Saturday, June 30, 2018

اليوم المثالي لسمكة الموز

مثل الابن الأكبر لعائلة جلاس، تأثر سالنجر بعمق بتجربته كجندي مقاتل في الحرب العالمية الثانية وطال هذا كتاباته. يقول كينيث سلاوينسكي أن سالنجر اعترف "أن الشاب في سمك الموز لم يكن سيمور بل كان هو نفسه". بعد صدمة معركة الثغرة ومعسكرات الاعتقال النازية وجد سالنجر أن "من المستحيل الاندماج مع مجتمع يتجاهل حقيقة انه الآن يعرف".
اقتبس سالنجر بيت شعر من قصيدة أرض الخراب للشاعر تي إس إليوت في الحوار الذي دار بين سيمور والطفلة سيبيل حين تحدثا عن المنافسة بينها وبين شارون ليبشوتز. قال سيمور "أوه شارون ليبشوتز. كم يعيد هذا الإسم مزج الذكرى بالرغبة". كتب إليوت في المقطع الشعري "دفن الموتى"
أبريل أشد الشهور قسوة
يخرج زهور الليلاك من بطن الأرض الميتة
يمزج الذكرى بالرغبة.

يبدأ مقطع "دفن الموتى" بمقتطفات من رواية الكاتب والسياسي الروماني بترونيوس يقول "رأيت لمرة واحدة بعيني تعلق كيومن سيبيل بوعاء وعندما سألها الأولاد "ماذا تريدين يا سيبيل؟" قالت "أن أموت"
يرجح سلاوينسكي أن اختيار سالنجر لإسم سيبيل للطفلة الصغيرة جاء جليا بين تصور إليوت لكيومن سيبيل في الأسطورة اليونانية وقصة سيمور في سمك الموز.
يحتل الأطفال مكانة بارزة في أعمال سالنجر. وجودهم فارق فنجد مثلا تناقض بين سلوك سيمور العاطفي مع الأطفال وبين سلوكه المتصنع والانعزالي مع البالغين. عقب حديثه الطفولي مع سيبيل "قام سيمور بتصور استنتاجاته الخاصة فيما يتعلق بتكوين البشرية والعالم من حوله".
"اليوم المثالي لسمك الموز" هي قصة قصيرة لجي دي سالنجر. نشرت لأول مرة في 31 يناير 1948 بمجلة ذا نيويوركر كما نشرت في مجلد "55 قصة قصيرة من مجلة النيويوركر" عام 1949 وفي مجموعة سالنجر القصصية "تسع قصص" عام 1953. وهي القصة الأولى من قصص عائلة جلاس التخيلية التي كتب عنهم سالنجر. وعدل سالنجر في القصة عدة مرات بناءا على نصائح من فريق تحرير نيويوركر ووفقا لبول ألكسندر، كاتب سيرة سالنجر، فأن القصة "غيرت مكانته بشكل دائم في المجتمع الأدبي. فتعاونه لتطوير القصة يمثل تقدما في مسيرته وأدى لدخوله إلى مستوى الكتاب النخبة في المجلة". تحولت القصة للعديد من الأفلام القصيرة.                   

