Wednesday, July 10, 2013

تمنيت أن أكون مالك ماخور


ولد ويليام فوكنر بإسم ويليام كوثبرت فوكنر في شهر سبتمبر عام 1897 في نيو ألباني بولاية مسيسيبي ثم انتقلت عائلته الى مقاطعة اكسفورد بنفس الولاية حيث قضى بقية حياته واستمد منها جيفرسون عاصمة مقاطعته المُتَخْيّلة. قال عن روايته "الصخب والعنف": ‘إنها رواية بنت عاهرة..إنها أعظم ما سأكتبه يوما’. 
كتب فوكنر ‘البعوض’ عام 1927، و‘سارتوريس’ عام 1928، و‘الصخب والعنف‘ و‘أجر جندي’ عام 1929، و‘بينما أرقد محتضرا’ عام 1930، و‘الملاذ’ عام 1931، و ‘ضوء في أغسطس’ عام 1932، و‘أبشلوم أبشلوم!’ عام 1936، و‘النخيل البري’ عام 1939، و‘اهبط يا موسى’ عام 1942، و‘حكايةآ عام 1945. وغيرهم من القصص القصيرة. فاز فوكنر بجائزة نوبل للآداب عام 1949كما حصل على جائزة بوليترز عن روايتيه اللاتين نُشرا بعد وفاته "حكاية" و"اللصوص" عام 1962.   

المحاور: لقد ذكرت مسبقا انك تكره الحوارات الصحفية؟
فوكنر: السبب وراء ذلك ان الاسئلة عادة ما تكون شخصية وليست متعلقة بالعمل، اذا كانت شخصية فربما اجيب وربما لا افعل وحتى اذا اجبت اليوم على سؤال شخصي وتم سؤالي نفس السؤال في الغد فمن المحتمل ان تكون الاجابة مختلفة.

المحاور: اذا حدثنا عن ويليام فوكنر الكاتب.
فوكنر: اذا لم يولد فوكنر كان سيقوم بدوري كاتب اخر مثل هيمنجواي، ديستويفسكي، اي كاتب منا. والدليل على ذلك ان هناك ثلاث كتاب نشك في ان احدهم هو الكاتب الاصلي لمسرحيات شكسبير. والمسرحيات الاهم هما "هاملت" و"حلم منتصف ليلة صيف" من كتابات شخص اخر. فالفنان ليس له قيمة ولكن ما يفعله هو ما يكون ذو معنى وأهمية، حتى يجف نبع كتاباته. شكسبير وبالزاك وهومر جميعهم كتبوا حول نفس القيم ولو كانوا عاشوا مائة او مائتين سنة اخرى، كان الناشرون توقفوا عن نشر اعمالهم.

المحاور: ولكن حتى اذا وصل الكاتب لمرحلة ان لا جديد ليقال، أليس شخصية الكاتب مهمة؟
فوكنر: مهمة فقط لنفسه. فيجب على القارئ ان يهتم بالعمل الفني اكثر من الفنان.

المحاور: وماذا عن معاصروك؟
فوكنر: جميعنا فشل في تحقيق حلمه بالكمال. لذلك اقوم بتقييمنا على اساس فشلنا النبيل في فعل المستحيل. في رأيي، اذا استطعت ان اكتب اعمالي مرة اخرى فانا على يقين اني سأكتبه بشكل أفضل وهي حالة صحية جدا بالنسبة لأي فنان. لذلك هو دائم العمل والمحاولة مرات اخرى ومعتقد ان هذه المرة سيفعلها ويحقق الكمال وينجح.  بالطبع لن يفعل ولذلك هي تعتبر حالة صحية. وعندما يحقق ذلك، عندما يطابق احلامه بالصورة التي تبلبل ذهنه وبالحلم الذي يؤرقه لن يبقى شئ اخر سوى الفناء، القفز الى الجانب الاخر من ذروة الخيال الى الانتحار. انا كشاعر فاشل، من المحتمل ان كل روائي اراد ان يكتب الشعر اولا ولكنه يجد نفسه لا يستطيع ثم يحاول مع القصص القصيرة والتي هي اكثر اشكال الكتابة المرغوبة بعد الشعر. وبعد الفشل ايضا يبدأ في كتابة اولى روايته.

