاتف قد رن خمس أو ست مرات قبل رفعها للسماعة.
قالت "ألو" وأبقت يدها اليسرى مفرودة وبعيدة عن فستانها الأبيض الحريري، الذي كان كل ما ترتديه، ما عدا خفيها، كانت خواتمها بالحمام.
قال العامل "لك مكالمة من نيويورك مدام جلاس"
قالت المرأة "شكرا لك" وأفسحت مكان فوق الطاولة لمنفضة السجائر.
جاء صوت امرأة "مورييل؟ أهذا أنت؟
أبعدت المرأة الشابة السماعة قليلا عن أذنها وقالت "نعم يا أمي، كيف حال؟"
"لقد قلقت عليك للغاية. لماذا لم تتصلِ؟ هل أنت بخير؟"
"لقد حاولت الوصول إليك بالأمس وأول أمس. الهاتف هنا.."
"هل أنت بخير مورييل؟"
أبعدت المرأة السماعة أكثر عن أذنها وقالت "أنا بخير. أشعر بالحر. اليوم هو الأكثر سخونة في فلوريدا في.."
"لماذا لم تتصل بنا؟ لقد قلقت.."
"أمي، عزيزتي، توقفي عن الصراخ. أستطيع سماعك بوضوح" ثم أكملت حديثها "لقد اتصلت بك مرتين بالأمس. مرة بعد.."
"لقد أخبرت والدك إنك ربما اتصلت بالأمس. لكن، لا، عليه أن.. هل أنت بخير مورييل؟ أخبريني الحقيقة"
"أنا بخير، توقفي عن السؤال من فضلك"
"متى وصلت عندك؟"
"لا أعرف. الرابعة صباحا، مبكرا"
"من الذي قاد؟"
قالت المرأة "هو. لا تنفعلي، لقد قاد السيارة برفق. حتى أني كنت مذهولة"
"هو من قاد السيارة؟ مورييل، لقد وعدتني.."
قاطعتها المرأة "ماما، لقد أخبرتك. قادها برفق. أقل من خمسين طوال الطريق، في الحقيقة"
"هل حاول اللعب مع الأشجار؟"
"سبق أن قلت إنه قاد بهدوء، رفقا من فضلك. كما طلبت منه البقاء بالقرب من الخط الأبيض، وقد فهم ما أعنيه وفعله. يمكنك القول إنه لم يحاول حتى النظر للأشجار. على أي حال، هل أصلح بابا السيارة؟"
"ليس بعد. يريدون أربعمائة دولار فقط ل.."
"ماما، لقد أخبر سيمور أبي إنه سيدفع مقابل تصليحها. لا يوجد سبب ل.."
"حسنا، سنرى. كيف يتصرف؟ في السيارة وفي كل مكان؟"
قالت المرأة "كل شئ تمام"
"هل مازال يناديك ذلك الإسم البشع.."
"لا. لديه شئ جديد الآن"
"ما هو؟"
"اوه، هل سيشكل فارقا يا أمي؟"
"مورييل، أريد أن أعرف. والدك.."
قالت المرأة ضاحكة: "حسنا، حسنا. ينادينِ بملكة جمال ترامب الروحية لعام 1948"
"هذا ليس مضحكا يا مورييل. ليس مضحكا أبدا. إنه رهيب وحزين. في الواقع عندما أفكر كيف.."
قاطعتها المرأة "اسمعيني يا أمي، هل تذكرين الكتاب الذي أرسله لي من ألمانيا؟ تلك القصائد الألمانية. ماذا فعلت به؟ كنت أحاول التذكر.."
"إنه هنا"
قالت المرأة "متأكدة؟"
"بالتأكيد. إنه بحجرة فريدي. لقد تركتيه هنا، ولم يكن لدي مكان له.. لماذا تسألي؟ هل يريده؟"
"لا، لقد سأل فقط عنه، عندما كنا بالسيارة. أرد معرفة إذا كنت قرأته"
"إنه بالألمانية!"
"نعم يا عزيزتي. لن يشكل هذا أي فرق" قالت المرأة واضعة قدم فوق الأخرى "لقد قال أن القصائد كتبها أعظم شاعر في القرن. وقال أن علي شراء الترجمة. أو أتعلم اللغة إذا أردت"
"هذا بشع، بشع وحزين. قال والدك بالأمس.."
قالت المرأة "لحظة واحدة يا أمي" ذهبت لكرسي الشرفة من أجل سجائرها، أشعلت واحدة، ثم عادت لمكانها على السرير. قالت "ماما؟" ثم نفخت الدخان.