اليوم المثالي لسمكة الموز

كانوا 79 صحفي بالفندق قادمون من نيويورك. وبسبب احتكارهم للخطوط التليفونية، اضطرت المرأة بالغرفة 507 الانتظار من الظهيرة حتى الثانية والنصف تقريبا لتتلقى مكالماتها التليفونية. لكنها لم تهدر الوقت واستغلته في قراءة مقال مجلة نسائية بعنوان "الجنس متعة أم جحيم". غسلت مشطها وصففت شعرها. تخلصت من البقعة في تنورة بدلتها البيج. نقلت الأزرار من بلوزتها. نتفت شعرتين نبتا حديثا في شامتها. عندما اتصل العامل بتليفون حجرتها أخيرا، كانت جالسة على كرسي الشرفة وكانت قد انتهت للتو من وضع طلاء أظافر يدها اليسرى.
كانت امرأة لا تكترث كثيرا لجرس الهاتف. كأن الهاتف يرن بشكل متواصل منذ مرحلة بلوغها.
بفرشاة طلاء أظافرها الصغيرة، بينما كان الهاتف يرن، مرت على ظفر أصبعها الصغير وعدلته. أعادت غطاء زجاجة الطلاء ثم وقفت، وحركت يدها اليسرى، الرطبة، للأمام وللوراء في الهواء. وبيدها الأخرى، الجافة، مسكت منفضة السجائر من فوق كرسي الشرفة وحملتها معها إلى الطاولة حيث الهاتف. جلست على واحد من السريرين المتطابقين المنظمين وكان الهاتف قد رن خمس أو ست مرات قبل رفعها للسماعة.
قالت "ألو" وأبقت يدها اليسرى مفرودة وبعيدة عن فستانها الأبيض الحريري، الذي كان كل ما ترتديه، ما عدا خفيها، كانت خواتمها بالحمام.
قال العامل "لك مكالمة من نيويورك مدام جلاس"
قالت المرأة "شكرا لك" وأفسحت مكان فوق الطاولة لمنفضة السجائر.
جاء صوت امرأة "مورييل؟ أهذا أنت؟
أبعدت المرأة الشابة السماعة قليلا عن أذنها وقالت "نعم يا أمي، كيف حال؟"
"لقد قلقت عليك للغاية. لماذا لم تتصلِ؟ هل أنت بخير؟"
"لقد حاولت الوصول إليك بالأمس وأول أمس. الهاتف هنا.."
"هل أنت بخير مورييل؟"
أبعدت المرأة السماعة أكثر عن أذنها وقالت "أنا بخير. أشعر بالحر. اليوم هو الأكثر سخونة في فلوريدا في.."
"لماذا لم تتصل بنا؟ لقد قلقت.."
"أمي، عزيزتي، توقفي عن الصراخ. أستطيع سماعك بوضوح" ثم أكملت حديثها "لقد اتصلت بك مرتين بالأمس. مرة بعد.."
"لقد أخبرت والدك إنك ربما اتصلت بالأمس. لكن، لا، عليه أن.. هل أنت بخير مورييل؟ أخبريني الحقيقة"
"أنا بخير، توقفي عن السؤال من فضلك"
"متى وصلت عندك؟"
"لا أعرف. الرابعة صباحا، مبكرا"
"من الذي قاد؟"
قالت المرأة "هو. لا تنفعلي، لقد قاد السيارة برفق. حتى أني كنت مذهولة"
"هو من قاد السيارة؟ مورييل، لقد وعدتني.."
قاطعتها المرأة "ماما، لقد أخبرتك. قادها برفق. أقل من خمسين طوال الطريق، في الحقيقة"
"هل حاول اللعب مع الأشجار؟"
"سبق أن قلت إنه قاد بهدوء، رفقا من فضلك. كما طلبت منه البقاء بالقرب من الخط الأبيض، وقد فهم ما أعنيه وفعله. يمكنك القول إنه لم يحاول حتى النظر للأشجار. على أي حال، هل أصلح بابا السيارة؟"
"ليس بعد. يريدون أربعمائة دولار فقط ل.."
"ماما، لقد أخبر سيمور أبي إنه سيدفع مقابل تصليحها. لا يوجد سبب ل.."
"حسنا، سنرى. كيف يتصرف؟ في السيارة وفي كل مكان؟"
قالت المرأة "كل شئ تمام"
"هل مازال يناديك ذلك الإسم البشع.."
"لا. لديه شئ جديد الآن"
"ما هو؟"
"اوه، هل سيشكل فارقا يا أمي؟"
"مورييل، أريد أن أعرف. والدك.."
قالت المرأة ضاحكة: "حسنا، حسنا. ينادينِ بملكة جمال ترامب الروحية لعام 1948"
"هذا ليس مضحكا يا مورييل. ليس مضحكا أبدا. إنه رهيب وحزين. في الواقع عندما أفكر كيف.."
قاطعتها المرأة "اسمعيني يا أمي، هل تذكرين الكتاب الذي أرسله لي من ألمانيا؟ تلك القصائد الألمانية. ماذا فعلت به؟ كنت أحاول التذكر.."
"إنه هنا"
قالت المرأة "متأكدة؟"
"بالتأكيد. إنه بحجرة فريدي. لقد تركتيه هنا، ولم يكن لدي مكان له.. لماذا تسألي؟ هل يريده؟"
"لا، لقد سأل فقط عنه، عندما كنا بالسيارة. أرد معرفة إذا كنت قرأته"
"إنه بالألمانية!"
"نعم يا عزيزتي. لن يشكل هذا أي فرق" قالت المرأة واضعة قدم فوق الأخرى "لقد قال أن القصائد كتبها أعظم شاعر في القرن. وقال أن علي شراء الترجمة. أو أتعلم اللغة إذا أردت"
"هذا بشع، بشع وحزين. قال والدك بالأمس.."
قالت المرأة "لحظة واحدة يا أمي" ذهبت لكرسي الشرفة من أجل سجائرها، أشعلت واحدة، ثم عادت لمكانها على السرير. قالت "ماما؟" ثم نفخت الدخان.
"مورييل، اسمعيني"
"أسمعك"
"تحدث أبيك إلى دكتور سيفتسكي"
"و؟"
"لقد أخبره بكل شئ. أو كما أخبرني إنه فعل، لكنك تعرفين والدك. الأشجار. وتلك الأمور المتعلقة بالشرفة. تلك الأشياء الرهيبة التي قالها لجدتك حول خطط الرحيل. ما فعله بكل صور برمودا الجميلة وكل شئ"
"حسنا؟"