المحاور: أيمكن للكاتب ان يتبع وصفة معينة ليكون كاتب روائي جيد؟
فوكنر: 99% موهبة..99% التزام..99% عمل. لابد ان لا يكون راضيا تماما عن ما كتبه. لن يكون العمل ابدا جيدا حتى يستطيع اتمامه. احلم دائما وإرفع سقف طموحاتك فوق قدراتك. ولا تزعج نفسك بالمنافسة مع معاصريك او اسلافك. حاول ان تكون افضل من نفسك. فالفنان مخلوق تسوقه الشياطين. هو لا يعرف لماذا قاموا باختياره وهو في المقابل مشغول جدا لا وقت لديه ليتساءل. فهو يخشى بشدة انه سوف يضطر الى السرقة والدَّين وترجي اي شخص وكل شخص حتى يتم عمله.

المحاور: هل تعني ان الكاتب لابد ان يكون قاس، عديم الرحمة؟
فوكنر: الكاتب مسئول فقط عن عمله، وسيكون قاس فقط اذا اتم عمله على اكمل وجه. فهو لديه حلم يزعجه كثيرا حتمية تجاوزه والتخلص منه، ولن ينعم بالسلام حتى يحققه. فكل شئ، السعادة، الفخر، الاحترام، الامن، يهون في مقابل اتمام العمل. فالكاتب اذا اضطر الى اغتصاب امه فلن يتردد، فقصيدة مثل "Ode on a Garecian Urn" او قصيدة على غرة أغريقي تحتاج الى عدة سيدات طاعنات في السن.

المحاور: اذا فأنت تعتبر ان نقص الامن والسعادة والاحترام مهم بالنسبة لابداع الكاتب؟
فوكنر: لا، انهم فقط مهمون من اجل سلامته وقناعته الشخصية، فالفن لا شأن له بدون السلام والقناعة.

المحاور: ما هو انسب مناخ للكاتب؟
فوكنر: الفن غير مرتبط بمناخ بعينه، فهو لا يهتم بالمكان. اذا كنت تعنيني انا بالسؤال فأفضل عمل قدم لي كان لأصبح مالك ماخور، في اعتقادي، انه المناخ المناسب لاي كاتب. فانه سيعطي للكاتب اقتصاد حر فلا يحمل هما للديون او الجوع، لديه سقيفة في الاعلى كل ما عليه فعله هو عمل عدة حسابات مصرفية والذهاب مرة شهريا لدفع الضريبة. المكان هادئ في ساعات النهار وهو افضل وقت للكتابة خلال اليوم. وهناك حياة اجتماعية كافيه له في المساء اذا احب ان يشارك حتى لا بشعر بالملل. فهذا يعطيه الاستمرارية الاجتماعية. كما ان جميع سكان المنزل من النساء اللاتي سيشيرن اليه بلقب "السيد" قبل اسمه وايضا سيفعل الجيران، وبالطبع سيتحدث هو الى رجال الشرطة باسماءهم الاولى.
لذلك فان المناخ المناسب للكاتب هو ما يحقق السلام والعزلة والسعادة التي لا تكلف الكثير من المال. بالنسبة لي كل ما قد احتاج اليه للكتابة هو الورق والتبغ والطعام والقليل من النبيذ.

المحاور: تقصد نبيذ امريكي؟
فوكنر: لا..ليس تحديدا، احبذ الاسكوتش أكثر.

المحاور: لقد ذكرت ان الكاتب يحتاج الى اقتصاد حر، هل الكاتب في حاجة اليه فعلا؟
فوكنر: لا الكاتب ليس في حاجة الى رأس مال، كل ما يحتاج اليه هو قلم رصاص وورق. انا لا اعرف كتابة جيدة تأتي من وراء المال الوفير القادم بدون جهد. فمثلا الكاتب الجيد لا يستطيع ان يخصص وقته لمؤسسة ما، لانه حتما مشغول بالكتابة. فالكتابة الجيدة تأتي من وراء اللصوص والمهربين والمهمومين. الناس الذين يخشون بالفعل اختبار مدى تحملهم للمشقة والفقر، مدى خشونتهم. تأكد ان لا شئ يستطيع ان يدمر الكاتب الجيد سوى الموت. فالكُتاب الجيدين ليس لديهم وقت ليزعجوا انفسهم بالنجاح او الغنى. فالنجاح امر أنثوي يشبه النساء، اذا تذللت امامها سوف تتخطاك لذا لابد ان تتعامل معها بظهر يدك وبالتأكيد ستزحف اليك.