"مورييل، اسمعيني"
"أسمعك"
"تحدث أبيك إلى دكتور سيفتسكي"
"و؟"
"لقد أخبره بكل شئ. أو كما أخبرني إنه فعل، لكنك تعرفين والدك. الأشجار. وتلك الأمور المتعلقة بالشرفة. تلك الأشياء الرهيبة التي قالها لجدتك حول خطط الرحيل. ما فعله بكل صور برمودا الجميلة وكل شئ"
"حسنا؟"
"حسنا، أولا قال إنها جريمة كبرى أن الجيش أخلى سبيله من المشفى. هذا مؤكد. كما أكد لوالدك أن هناك فرصة كبيرة، كبيرة للغاية، أن سيمور سيفقد السيطرة على نفسه تماما. هذا مؤكد"
قالت المرأة "هناك طبيب نفسي هنا بالفندق"
"من؟ ما اسمه؟"
"لا أعرف. ريسير أو ما شابه. من المفترض أن يكون طبيب جيد"
"لم أسمع عنه من قبل"
"حسنا، يمكنه أن يكون جيد بالفعل، ما علينا"
"مورييل، لا تكوني ساذجة من فضلك. نحن قلقون عليك بشدة. أراد والدك إرسال برقية لك بالأمس لتعودي للمنزل. لأهمية.."
"لن أعود للمنزل حاليا يا أمي. هوني على نفسك"
"مورييل أؤكد لك أن دكتور سيفتسكي قال أن سيمور قد يفقد السيط.."
"لقد وصلت هنا لتوي يا أمي. وهذه أول اجازة لي منذ سنوات، ولن أحزم كل شئ فقط لأعود للمنزل" قالت المرأة "لن أستيطع السفر الآن على أي حال. لقد لفحتني الشمس وبالكاد أتحرك"
"هل أحرقتك بشدة؟ ألم تستخدمي البرونز الذي وضعته في حقيبتك؟ لقد وضعته.."
"لقد استخدمته، وأحرقتني على أي حال"
"هذا فظيع. أي جزء من جسدك؟"
"كله يا عزيزتي، كله"
"هذا فظيع"
"سأنجو"
"اخبريني، هل تحدثت إلى ذلك الطبيب؟"
قالت المرأة "نوعا ما"
"وماذا قال؟ أين كان سيمور حين تحدثت معه؟"
"في قاعة المحيط، يعزف على البيانو. لقد عزف عليه الليلتين اللذين قضيناهما هنا"
"وما رأيه؟"
"لم يقل الكثير. تحدث معي في البداية. كنت جالسة بجواره أثناء لعب البينجو بالأمس، وسألني إذا كان هذا زوجي الذي يعزف على البيانو بالقاعة الأخرى. أجابته بالإيجاب. ثم سألني إذا كان مريض أو يعاني من أمر ما. لذلك قلت.."
"لماذا سأل هذه الأسئلة؟"
"لا أعرف يا أمي. أعتقد بسبب شحوبه. على أي حال، بعد البينجو سألني وزوجته إذا ما كنت أحب الانضمام إليهم واحتساء مشروب. فذهبت. زوجته مريعة. أتذكرين ذلك الفستان الشنيع الذي رأيناه من شرفة بونويت؟ الذي قلت عنه أنك لابد أن تحصلي على.."