"حسنا، أولا قال إنها جريمة كبرى أن الجيش أخلى سبيله من المشفى. هذا مؤكد. كما أكد لوالدك أن هناك فرصة كبيرة، كبيرة للغاية، أن سيمور سيفقد السيطرة على نفسه تماما. هذا مؤكد"
قالت المرأة "هناك طبيب نفسي هنا بالفندق"
"من؟ ما اسمه؟"
"لا أعرف. ريسير أو ما شابه. من المفترض أن يكون طبيب جيد"
"لم أسمع عنه من قبل"
"حسنا، يمكنه أن يكون جيد بالفعل، ما علينا"
"مورييل، لا تكوني ساذجة من فضلك. نحن قلقون عليك بشدة. أراد والدك إرسال برقية لك بالأمس لتعودي للمنزل. لأهمية.."
"لن أعود للمنزل حاليا يا أمي. هوني على نفسك"
"مورييل أؤكد لك أن دكتور سيفتسكي قال أن سيمور قد يفقد السيط.."
"لقد وصلت هنا لتوي يا أمي. وهذه أول اجازة لي منذ سنوات، ولن أحزم كل شئ فقط لأعود للمنزل" قالت المرأة "لن أستيطع السفر الآن على أي حال. لقد لفحتني الشمس وبالكاد أتحرك"
"هل أحرقتك بشدة؟ ألم تستخدمي البرونز الذي وضعته في حقيبتك؟ لقد وضعته.."
"لقد استخدمته، وأحرقتني على أي حال"
"هذا فظيع. أي جزء من جسدك؟"
"كله يا عزيزتي، كله"
"هذا فظيع"
"سأنجو"
"اخبريني، هل تحدثت إلى ذلك الطبيب؟"
قالت المرأة "نوعا ما"
"وماذا قال؟ أين كان سيمور حين تحدثت معه؟"
"في قاعة المحيط، يعزف على البيانو. لقد عزف عليه الليلتين اللذين قضيناهما هنا"
"وما رأيه؟"
"لم يقل الكثير. تحدث معي في البداية. كنت جالسة بجواره أثناء لعب البينجو بالأمس، وسألني إذا كان هذا زوجي الذي يعزف على البيانو بالقاعة الأخرى. أجابته بالإيجاب. ثم سألني إذا كان مريض أو يعاني من أمر ما. لذلك قلت.."
"لماذا سأل هذه الأسئلة؟"
"لا أعرف يا أمي. أعتقد بسبب شحوبه. على أي حال، بعد البينجو سألني وزوجته إذا ما كنت أحب الانضمام إليهم واحتساء مشروب. فذهبت. زوجته مريعة. أتذكرين ذلك الفستان الشنيع الذي رأيناه من شرفة بونويت؟ الذي قلت عنه أنك لابد أن تحصلي على.."
"الأخضر؟"
"كانت ترتديه رغم سمنتها. وظلت تسأل إذا كان سيمور يقرب لسوزان جلاس التي تملك ذلك المكان بجادة ماديسون.. القبعات النسائية"
"وماذا قال؟ الطبيب؟"
"لم يقل الكثير. أقصد أننا كنا بالبار وكان الضجيج لا يحتمل"
"لكن هل اخبريته ما حاول فعله في مقعد جدتك؟"
"لا يا أمي. لم أخوض في التفاصيل. ربما أجد فرصة لأتحدث معه ثانية. إنه يقضي يومه كله بالبار"
"هل ذكر أن هناك فرصة.. كما تعرفين.. أن يصبح غريب الأطوار أو ما شابه؟ أن يؤذيك؟"
"ليس بالظبط. لابد أن يحصل على معلومات أكثر يا أمي. يعرف عن طفولته وكل هذه الأشياء. أخبرتك إننا بالكاد تحدثنا والضجيج كان هائل هناك"
"حسنا، كيف حال معطفك الأزرق؟"
"جميل. أزلت بعض الحشوة منه"
"وما أخبار الموضة هذا العام؟"
"سيئة. يمكن ارتدائها خارج هذا العالم، يمكنك رؤية الترتر وما شابه"
"وكيف هي حجرتك؟"
"تمام، ليست سيئة. لم نجد الحجرة التي مكثنا بها قبل الحرب. الناس مقرفة هذا العام. يجب أن تشاهدي من جلس بجوارنا في قاعة العشاء، بالطاولة المجاورة. بدوا وكأنهم جاءوا في شاحنة لهنا"
"حسنا، إنهم في كل مكان. وما أخبار الباليرنا؟"
"إنها كبيرة للغاية، لقد أخبرتك"
"مورييل، سأسألك مرة ثانية، هل كل شئ على ما يرام؟"
قالت المرأة "نعم يا أمي، للمرة المائة"
"ألا تريدي العودة للمنزل؟"
"لا يا أمي"
"قال والدك الليلة الفائتة أنه ينوي تحمل التكاليف إذا رحلتِ بعيدا لمكان ما وفكرت بالأمر مليا. يمكنك تجربة رحلة بحرية لطيفة. نحن نفكر.."
"لا شكرا يا أمي" قالت المرأة وأرخت قدميها "هذه المكالمة ستكلف.."
"عندما أفكر كيف انتظرتِ ذلك الولد أثناء الحرب.. أقصد حين فكرت في كل هؤلاء الزوجات الصغيرات المجنونات اللاواتي.."
"ماما، علينا إنهاء المكالمة. سيمور قد يأتي في أي لحظة"
"أين هو؟"
"على الشاطئ"
"على الشاطئ؟ بمفرده؟ هل يتصرف بشكل لائق على الشاطئ؟"
"ماما، تتحدثين عنه كأنه مجنون غير واعي.."
"لم أقل شيئا من هذا يا مورييل"
"حسنا، هذا ما ترمين إليه. كل ما عنيته إنه مستلقي. لن يخلع رداء الحمام هناك"
"لن يخلع رداء الحمام؟ ولما لا؟"
"لا أعرف، ربما لأنه شاحب جدا"
"يا إلهي! إنه بحاجة إلى الشمس. ألن تساعديه؟"
قالت الفتاة "أنت تعرفين سيمور" ثم وضعت قدم فوق الأخرى ثانية وأكملت "قال إنه لا يريد أن ينظر لوشمه الكثير من الحمقى"
"ليس لديه أي وشم! هل حصل على واحد بالجيش؟"
"لا يا ماما" وقفت المرأة "اسمعي، ربما أهاتفك غدا"
"مورييل، اسمعينني الآن"
"نعم يا أمي" قالت المرأة متكأة بجسدها كله على قدميها اليمنى.
"كلميني فورا إذا قال أو فعل أي شئ غريب.. تفهمين قصدي. هل سمعتيني؟"
"ماما، لست خائفة من سيمور"
"مورييل، أوعديني"
"حسنا، أوعدك. مع السلامة يا ماما. أرسلي قبلاتي لأبي"
وأغلقت السماعة.