المحاور: هل تحويل اعمالك الى افلام سينمائية في امكانه الضرر بها؟
فوكنر: لا شئ يمكن ان يضر بروايات اي كاتب اذا كان هو من الدرجة الاولى. ولكن لو ليس كذلك فلا شئ سيفيده.

المحاور: هل من الافضل ان يقبل الكاتب بحل وسط ويكتب للسينما بشكل مباشر؟
فوكنر: بالطبع، لان السينما بطبيعتها تختلف عن الرواية فلابد من التعاون واي تعاون يعتبر حل وسط وهذا ما يعنيه "هات وخد".

المحاور: ما الفيلم الذي تود كتابته للسينما؟
فوكنر: اود كتابة تحفة جورج أورويل الادبية 1984، فلدي فكرة لنهاية تثبت الاطروحة التي طالما توصلت اليها وهي ان المرء خالد فقط لرغبته البسيطة في الحرية.

المحاور: قلت ان الكاتب عليه ان يقبل بتسوية بشأن كتاباته للسينما. ماذا عن التزامه امام القارئ؟
فوكنر: التزامه يكون في تقديم عمله على افضل صوره، عليه ان يتجاوز ذلك الالتزام ويمضي في الطريق الذي يحب. فأنا عن نفسي منشغل جدا عن متابعة العامة. ولا وقت لأتساءل لماذا يقرأوني. انا لا اهتم كثيرا برأي اي شخص في اعمالي او اعمال غيري من الكتاب، فالمعيار الذي لابد ان اواجهه، هو ماهية شعوري وانا اقرأ لوحة "اغراء سانت انطوني او العهد القديم" انهم بالتأكيد يجعلوني سعيد. كذلك تفعل مشاهدة الطيور، اذا كان بإمكاني ان احيا في جسد آخر فأنا أفضل أن أصبح صقر، فلا احد يكرهه او يحسده او يريده او حتى يحتاج اليه. فهو لن يشعر ابدا بالازعاج او انه في خطر كما انه يمكنه ان يأكل اي شئ.

المحاور: ما هو التكنيك الذي تتبعه لتصل الى معيارك؟
فوكنر: لا توجد طريقة ميكانيكية لاتمام اي عمل، لا اختصارات. فالكاتب الشاب سيبدو كأحمق اذا اتبع نظرية بعينها. تعلم بنفسك من اخطاءك، فالناس تتعلم فقط بالخطأ. الفنان الجيد يعتقد ان لا احد جيد بشكل كافي حتى يقدم له النصيحة. فهو يشعر بالخيلاء. لا يهم الى اي مدى أعجب بفن اسلافه، فهو دائما يريد ان يكون افضل منهم.

المحاور: إذن انت تنكر اهمية وجود تكنيك؟

فوكنر: على الاطلاق، في بعض الاحيان يستهلك التكنيك حلم الكاتب ويجعله كمن يجري في المكان. ان الابداع والعمل المنتهي هو ببساطة كالبنيان المرصوص، من المحتمل ان يعرف الكاتب كل كلمة صحيحة سيكتبها حتى النهاية قبل حتى ان يضع اولى كلماته. وهذا ما حدث معي في "بينما ارقد محتضرا" ولم يكن هذا هينا. كان الامر بسيطا لان المادة الخام كلها بين يدي. فلقد استغرق الامر مني حوالي 6 اسابيع في وقت الفراغ، تقريبا احدى عشر ساعة في اليوم. لقد تخيلت مجموعة من الناس وأدخلتهم في كوارث طبيعية عالمية، مثل الفيضان والنار، مع وجود حافز طبيعي لتوجيههم نحو الافضل. ولكن اذا لم يطرأ التكنيك فان الكتابة تصبح سهلة ايضا. لان عند الوصول الى منحنى ما تقوم الشخصيات نفسها بصنع الاحداث وانهاء العمل. عندما اتذكر الصفحة 275، في الحقيقة لا اعرف ما قد يمكن ان يحدث اذا انهيت العمل عند 274، فالجودة التي لابد ان يتحلى بها الفنان ان يحكم على عمله بموضوعية بجانب الصدق والشجاعة حتى لا يعذب نفسه بها. حتى اذا لم يصل ايا من اعمالي الى المستوى الذي انشده فلابد ان حكمي يكون على اساس ما سبب لي اكثر حزن ومعاناة، مثل ام تحب ابنها الذي صار لص او قاتل اكثر من من الاخر الي اصبح كاهن.