"الأخضر؟"
"كانت ترتديه رغم سمنتها. وظلت تسأل إذا كان سيمور يقرب لسوزان جلاس التي تملك ذلك المكان بجادة ماديسون.. القبعات النسائية"
"وماذا قال؟ الطبيب؟"
"لم يقل الكثير. أقصد أننا كنا بالبار وكان الضجيج لا يحتمل"
"لكن هل اخبريته ما حاول فعله في مقعد جدتك؟"
"لا يا أمي. لم أخوض في التفاصيل. ربما أجد فرصة لأتحدث معه ثانية. إنه يقضي يومه كله بالبار"
"هل ذكر أن هناك فرصة.. كما تعرفين.. أن يصبح غريب الأطوار أو ما شابه؟ أن يؤذيك؟"
"ليس بالظبط. لابد أن يحصل على معلومات أكثر يا أمي. يعرف عن طفولته وكل هذه الأشياء. أخبرتك إننا بالكاد تحدثنا والضجيج كان هائل هناك"
"حسنا، كيف حال معطفك الأزرق؟"
"جميل. أزلت بعض الحشوة منه"
"وما أخبار الموضة هذا العام؟"
"سيئة. يمكن ارتدائها خارج هذا العالم، يمكنك رؤية الترتر وما شابه"
"وكيف هي حجرتك؟"
"تمام، ليست سيئة. لم نجد الحجرة التي مكثنا بها قبل الحرب. الناس مقرفة هذا العام. يجب أن تشاهدي من جلس بجوارنا في قاعة العشاء، بالطاولة المجاورة. بدوا وكأنهم جاءوا في شاحنة لهنا"
"حسنا، إنهم في كل مكان. وما أخبار الباليرنا؟"
"إنها كبيرة للغاية، لقد أخبرتك"
"مورييل، سأسألك مرة ثانية، هل كل شئ على ما يرام؟"
قالت المرأة "نعم يا أمي، للمرة المائة"
"ألا تريدي العودة للمنزل؟"
"لا يا أمي"
"قال والدك الليلة الفائتة أنه ينوي تحمل التكاليف إذا رحلتِ بعيدا لمكان ما وفكرت بالأمر مليا. يمكنك تجربة رحلة بحرية لطيفة. نحن نفكر.."
"لا شكرا يا أمي" قالت المرأة وأرخت قدميها "هذه المكالمة ستكلف.."
"عندما أفكر كيف انتظرتِ ذلك الولد أثناء الحرب.. أقصد حين فكرت في كل هؤلاء الزوجات الصغيرات المجنونات اللاواتي.."
"ماما، علينا إنهاء المكالمة. سيمور قد يأتي في أي لحظة"
"أين هو؟"
"على الشاطئ"
"على الشاطئ؟ بمفرده؟ هل يتصرف بشكل لائق على الشاطئ؟"
"ماما، تتحدثين عنه كأنه مجنون غير واعي.."
"لم أقل شيئا من هذا يا مورييل"
"حسنا، هذا ما ترمين إليه. كل ما عنيته إنه مستلقي. لن يخلع رداء الحمام هناك"
"لن يخلع رداء الحمام؟ ولما لا؟"
"لا أعرف، ربما لأنه شاحب جدا"
"يا إلهي! إنه بحاجة إلى الشمس. ألن تساعديه؟"
قالت الفتاة "أنت تعرفين سيمور" ثم وضعت قدم فوق الأخرى ثانية وأكملت "قال إنه لا يريد أن ينظر لوشمه الكثير من الحمقى"
"ليس لديه أي وشم! هل حصل على واحد بالجيش؟"
"لا يا ماما" وقفت المرأة "اسمعي، ربما أهاتفك غدا"
"مورييل، اسمعينني الآن"
"نعم يا أمي" قالت المرأة متكأة بجسدها كله على قدميها اليمنى.
"كلميني فورا إذا قال أو فعل أي شئ غريب.. تفهمين قصدي. هل سمعتيني؟"
"ماما، لست خائفة من سيمور"
"مورييل، أوعديني"
"حسنا، أوعدك. مع السلامة يا ماما. أرسلي قبلاتي لأبي"
وأغلقت السماعة.

"أرى المزيد من الزجاج" قالت سيبيل كاربينتر، التي تقيم مع والدتها بالفندق "هل تري المزيد من الزجاج؟"
"حلوتي، توقف عن قول هذا. إنه يقود أمك للجنون، واثبتي من فضلك"
تضع مدام كاربنتر زيت الحماية من الشمس فوق أكتاف سيبيل، وتدهنه فوق جناحي ظهرها الرقيقين. كانت سيبيل تجلس بغير ثبات على كرة شاطئ ضخمة منفوخة ووجها للمحيط. مرتدية لباس بحر أصفر كناري من قطعتين، إحداهما لن تحتاج إليها قبل 9 أو 10 سنوات أخرى.
قالت السيدة المسترخية على الكرسي الطويل بجوار السيدة كاربنتر: "لقد كان مجرد منديل حريري عادي، يمكنك رؤيته حين تقتربين. أتمنى معرفة كيف عقدته هكذا. لقد كان بالفعل جميل"
"كان حقا جميل" قالت السيدة كاربنتر "كفي عن الحركة يا قطتي من فضلك"
سألت سيبيل: "هل تري المزيد من الزجاج؟"
تنهدت السيدة كاربنتر وقالت: "حسنا". أعادت الغطاء لزجاجة زيت الحماية من الشمس. "الآن اذهبي لتلعبي يا حلوتي. ماما ستصعد الفندق لتشرب المارتيني مع السيد هوبل. سأحتفظ لك بالزيتون"
انطلقت سيبيل تجري نحو الجزء المسطح من الشاطئ ثم اتجهت لبيت الصياد الصغير. توقفت فحسب لتغوص بقدميها في القلعة الرملية الرطبة المهدمة ثم انطلقت ثانية لتكون خارج المساحة المخصصة لنزلاء الفندق.