"أرى المزيد من الزجاج" قالت سيبيل كاربينتر، التي تقيم مع والدتها بالفندق "هل تري المزيد من الزجاج؟"
"حلوتي، توقف عن قول هذا. إنه يقود أمك للجنون، واثبتي من فضلك"
تضع مدام كاربنتر زيت الحماية من الشمس فوق أكتاف سيبيل، وتدهنه فوق جناحي ظهرها الرقيقين. كانت سيبيل تجلس بغير ثبات على كرة شاطئ ضخمة منفوخة ووجها للمحيط. مرتدية لباس بحر أصفر كناري من قطعتين، إحداهما لن تحتاج إليها قبل 9 أو 10 سنوات أخرى.
قالت السيدة المسترخية على الكرسي الطويل بجوار السيدة كاربنتر: "لقد كان مجرد منديل حريري عادي، يمكنك رؤيته حين تقتربين. أتمنى معرفة كيف عقدته هكذا. لقد كان بالفعل جميل"
"كان حقا جميل" قالت السيدة كاربنتر "كفي عن الحركة يا قطتي من فضلك"
سألت سيبيل: "هل تري المزيد من الزجاج؟"
تنهدت السيدة كاربنتر وقالت: "حسنا". أعادت الغطاء لزجاجة زيت الحماية من الشمس. "الآن اذهبي لتلعبي يا حلوتي. ماما ستصعد الفندق لتشرب المارتيني مع السيد هوبل. سأحتفظ لك بالزيتون"
انطلقت سيبيل تجري نحو الجزء المسطح من الشاطئ ثم اتجهت لبيت الصياد الصغير. توقفت فحسب لتغوص بقدميها في القلعة الرملية الرطبة المهدمة ثم انطلقت ثانية لتكون خارج المساحة المخصصة لنزلاء الفندق.
سارت أمتار كثيرة ثم فجأة ركضت على الرمال المبللة. ووقفت عندما وصلت لمكان الرجل المستلقي على ظهره.
قالت: "ألن تذهب للماء لترى بعض الزجاج؟"
رجف الشاب، واتجهت يده اليمنى لصدر رداء الحمام. استدار ليستلقى على بطنه، وسقطت الفوطة الملفوفة من فوق عينيه، ونظر شذرا لسيبيل.
"أهلا سيبيل"
"ألن تنزل الماء؟"
"كنت بانتظارك" قال الشاب "ما الأخبار؟"
"ماذا؟" قالت سبيل
"ما أخبارك؟ ما الجديد لديك؟"
"سيأتي أبي غدا على متن الطائرة" قالت سيبيل وهي تركل الرمال، فقال الشاب: "لا تركلي الرمل في عيني يا صغيرتي" ووضع يده على كاحلها. "حسنا، لقد اقترب موعد وصوله، لقد انتظرته طويلا"
سألت سيبيل "أين السيدة؟"
"السيدة؟" نفض الشاب الرمال من خصلات شعره الرفيعة "صعب التحديد يا سيبل. قد تكون في أي مكان من ألف مكان. في الكوافير مثلا لتصبغ شعرها بدرجات البيج. أو بحجرتها تصنع العرائس لأطفال الفقراء" مازال مستلقيا لكنه وضع قبضة يديه فوق بعضهما وأسند ذقنه عليهما. وقال "حدثيني عن شئ اخر يا سيبيل. إنك ترتدي مايوه جميل، لو كان هناك شئ أحبه سيكون المايوه الأزرق"
حدقت سيبيل به ثم نظرت لبطنها العارية ثم قالت "إنه أصفر، أصفر"
"حقا! اقتربي هكذا" خطت سيبيل خطوة نحوه "أنت بالفعل على حق، كم أنا غبي"
"ألن تنزل الماء؟" قالت سيبيل
"أنا أفكر في الأمر مليا وأعطيه وقته يا سيبيل. ستسعدي بمعرفة ذلك"
همزت سيبيل العوامة المطاطية التي يستخدمها الشاب أحيانا كوسادة لرأسه وقالت "يجب أن ننفخها"
"أنت على حق. إنها تحتاج لهواء كثير أكثر مما وضعته بها". أبعد قبضتيه وترك ذقنه يستريح فوق الرمال. "سيبيل" قال الشاب "يبدو إنك بخير وأنا سعيد برؤيتك. حدثيني عن نفسك" مد يديه وأمسك بكاحلي الفتاة ثم قال "أنا من مواليد برج الجدي، وأنت؟"
"قالت شارون ليبشوتز إنك تدعها تجلس إلى البيانو بجانبك" قالت سيبيل
"أقالت شارون ليبشوتز ذلك؟"
أومأت سيبيل بحيوية.
أفلت كاحليها، وأعاد يديه بجانب رأسه ثم أسند خده على ذراعه اليمنى "حسنا، أنت تعرفين كيف تحدث هذه الأشياء يا سيبيل، كنت جالسا هناك أعزف. لم تكون أنت هناك. ثم جاءت شارون ليبشوتز وجلست بجانبي. فلم أستطع صدها، أليس كذلك؟"
"بل كنت تستطيع!"
"أوه، لا، لم أستطع" قال الشاب "لكني سأخبرك بما فعلته"
"ماذا فعلت؟"
"تظاهرت إنها أنت"
انحنت سيبيل فورا وبدأت الحفر في الرمال وقالت "دعنا ننزل الماء".
"حسنا" قال الشاب "أعتقد إني أستطيع فعل ذلك"
"في المرة المقبلة صدها بعيدا عنك" قالت سيبيل
"من هي؟" قال الشاب
قالت سيبيل "شارون ليبشوتز"
"أوه شارون ليبشوتز" قال الشاب "كم يعيد هذا الإسم مزج الذكرى بالرغبة" قفز على قدميه ونظر للمحيط "سيبيل" قال الشاب "سأخبرك بما سنفعله اليوم. سنرى إذا كان بوسعنا صيد سمك الموز"
"سمك ماذا؟"
"سمك الموز" قال الشاب وفك رباط رداء الحمام ثم خلعه. كان كتفاه أبيضين ضيقين وعروقه زرقاء ملكية. طوى ردائه مرة بالطول ثم ثلاث. ثم فرد الفوطة التي كان يضعها فوق عينيه على الرمال ووضع الرداء فوقها. ثم أخذ العوامة وثبتها تحت ذراعه الأيمن، وأمسك يد سيبيل بيده اليسرى وانطلقا للمحيط.
"اعتقد إنك لم تر حتى القليل من سمك الموز" قال الشاب
هزت سيبيل رأسها
"أليس كذلك؟ أين تعيشي بالمناسبة؟"
"لا أعرف" قالت سيبيل
"بالتأكيد تعرفين. لابد أن تعرفي. شارون ليبشوتز تعرف أين تعيش وهي ثلاث سنوات ونصف فحسب"
توقفت سيبيل عن السير وانتزعت يدها من يده. التقطت صدفة بحر عادية ونظرت لها كأنها تدرسها ثم ألقت بها. وقالت "ويرلي وود، كونيتيكت" وسارت وبطنها للأمام.
-         ويرلي وود، كونيتيكت
ردد الشاب كلامها
-         أصدفة أن هذا المكان بجوار ويرلي وود، كونيتيكت؟
نظرت سيبيل له وقالت
-         أنا أعيش هناك
قالتها بنفاذ صبر "أنا أعيش في ويرلي وود، كونيتيكت"
ركضت خطوات قليلة أمامه، وأمسكت قدمها اليسرى بيدها اليسرى وقفزت مرتان ثلاث.