سارت أمتار كثيرة ثم فجأة ركضت على الرمال المبللة. ووقفت عندما وصلت لمكان الرجل المستلقي على ظهره.
قالت: "ألن تذهب للماء لترى بعض الزجاج؟"
رجف الشاب، واتجهت يده اليمنى لصدر رداء الحمام. استدار ليستلقى على بطنه، وسقطت الفوطة الملفوفة من فوق عينيه، ونظر شذرا لسيبيل.
"أهلا سيبيل"
"ألن تنزل الماء؟"
"كنت بانتظارك" قال الشاب "ما الأخبار؟"
"ماذا؟" قالت سبيل
"ما أخبارك؟ ما الجديد لديك؟"
"سيأتي أبي غدا على متن الطائرة" قالت سيبيل وهي تركل الرمال، فقال الشاب: "لا تركلي الرمل في عيني يا صغيرتي" ووضع يده على كاحلها. "حسنا، لقد اقترب موعد وصوله، لقد انتظرته طويلا"
سألت سيبيل "أين السيدة؟"
"السيدة؟" نفض الشاب الرمال من خصلات شعره الرفيعة "صعب التحديد يا سيبل. قد تكون في أي مكان من ألف مكان. في الكوافير مثلا لتصبغ شعرها بدرجات البيج. أو بحجرتها تصنع العرائس لأطفال الفقراء" مازال مستلقيا لكنه وضع قبضة يديه فوق بعضهما وأسند ذقنه عليهما. وقال "حدثيني عن شئ اخر يا سيبيل. إنك ترتدي مايوه جميل، لو كان هناك شئ أحبه سيكون المايوه الأزرق"
حدقت سيبيل به ثم نظرت لبطنها العارية ثم قالت "إنه أصفر، أصفر"
"حقا! اقتربي هكذا" خطت سيبيل خطوة نحوه "أنت بالفعل على حق، كم أنا غبي"
"ألن تنزل الماء؟" قالت سيبيل
"أنا أفكر في الأمر مليا وأعطيه وقته يا سيبيل. ستسعدي بمعرفة ذلك"
همزت سيبيل العوامة المطاطية التي يستخدمها الشاب أحيانا كوسادة لرأسه وقالت "يجب أن ننفخها"
"أنت على حق. إنها تحتاج لهواء كثير أكثر مما وضعته بها". أبعد قبضتيه وترك ذقنه يستريح فوق الرمال. "سيبيل" قال الشاب "يبدو إنك بخير وأنا سعيد برؤيتك. حدثيني عن نفسك" مد يديه وأمسك بكاحلي الفتاة ثم قال "أنا من مواليد برج الجدي، وأنت؟"
"قالت شارون ليبشوتز إنك تدعها تجلس إلى البيانو بجانبك" قالت سيبيل
"أقالت شارون ليبشوتز ذلك؟"
أومأت سيبيل بحيوية.
أفلت كاحليها، وأعاد يديه بجانب رأسه ثم أسند خده على ذراعه اليمنى "حسنا، أنت تعرفين كيف تحدث هذه الأشياء يا سيبيل، كنت جالسا هناك أعزف. لم تكون أنت هناك. ثم جاءت شارون ليبشوتز وجلست بجانبي. فلم أستطع صدها، أليس كذلك؟"
"بل كنت تستطيع!"
"أوه، لا، لم أستطع" قال الشاب "لكني سأخبرك بما فعلته"
"ماذا فعلت؟"
"تظاهرت إنها أنت"
انحنت سيبيل فورا وبدأت الحفر في الرمال وقالت "دعنا ننزل الماء".
"حسنا" قال الشاب "أعتقد إني أستطيع فعل ذلك"
"في المرة المقبلة صدها بعيدا عنك" قالت سيبيل
"من هي؟" قال الشاب
قالت سيبيل "شارون ليبشوتز"
"أوه شارون ليبشوتز" قال الشاب "كم يعيد هذا الإسم مزج الذكرى بالرغبة" قفز على قدميه ونظر للمحيط "سيبيل" قال الشاب "سأخبرك بما سنفعله اليوم. سنرى إذا كان بوسعنا صيد سمك الموز"
"سمك ماذا؟"
"سمك الموز" قال الشاب وفك رباط رداء الحمام ثم خلعه. كان كتفاه أبيضين ضيقين وعروقه زرقاء ملكية. طوى ردائه مرة بالطول ثم ثلاث. ثم فرد الفوطة التي كان يضعها فوق عينيه على الرمال ووضع الرداء فوقها. ثم أخذ العوامة وثبتها تحت ذراعه الأيمن، وأمسك يد سيبيل بيده اليسرى وانطلقا للمحيط.
"اعتقد إنك لم تر حتى القليل من سمك الموز" قال الشاب
هزت سيبيل رأسها
"أليس كذلك؟ أين تعيشي بالمناسبة؟"
"لا أعرف" قالت سيبيل
"بالتأكيد تعرفين. لابد أن تعرفي. شارون ليبشوتز تعرف أين تعيش وهي ثلاث سنوات ونصف فحسب"
توقفت سيبيل عن السير وانتزعت يدها من يده. التقطت صدفة بحر عادية ونظرت لها كأنها تدرسها ثم ألقت بها. وقالت "ويرلي وود، كونيتيكت" وسارت وبطنها للأمام.
-         ويرلي وود، كونيتيكت
ردد الشاب كلامها
-         أصدفة أن هذا المكان بجوار ويرلي وود، كونيتيكت؟
نظرت سيبيل له وقالت
-         أنا أعيش هناك
قالتها بنفاذ صبر "أنا أعيش في ويرلي وود، كونيتيكت"
ركضت خطوات قليلة أمامه، وأمسكت قدمها اليسرى بيدها اليسرى وقفزت مرتان ثلاث.
قال الشاب
-         ليس لديك فكرة كيف اتضحت الأمور الآن
تركت سيبيبل قدمها وقالت
-         هل قرأت (سامبو الأسود الصغير)؟
-         لطيف أن تسألي ذلك السؤال. لقد انتهيت من قرأته بالأمس.
انحنى قليلا وأمسك بيد سيبيل وسألها
-         ما رأيك به؟
-         هل جرت النمور حول تلك الشجرة؟
-         اعتقد إنهم لم يتوقفوا أبدا. لم أر هذا العدد من النمور من قبل
قالت سيبيل
-         لقد كانوا ستة فقط
قال الشاب
-         ستة فقط؟ أتسمين هذا فقط؟
-         هل تحب الشمع؟
-         نعم؟
-         الشمع
-         أحبه كثيرا، وأنت؟
أومأت برأسها وقالت
-         هل تحب الزيتون؟
-         الزيتون.. نعم. الزيتون والشمع. لا أذهب لأي مكان بدونهما
-         هل تحب شارون ليبشوتز
-         نعم أحبها. خصيصا إنها لا تضايق الكلاب بردهة الفندق. إنها لا تضايق ذلك البلدغ الذي بصحبة السيدة الكندية. لن تصدقيني، لكن بعض الفتيات الصغيرات تحب نغز ذلك الكلب الصغير بعصى البالونات. لكن شارون لا تفعل ذلك. إنها ليست مزعجة أو قاسية. لذلك أحبها كثيرا
كانت سيبيل صامتة ثم قالت أخيرا
-         أحب مضغ الشمع
-         من لا يحب ذلك؟
بلل قدميه وقال
-         واو! أنها باردة
وضع العوامة المطاط على ظهرها بالماء
-         انتظري دقيقة يا سيبيل، انتظري حتى نبتعد قليلا.
خاضا بالماء حتى وصلت لخصر سيبيل. رفعها الشاب ومددها على بطنها فوق العوامة.
-         ألا ترتدي قبعة أو أي شئ
-         لا تفلتني، أمسكني الآن
قالت سيبيل بلهجة آمرة
-         آنسة كاربنتر، أرجوك، أنا أعرف ما أفعله جيدا. كل ما عليك فعله هو فتح عينيك جيدا لرؤية سمك الموز. إنه يوم مثالي لسمكة الموز
-         لا أرى أيا منهم
-         مفهوم. ذلك السمك لديه عادات غريبة
استمر في دفع العوامة حتى وصل الماء لصدره وقال
-         أنهم يحيوا حياة مأساوية جدا، أتعرفين ماذا يفعلوا يا سيبيل؟
هزت رأسها نفيا
-         حسنا، إنها تدخل في حفرة حيث الكثير من الموز. يكونوا مجرد أسماكا حين يدخولنها. لكن بمجرد الدخول، يبدأوا في التصرف مثل الخنازير. لماذا! أعرف سمك موز سبح داخل حفرة موز والتهم ثمان وسبعين موزة.