قال الشاب
-         ليس لديك فكرة كيف اتضحت الأمور الآن
تركت سيبيبل قدمها وقالت
-         هل قرأت (سامبو الأسود الصغير)؟
-         لطيف أن تسألي ذلك السؤال. لقد انتهيت من قرأته بالأمس.
انحنى قليلا وأمسك بيد سيبيل وسألها
-         ما رأيك به؟
-         هل جرت النمور حول تلك الشجرة؟
-         اعتقد إنهم لم يتوقفوا أبدا. لم أر هذا العدد من النمور من قبل
قالت سيبيل
-         لقد كانوا ستة فقط
قال الشاب
-         ستة فقط؟ أتسمين هذا فقط؟
-         هل تحب الشمع؟
-         نعم؟
-         الشمع
-         أحبه كثيرا، وأنت؟
أومأت برأسها وقالت
-         هل تحب الزيتون؟
-         الزيتون.. نعم. الزيتون والشمع. لا أذهب لأي مكان بدونهما
-         هل تحب شارون ليبشوتز
-         نعم أحبها. خصيصا إنها لا تضايق الكلاب بردهة الفندق. إنها لا تضايق ذلك البلدغ الذي بصحبة السيدة الكندية. لن تصدقيني، لكن بعض الفتيات الصغيرات تحب نغز ذلك الكلب الصغير بعصى البالونات. لكن شارون لا تفعل ذلك. إنها ليست مزعجة أو قاسية. لذلك أحبها كثيرا
كانت سيبيل صامتة ثم قالت أخيرا
-         أحب مضغ الشمع
-         من لا يحب ذلك؟
بلل قدميه وقال
-         واو! أنها باردة
وضع العوامة المطاط على ظهرها بالماء
-         انتظري دقيقة يا سيبيل، انتظري حتى نبتعد قليلا.
خاضا بالماء حتى وصلت لخصر سيبيل. رفعها الشاب ومددها على بطنها فوق العوامة.
-         ألا ترتدي قبعة أو أي شئ
-         لا تفلتني، أمسكني الآن
قالت سيبيل بلهجة آمرة
-         آنسة كاربنتر، أرجوك، أنا أعرف ما أفعله جيدا. كل ما عليك فعله هو فتح عينيك جيدا لرؤية سمك الموز. إنه يوم مثالي لسمكة الموز
-         لا أرى أيا منهم
-         مفهوم. ذلك السمك لديه عادات غريبة
استمر في دفع العوامة حتى وصل الماء لصدره وقال
-         أنهم يحيوا حياة مأساوية جدا، أتعرفين ماذا يفعلوا يا سيبيل؟
هزت رأسها نفيا
-         حسنا، إنها تدخل في حفرة حيث الكثير من الموز. يكونوا مجرد أسماكا حين يدخولنها. لكن بمجرد الدخول، يبدأوا في التصرف مثل الخنازير. لماذا! أعرف سمك موز سبح داخل حفرة موز والتهم ثمان وسبعين موزة.
تقدم ببطء بالعوامة وسيبيل نحو الأفق وأكمل حديثه
-         طبعا بعد كل هذا الكم، يصبح السمك سمينا للغاية ولا يستطع الخروج من الحفرة، لا تسعه فتحتها.
-         لا تدفعني أبعد من ذلك. ثم ماذا يحدث لهم؟
-         ماذا يحدث لمن؟
-         سمك الموز
-         أتعنين بعد أن تأكل كل هذا الموز ولا تستطيع الخروج من الحفرة؟
-         نعم
-         أكره أن أخبرك يا سيبيل بذلك، أنها تموت
-         لماذا؟
-         حسنا، إنها تصاب بحمى الموز، إنه مرض خطير
قالت سيبيل منفعلة "انتبه، إنها موجة"
-         سنتجاهلها، سنصدها.. نحن متعجرفان
أمسك بكحلي سيبيل بيديه وضغطهما لأسفل وللأمام في نفس الوقت. حلقت العوامة على سطح الموجة. وغمر الماء شعر سيبيل الأشقر لكن صرختها كانت مليئة بالسعادة.
عندما استقرت العوامة على الماء ثانية، رفعت بيدها خصلة من شعرها المبلل من فوق عينيها وقالت "لقد رأيت واحدة"
-         ماذا رأيت يا حلوتي؟
-         سمكة موز
-         يا إلهي! حقا؟ هل كان هناك موز بفمها؟
-         نعم، ستة
التقط الشاب فجأة أحد كاحلي سيبيل المبللان، المتدليان بنهاية العوامة، وقبل قوسه.
التفت صاحبة الكاحل وصاحت "هيه!"
"هيه أنتِ، سنعود للشاطئ، هل اكتفيت؟"
"لا"
قال "آسف" ودفع العوامة تجاه الشاطئ حتى نزلت سيبيل من فوقها. ثم حمل العوامة بقيت الطريق.
قالت سيبيل "وداعا" وجرت نحو الفندق، غير آسفة، دون توقف. ارتدى الشاب رداءه ثانية، وربط حزامه وحشر الفوطة بجيبه. ثم رفع العوامة الرطبة الثقيلة وتأبطها. وسار بخطوات متثاقلة وحيدا على الرمال الرخوة والساخنة تجاه الفندق.
بالباب الجانبي بالفندق، المخصص لدخول المستحمين، كانت امرأة تضع دهانا على أنفها دخلت المصعد مع الشاب.
قال الشاب بينما المصعد يتحرك "أرى انك تنظري لقدمي"
قالت المرأة "معذرة؟"
"قلت أني رأيتك تنظرين لقدمي"
"عفوا، لقد كنت انظر للأرض" قالت المرأة ووجها نحو باب المصعد.
قال الشاب "إذا كنتِ تريدين النظر لقدمي قولي هذا لكن كفي عن النظر خلسة هكذا"
قالت المرأة لعاملة المصعد بسرعة "انزليني هنا من فضلك". فَتح باب المصعد وخرجت المرأة دون النظر خلفها. قال الشاب "لدي أقدام سليمة، لا أفهم لماذا يحدق الجميع بها هكذا" سحب مفتاح حجرته من جيبه وقال "الدور الخامس من فضلك"
خرج من المصعد بالدور الخامس ومشى باتجاه الردهة ثم دلف لحجرة رقم 507. كانت الحجرة معبقة برائحة جلود العجول الذي صنعت منه الحقائب ورائحة مزيل طلاء الأظافر.
لمح المرأة النائمة على أحد السريرين. ثم اتجه لأحد الحقائب وفتحها. سحب من أسفل مجموعة من السراويل القصيرة واللباس الداخلي مسدس أورتيجز أوتوماتيكي من عيار 7.65. فك مخزنه ونظر بداخله ثم ثبته بموضعه مرة أخرى. جهز المسدس. ثم جلس فوق السرير الشاغر، نظر للمرأة النائمة، وجه المسدس، وأطلق الرصاصة تجاه صدغه الأيمن.


 نُشر في إبداع ديسمبر 2017


العادات المطبخية والغربة وأشياء أخرى.. ماذا يخبرنا الطعام عن أنفسنا؟



انشغل الانسان بالطعام منذ خلقه كعامل من العوامل الأولى التي شكلت هويته وربما حددت مصيره كذلك كما ذكر في جميع الأديان الإبراهيمية. والمطبخ المسيحي مميز بين مطابخ الأديان الابراهيمية ويشكل هوية خاصة بكل ما أتيح له من طعام على عكس اليهودية والإسلام الذين حرموا بعض الطعام والشراب. فليس هناك ما تم تحريمه في المسيحية لذلك فالمسيحي الذي يعيش في مجتمع فاقد للتنوع الديني مثل المجتمع المصري يأكل بشكل مختلف لكنه يحاول أن يبرر ويخفي ذلك الاختلاف.
هذا ما يناقشه شارل عقل ببراعة في كتابه "غذاء للقبطي" الصادر عن الكتب خان. يبدو الكتاب لوهلة مجرد توثيق لعادات المطبخ القبطي المصري لكنه يتجاوز الموائد القبطية ليتحول إلى دراسة أنثروبولوجية عن المجتمع القبطي ويمتد للمجتمع المصري ككل. بطبيعة الحال لن يستطيع أحد أن يتحدث عن المطبخ القبطي دون الإشارة للمجتمع المصري المسلم كما يقول عقل "يشعر القبطي بالذنب حين يبالغ في استهلاك الكنافة والقطايف وسائر المنتجات الرمضانية، وذلك الذنب ناتج عن إحساس المسيحيين بالندية بالرغم من قلتهم العددية ومقارنتهم الدائمة بين تأثرهم بالنظام الغذائي الإسلامي وتأثير نظامهم على العائلة المسلمة. فلا تتأثر العائلة المسلمة كثيرا إذا انعكس الوضع بالاعتبارات الغذائية المسيحية نتيجة لعدم ظهورها في الفضاء العام بالقدر نفسه من الوضوح واللجاجة".
يقول عقل "أن المطبخ القبطي هو مطبخ المبالغات. المبالغة في التقشف أو الزهد من ناحية أوقات الصيام، وفي الناحية الأخرى نجد المبالغة في الترف والإفراط في أوقات الفطار" وهو ما يتحدث عنه الكتاب بالتفاصيل في كل فصل تقريبا. يبدأ بالفول، الأكلة الأشهر في المطبخ المصري بشكل عام وفي المطبخ القبطي بشكل خاص باعتباره الوجبة الأساسية في الصيام المسيحي الذي يمتد لحوالي مائتي يوم في العام. يحكي عقل بحس فكاهي سليم كيف يتحول طبق الفول الذي تفتتح بإسمه المحلات في أوقات الصيام إلى طبق بائس يناسب ثقافة المطبخ القبطي التي تقوم على التقشف ليصبح طبق بني اللون ضارب إلى الرمادي منزو في ركن المائدة.
ثم المخبوزات التي تتزين بمبالغة في وضع السمن والزبد واللبن والبيض في غير أوقات الصيام. لكنها لا تعدو كونها فطائر بدائية الصنع في أوقات الصيام. لكن "بين مبالغات التقشف والإفراط توجد منطقة رمادية واسعة" وهذه المنطقة المتسعة تشمل الكثير من التحايلات على عادات الأقدمين أو المسلمين المعاصرين جيران المجتمع على حد السواء. وهي المنطقة التي يدور في فلكها فصول الكتاب العشرة.
تمتد التحايلات من الأكلات البسيطة مثل عمل البيتزا الصيامي التي تزداد صعوبة أمام خلوها من السمن والدهون والإضافات الشهيرة مثل اللحوم والجبن بأنواعها. والمنتجات الإشكالية أثناء فترة الصيام مثل الشيبسي بطعم الكباب الذي توقف أمامه كثيرا المجتمع المسيحي ليتساءل تساؤلات لاهوتية، هل نكهة الكباب صناعية أم تحتوي بالفعل على الكباب؟ حيث أن تلك النكهة هي الفاصل بين تنعم المسيحي في الجنة أو احتراقه للأبد في الجحيم.
ويستمر التحايل أثناء شهر رمضان "مما قد يضطر المسيحي في هذه الحالة إلى ممارسة طقوسه الغذائية والمزاجية في الغرف المظلمة المهجورة أو على سلم الطوارئ أو تحت المكتب أو في الكابينيه" أما إذا تزامن مع فترة الصيام المسيحي وهذا ما يحدث كثيرا، وما يترتب عليه "هو أن الأقباط سوف يصومون صيامهم وصيام رمضان في الوقت نفسه. يتمنعون عن الطعام صباحا لساعات طويلة تربطهم بالروتين المدرسي اليومي ثم يرجعون ليأكلوا خراء صيامي في الوقت الذي يأكل فيه نظراؤهم من العائلات المسلمة ما لذ وطاب من المحمر والمشمر".
في هذا الفصل، مأكولات رمضانية للأقباط، تظهر ثورية عقل المبكرة. حيث قرر أن يتناول ساندوتش الدجاج على طريقة الكوردون بلو بنهار رمضان في فسحة المدرسة. كان يوم الرفاع وهو آخر أيام الإفطار قبل فترة الصيام الكبير الذي يمتد لخمس وخمسين يوم. ظل الساندوتش في جعبته طوال اليوم لا يفكر إلا فيه وحين جاءت الفسحة أخرج جريمته وأخذ يلوكه ببطء وتلذذ مستمتعا بتلك الثغرة الأخلاقية وغير عابئ بالصيام الطويل الذي ينتظره. ويسجل شارل تلك اللحظة قائلا "لو لم أكن قد ولدت في عائلة قبطية ولم أعتد الصيام وإذا لم أبالغ في الحرص الأخلاقي على مشاعر الآخرين وإذا لم أجرب أكل الساندوتشات في الحمام وإذا لم أمتنع عن تناول الطعام صباحا وأكل الخضروات القدريحي مساءا وإذا لم أشعر بالدونية وعدم المساواة وإذا لم أكن قبطيا في مصر وكل زملائي من المسلمين الصائمين، لما تذوقت أفضل ساندوتشات الدجاج".
في النصف الثاني من الكتاب يتطرق عقل إلى الأكلات الخلافية وهي الخنزير والخمور، وهي الكاشفة عن صفة التسامح التي تسود المجتمع المصري والتي تروج باعتبارها فضيلة، يقول عقل عنها "كلمة مفخخة بالعداوة والعنف والطائفية تتضمن في مدلولها فكرة العفو وفكرة التحملومنها إلى منح ووهب الحرية. فهي تعني أنه يوجد طرف أفضل من الآخر، طرف صحيح والآخر مخطئ".
يظهر الغضب مع بداية الفصل، عندما شرح عقل بالتفاصيل الكاملة طريقة تسوية لحم الخنزير ولمست التلذذ في كل تفصيلة أشار إليها وكأنه يقصد أن يكون مستفزا لكل قارئ يشمئز من ذكر الخنزير ولحمه. ثم يشير إلى فئة اجتماعية جديدة وهي الأقباط المتأسلمون "أي الأقباط الذين ينظرون لأنفسهم بنظرة تقييم إسلامية" ونشأت من طول المجاورة مع المسلمين في منطقة الشرق الأوسط حتى إنهم توقفوا مؤخرا عن شرب الخمر وأكل الخنزير. يتحدث بتعجب عن حرص أمه من معرفة الجيران انهم يأكلون لحم الخنزير ويقول "المشكلة أكبر من مجرد اختلاف في العادات الغذائية". يظهر هنا بوضوح الضيق الذي يعيش فيه أقباط مصر واضطرارهم لتغيير هويتهم المطبخية والتنازل عن حق شخصي لا يهم أحد سواهم في تناقض مع مثل مصري أصيل "كل ال يعجبك وألبس ال يعجب الناس". فلقد توقف الأقباط عن أكل ما يعجبهم حتى يرضوا الطرف الأكبر ويستريحوا من التساؤلات والهمهمات والنظرات الفضولية. حتى أسرته، ظلت في كل مناسبة كلما سئلوا عن رأيهم في مذبحة الخنازير الوحشية التي تمت في مصر عام 2009، "يرددون الإجابات نفسها وكأنه خلل ميكانيكي قد أصاب أدمغتهم أو إنه من فرط الضغط النفسي قد أصيبوا بلوثة عقلية ليقولوا بدون تفكير مكررين: بس احنا أصلا مش بناكل خنزير.. حتى لا يبدوا في اعتراضهم على هذه المهزلة وكأنهم في سعي شهواني للدفاع عن طاجن خنزير بالبطاطس وليس عن أحقية كل إنسان بتناول ما يحلو له أو على الأقل بعدم قتل كائنات بهذه القسوة".
ترتفع حدة صوت عقل في الفصل الخاص بالخمور. فهو ليس غاضبا فحسب من الآخر المسلم الذي يحشر نفسه فيما يأكله الناس وفيما يفضلونه، لكنه غاضب كذلك من بني دينه الذي يؤكد دوما على قطيعته معه أو على الأقل على كونه "غير متدين"، يقول "أصبحت الهوية القبطية المسيحية في مثل هذه الظروف رمادية، متواضعة، منطوية، تنزع إلى عدم الصخب أو الاختلاف الظاهر الذي يجلب المساءلة والمشاكل... وقد طور الأقباط على مدار التاريخ أسلوبا خطابيا خاص بهم ليكون غير حاسم في أي موقف على الإطلاق. وتخصصوا في ردود مموهة لا يمكن الخروج منها بأي استنتاج" ويقول في موضع أخر "شخصيات المسيحيين الانهزامية المتحفظة الخانعة الباردة، المتجنبة للصدامات، غير السياسية، غير الاجتماعية، غير المكترثة، عديمة التذوق، متبلدة المشاعر، مبتورة الأعضاء، التي لا تهتم بأكل ولا شرب ولا صحبة ولا جنس". تخيل هذا الوضع عند عرض القبطي لموضوع خلافي مثل الخمر؟
يتحدث عقل في عدة مواقع عن المسيح الشغوف بالطعام والشراب والذي يحب اللمة والجلسات الودية حتى أن معاصريه تعجبوا لإسرافه في الطعام والشراب. عن مشهد العشاء الأخير الذي جمع فيه أصحابه ليأكلوا ويحتسوا الشراب ويوصي أصدقائه بألا يتوقفوا عن المقابلة والاجتماع والأكل والشرب ولا ينسوا ذكراه، على عكس التراث المسيحي الذي ينكر فكرة الفرح والاحتفال ويقرنها بالندم وتقريع الذات. ويبدو أن علاقة المسيحيين بالخمور التي امتدت على مدار التاريخ في طريقها للانهيار في العقود الأخيرة نظرا للاحتقان الديني المتزايد في الشرق الأوسط. ويستمر عقل في استفزازه للقارئ المسلم المتدين المحافظ في فصل الخمور بدعوته لتناول كأس من الخمر في صحة كل الأمثلة التي ذكرها لشخصيات اختفت من حياتنا ولم يعد لها وجود أو على أقل تقدير توارت عن الأنظار ومارست أبسط حقوقها في الخفاء.
كل ما يحكيه شارل عقل في هذا الكتاب الساخر الواعي بالمجتمع المسيحي وتغيراته المتعددة في ظل مجتمع مسلم أصبح متشدد بشكل غير مسبوق، لا يدل إلا على غربة يعيشها الأقباط في وطنهم. رغم تنوع المطبخ المسيحي ليشمل كل أنواع الطعام والشراب على عكس الديانتين اليهودية والإسلام المنتشران في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنهم، المسيحيين، يعيشوا غرباء. فليس من حقهم مثلا "أكل ما يعجبهم" في الوقت المناسب لهم إلا بعد الأخذ بالمحاذير والتحايل على نظامهم الغذائي من ناحية وعلى المجتمع المسلم من ناحية أخرى.