تقدم ببطء بالعوامة وسيبيل نحو الأفق وأكمل حديثه
-         طبعا بعد كل هذا الكم، يصبح السمك سمينا للغاية ولا يستطع الخروج من الحفرة، لا تسعه فتحتها.
-         لا تدفعني أبعد من ذلك. ثم ماذا يحدث لهم؟
-         ماذا يحدث لمن؟
-         سمك الموز
-         أتعنين بعد أن تأكل كل هذا الموز ولا تستطيع الخروج من الحفرة؟
-         نعم
-         أكره أن أخبرك يا سيبيل بذلك، أنها تموت
-         لماذا؟
-         حسنا، إنها تصاب بحمى الموز، إنه مرض خطير
قالت سيبيل منفعلة "انتبه، إنها موجة"
-         سنتجاهلها، سنصدها.. نحن متعجرفان
أمسك بكحلي سيبيل بيديه وضغطهما لأسفل وللأمام في نفس الوقت. حلقت العوامة على سطح الموجة. وغمر الماء شعر سيبيل الأشقر لكن صرختها كانت مليئة بالسعادة.
عندما استقرت العوامة على الماء ثانية، رفعت بيدها خصلة من شعرها المبلل من فوق عينيها وقالت "لقد رأيت واحدة"
-         ماذا رأيت يا حلوتي؟
-         سمكة موز
-         يا إلهي! حقا؟ هل كان هناك موز بفمها؟
-         نعم، ستة
التقط الشاب فجأة أحد كاحلي سيبيل المبللان، المتدليان بنهاية العوامة، وقبل قوسه.
التفت صاحبة الكاحل وصاحت "هيه!"
"هيه أنتِ، سنعود للشاطئ، هل اكتفيت؟"
"لا"
قال "آسف" ودفع العوامة تجاه الشاطئ حتى نزلت سيبيل من فوقها. ثم حمل العوامة بقيت الطريق.
قالت سيبيل "وداعا" وجرت نحو الفندق، غير آسفة، دون توقف. ارتدى الشاب رداءه ثانية، وربط حزامه وحشر الفوطة بجيبه. ثم رفع العوامة الرطبة الثقيلة وتأبطها. وسار بخطوات متثاقلة وحيدا على الرمال الرخوة والساخنة تجاه الفندق.
بالباب الجانبي بالفندق، المخصص لدخول المستحمين، كانت امرأة تضع دهانا على أنفها دخلت المصعد مع الشاب.
قال الشاب بينما المصعد يتحرك "أرى انك تنظري لقدمي"
قالت المرأة "معذرة؟"
"قلت أني رأيتك تنظرين لقدمي"
"عفوا، لقد كنت انظر للأرض" قالت المرأة ووجها نحو باب المصعد.
قال الشاب "إذا كنتِ تريدين النظر لقدمي قولي هذا لكن كفي عن النظر خلسة هكذا"
قالت المرأة لعاملة المصعد بسرعة "انزليني هنا من فضلك". فَتح باب المصعد وخرجت المرأة دون النظر خلفها. قال الشاب "لدي أقدام سليمة، لا أفهم لماذا يحدق الجميع بها هكذا" سحب مفتاح حجرته من جيبه وقال "الدور الخامس من فضلك"
خرج من المصعد بالدور الخامس ومشى باتجاه الردهة ثم دلف لحجرة رقم 507. كانت الحجرة معبقة برائحة جلود العجول الذي صنعت منه الحقائب ورائحة مزيل طلاء الأظافر.
لمح المرأة النائمة على أحد السريرين. ثم اتجه لأحد الحقائب وفتحها. سحب من أسفل مجموعة من السراويل القصيرة واللباس الداخلي مسدس أورتيجز أوتوماتيكي من عيار 7.65. فك مخزنه ونظر بداخله ثم ثبته بموضعه مرة أخرى. جهز المسدس. ثم جلس فوق السرير الشاغر، نظر للمرأة النائمة، وجه المسدس، وأطلق الرصاصة تجاه صدغه الأيمن.


 نُشر في إبداع ديسمبر 2017