ذكرني الكتاب بشدة برحلة عابرة لمدينة أوروبية، زرتها وفي أحشائي جنيني الثاني فكنت في حاجة للطعام وللكثير منه على مدار الساعة لسد جوعي المناسب لمرحلة الحمل الأخيرة. كانت غربتي الغذائية غالبة على غربة اللغة والصحبة. حيث كنت أسير في كل مكان أبحث عن ما هو حلال وسط الأرفف في السوبرماركتات وبين أطباق الأوبن بوفيه في الفنادق. والنادلة التي سارت خلفي لتذكرني كلما هممت بتناول أحد قطع اللحوم لأضمها لطبقي بأنها لحم خنزير فأتراجع عنها. سواء اتسع مطبخك ليشمل طعام العالم أو ضاق ببعض الأطعمة وطردها خارجا، ستشعر بغربة طالما أنت أقلية في وسط أغلبية تفرض نظامها عليك. فما بالك أن تكون في وطن لك ولست ضيفا عابرا بطائرة؟ 

الكتابة كخطيئة أصلية



لنصوص المجموعة القصصية الثرية "مأوى الغياب" تعدد يضعك أمام تفسيرات مختلفة وقراءات متشعبة. اقتبست منصورة عز الدين في بداية المجموعة اقتباسا صغيرا من جاك دريدا لكنه يلقي بضفافه على النصوص بداخله، يقول "ذلك أن إله الكتابة هو أيضا، وبتلقائية، إله الموت". هكذا تلعب الكاتبة مع الكلمات لعبة سردية ممتعة، تكتب ثم تنفض ما كتبته وتحيله إلى موت مؤقت لتعيد إحيائه مرة أخرى في نص تال.

اللعبة هنا ليست ثنائية، بل ثلاثية الأبعاد. يتبدل اللغز الذي حاكته اللغة ما بين الجبل والغابة والبحر أو ما بين العناصر الأرض والماء والهواء في عالم تحكمه ربة الطلاسم وتؤطره الطبيعة. يبدأ العالم كتاريخنا، سديم يستحيل إلى ضباب يتكاثف على مهل وكائن ينفصل عنه شئ ما كأن نواة دقيقة هي جوهره قد هجرته. كبدايتنا عندما نتلمس طريقنا للتعارف على عالمنا الجديد ومحاولة نسج حروف لنكون كلمات تصلنا بالاخر. 

لتحوت إله الحكمة ومخترع الكتابة في الميثولوجيا الفرعونية إهداء خاص وتمدد داخل قصص المجموعة. تحوت الذي خلق نفسه بقوة اللغة ترك أرق الكتابة والحكي خلفه، يقدم نفسه هنا كمنقذ من التماهي مع السراب والنسيان. على الرغم من مقاومة ربة الطلاسم وإقامتها صرح بطريقة مخالفة له "فاللغة قناع، والكلمات فخاخ، والمسميات خديعة" لكننا نعود للعبة التفكيك مرة أخرى وإحالة كل هذا للموت وعملية الميلاد من جديد. إلا انك ستتمكن من الرؤية شرط أن تكون غريبا "سيجود الحجر بأسراره على الأكثر غفلة عن كل مميزاته، على من سيبقى غريبا أينما حل... فوحده الغريب يقدر على الرؤية".

تقرأ "مأوى الغياب" بروح لاهثة، لكنك لن تصل إلى اليقين على طول الكلمات وكأن الكتابة هي الخطيئة الأولى وما تلاها هو محاولة تصحيح وطلب الغفران. فالزمن سائل لا يمكنك القبض عليه "لم أدرك ما الزمن، كما لم أعرف من أين واتتني هذه المفردة". نسير ونسير مع الشكوك ولا نصل لأصل الأشياء. شخصيات بلا أسماء تبحث عن كينونتها وأصلها في أعمق ما قد تصل إليه، فتحيل هواجسها إلى العناصر الأولية التي كونتنا وشكلت ماهيتنا. تبدو لي كقصة الإنسان منذ بدأ الخليقة وتصوير عذاباته وانتقالاته بين حالات متعددة ومتشعبة قد تختلط بروحه ذاتها. فيبدو العالم وكأنه اختراع طازج اخترع للتو داخل عقل كاتب يجتهد ليجد الكلمات المناسبة. سماء تظهر وتختفي وصخرة معلقة في الهواء يتسرب منها شلالات تخيف بحارة قراصنة عابرون على حافة العالم، تتجسد لهم أينما اتجهوا وحين يئسوا قرروا الاتجاه نحوها متوقعين أنهم هالكون، لكنهم فوجئوا بأنها وهم وعبروا من خلاله كما يعبرون بهواء. تقول منصورة "كلما صعدت للأعلى غامت رؤيتي للعالم. خيل إلى أن الأبعاد والظواهر الجغرافية يعاد تشكيلها. فالبحر في الأسفل ليس هو البحر، والغابة ليست بغابة، والسماء تختلف عن كل تخيل ممكن لها". كلما اقتربت، ابتعدت، في مطاردة لسراب لن تصل إليه أبدا.

يتملكنا هاجس المراقبة على طول المجموعة. فالشخصيات مراقبة كما إنهم يتلصصون على بعضهم البعض وعلى أنفسهم "أشعر أن هناك من يراقبني، من يقترب مني" أو "أكثر ما يضايقني احساسي إنها تراقبني وتعد علي أنفاسي". كما إنهم يراقبون محيطهم فيجدوا جلبة غير مرئية لا يمكن تحديد كنهها ولا مركز انبعاثها. تتلاشى الطرق والمدن من خلفهم على الرغم من اتخاذهم لها سبلا للوصول لبقعة معينة. فتتقلص العوالم في زئبقية غامضة.

تتفتح مغاليق السرد قرب النهاية كاشفة عن قطع اللغز الذي جمعت الكاتبة أجزاءه على طول المجموعة. في قصة "لا فريسة ولا صياد" تقول الشخصية "كانت كل قطع اللغز مفرودة أمامي وفي متناول يدي ومع هذا فاتتني الخلاصة البديهية الكفيلة بأن تقودني إلى سري الغائب عني". حيرتها وراء كينونتها خيلت لها أن البنايات طافية في الهواء لا راسخة فوق الأرض، فاعتقدت أنها أوهام بصرية. تبحث عن صورتها الحقيقية في انعكاسات الجداول والأنهار، لكنها تجد وجهها يرمقها من الأسفل فتفكر في إلقاء حجرا ليختفي وجهها خلف دوامات المياه المتحركة وتتأكد إنها الأصل وليس انعكاسا. 

تتلاعب ربة الطلاسم بذاكرتها كأنها تلهو ككل الأله العاطلون عن العمل فترى نفسها امرأة فوق جبل أو رجلا تائها داخل غابة أو مبحرا في سفينة. حتى تفيق من نوم عميق أو موت مؤقت، يُعاد ميلادها من جديد في ظل تجويف حجري وهاجسها الأوحد هو الهبوط إلى سفح الجبل. إنها النهر حيث بدأت الحياة وحيث ستنتهي.

وتواصل الكاتبة لعبتها الجادة المحرضة على القراءة في "من خشب وهلاوس" تقول الشخصية "كنت أقطع الأشجار حين داهمني ذلك الشعور لأول مرة... شعرت أنني مخلوق من الخشب". هكذا يمارس رجل فعل اعتيادي ربما مارسه بشكل يومي منذ الأزل لكنه نفذ لعمق روحه وأستطاع الولوج للرائحة الطازجة الفاتنة فشعر أخيرا انه في موطنه. على عكس العنصر المائي، هنا الذاكرة حاضرة رغم قدمها. شجرة عجوز ترمز إلى الأرض ذاتها, الأم التي تطعم وتهتم بالبشر، فيقدم الطعام والشراب لرفيقيه قبل اختفائهما. كما يتذكر كل شئ، القصف، القنابل، والانفجارات المتتالية والزلازل. مسكون بأنقاض وصرخات فزع وجثث ملقاة في الشوارع.

يتحد مع تحوت ويغرق نفسه فيه. ويستعيض عن فقدان صوته بالتدوين فيخط آلاف الكلمات في اليوم بلغة اخترعها بنفسه ويسجل على جسده التاريخ. واقفا يتأمل أفقا لا يبوح بشئ وسماء غائمة على الدوام "لم يعد الدوار يضايقني، تأقلمت معه". يقول "ما أكتبه يخيفني لأنه يثبت كل ما رأيت من أهوال، يحييه ويكرره بلا نهاية... أتذكر الشوارع الخاوية والبيوت المهدمة وآثار الحريق على المباني العامة. في الأيام الأولى كان المشهد صاعقا ثم بدأت اعتاد عليه بحيث تكاد الحياة السابقة عليه تخبو من ذاكرتي وكلما أنطفأت، ازدهر الخراب بداخلي". لكن حتى تلك الشجرة العجوز الصلبة لا تصل أبدا لليقين وتتشكك فيما تراه، تتساءل أهو الصواب؟ وكيف تعرف أن رؤيتها للواقع هي الأقرب للحقيقة والجوهر؟

وفي "طلسم أخير" تستمر ربة الطلاسم في خداعنا. تتلون وتغير ماهيتها فتقول إنها اختارت الحجر لكنها أقرب إلى اللامرئية فتقول "كان جسدي حروفي وحركاتي لغتي وأنفاسي متونا متروكة للعابرين... كنت فكرة خطرت للحجر وتسربت منه إلى العالم المحيط به". تنفتح على براح الكون ولا تكف رأسها عن الدوار عندما تشعر بالقيد. فراغ لكنها ليست فارغة إنما مليئة بالحياة. تخاف من قصف ما، وتجري في الدهاليز مختبئة وتخاف من فئران تشاركها ملجئها وتنقل المخطوطات والوثائق المهمة إلى القبو.

تقول إنها تحب السيرك والسحرة وقد تحولت هي نفسها إلى ساحرة ربما اخفت كتاب "ألواح الزمرد" المنسوب لتحوت داخل متونها. كانت تنبهر بألاعيب السحرة وما أن تبدأ فقرة الساحر تتماهى معها بكيانها كله، ويسلب لبها سحر إخفاء الخداع كما صارت تجيده تماما. وتحيل كل هذا الدمار للساحر الذي استطاع قراءة عقلها وعرف إنها كتبت "ربة الطلاسم" في ورقة اخفتها عنه. "خيل إلي أنني لو نجحت في تضليل الساحر لما تمكن أحد اقرانه من إخفاء عالمي القديم... منذ ليلة الغارات رفضت سكنى البيوت، وتواءمت مع العراء". "ارتحلت مع الريح على طريق مهجور... لبرهة شعرت بالتحرر من أسر الحجر. عدت أثيريى من جديد".

إنها صاحبة الألف وجه، ربما تكون الشخصية الوحيدة التي تعرف منذ البداية كينونتها وتتلاعب بها وتتلون وتقدم السراب للعالم بخبث لتستمتع بالهواجس والشكوك التي تدور حوله. إنها الربة المعاقبة المنفية التي لا تعبأ بشئ ولا تكترث للذاكرة. رفضت التدوين والكتابة ولم تنحِ لتحوت. ربما ذهب عقلها خلال انتظارها بين الصخور وركودها في الطرقات الترابية بين بساتين الفاكهة، تقول إنها والنار شئ واحد وتغرق في الهلاوس والأسى. فقدت احساسها بالاتجاهات وتعطلت بوصلتها الداخلية، لكنها لا تكف عن هدم بنائها وإعادة البناء في صيرورة دائمة وتعدد لا نهائي "بحيث أبدو كمهلوسة تنقض ما سبق وغزلته، كملتاثة سحبت العالم معها إلى مستنقعات الجنون"

ثلاثتهم تائهون بطرق مختلفة، تسيطر عليهم الهلاوس ولا يقتربوا إلا ليبتعدوا من جديد. وكأن الغرق في الفوضى هو الطريق الأمثل للتعرف على ذواتنا والاستمرار في المزيد منها؛ "كنا في حاجة إلى التيه كي نعرف، والآن وقد فعلنا، لن يفيد الانتقال من مكان لآخر، فكل الأماكن سواء" 

نُشر في المدن أبريل 2018