المحاور: عن اي رواية تتحدث؟
فوكنر: "الصخب والعنف". لقد كتبتها خمس مرات منفصلة، في محاولة لاروي الحكاية، لاحرر نفسي من الحلم الذي استمر في ازعاجي حتى كتبت. انها تراجيديا عن امرأتين تائهتين: كادي وابنتها، ديسلي واحدة من شخصياتي المفضلة لانها تتحلى بالشجاعة والصدق والنبل أكثر مني.

المحاور: وكيف تبدأ "الصخب والعنف"؟
فوكنر: تبدأ بصورة ذهنية. لم اتميز رمزيتها في البداية. كانت الصورة لمؤخرة فتاة صغيرة ترتدي سروال تحتي موحل تسلقت شجرة الكمثرى لتستطيع ان تشاهد جنازة جدتها وتحكي لاخيها القابع فوق الارض عما تراه. بعد ذلك شرحت مَن هؤلاء وماذا كانوا يفعلون وكيف اتسخ سروالها التحتي بالوحل، ولقد ادركت ان هذه الاحداث قد تدور في قصة قصيرة ثم تنتقل الى رواية. ثم ادركت رمزية السروال الملطخ بالوحل واستبلدت هذه الصورة بفتاة صغيرة يتيمة تزحف عبر انبوب التصريف حتى تهرب من بيتها حيث انها لم تكن ابدا تتلق ايا من الحب او الاستيعاب او العطف. لقد بدأت بالفعل في تلي القصة من خلال اعين طفل احمق ولكني شعرت انها ستكون مؤثرة اكثر اذا حكيتها على لسان شخص في كامل قواه العقلية فقط ليكون مدرك ماذا حصل ولكن ليس لماذا حصل. فلقد رأيت اني في المرة الاولى لم ارو القصة بعد لذا انا في حاجة الى روايتها مرة اخرى، نفس القصة من خلال اعين اخ اخر. ولكنها بقيت ناقصة فحكيتها مرة اخرى من خلال اعين اخ ثالث. ولكني لم اشعر بالاكتمال بعد فحاولت جمع الشظايا معا وملأ الفجوات وجعلت نفسي الراوي في الجزء الاخير. ولكني لم أرض بعد، ليس بعد خمسة عشر عام من النشر عندما كتبت ما يشبه الملحق لكتاب اخر وهو المحاولة الاخيرة لحكي هذه القصة وطردها من ذهني. انه الكتاب الذي اشعر نحوه بالضعف فلم استطع ان اتركه وحيدا ولم استطع ايضا ان احكيه بالشكل الصحيح، رغم محاولاتي الجهيدة وكنت أود أن أحاول مرة أخرى رغم إني قد أفشل مرة أخرى.

المحاور: ما العاطفة التي اثارها بنجامين بداخلك؟
فوكنر: العاطفة الوحيدة التي اثارها بنجي هي الحزن والعطف على كل الرجال الذين يعانون من التوحد. لا تستطيع أن تشعر أي احساس حياله لإنه هو نفسه لا يشعر بأي شئ. الشئ الوحيد الذي اشعره تجاه هو القلق حول اذا كان شخصية ذات مصداقية بالنسبة لشخصية مبتكرة. لقد كان ديباجة مثل حفار القبور في الدراما الاليزابيثية. وجاء لهدف معين ثم ذهب. فهو غير قادر على فعل خير او شر لانه ليس لديه خبرة.

المحاور: هل يشعر بنجي بالحب؟
فوكنر: لم يكن بنجي لديه القدرة العقلية حتى ليكون أنانيا، لقد كان حيوان. لقد أدرك العطف والحب رغم إنه لا يعرف مسمياتهم، وكان هذا الادراك هو سبب خواره عندما شعر بتغير كادي تجاهه التي لم يعد يمتلكها، فهو كأحمق لم يع حتى اختفائها. هو فقط يعرف ان هناك شئ ما خطأ ترك فراغ كبير تسبب في حزنه. وسعى لملأ هذا الفراغ. الشئ الوحيد الذي تبقى منها هو نعلها المُهْمّل. وقد كان هو الحب والعطف بالنسبة له. كان متسخ لانه لم يكن متسق ولان ايضا الاتساخ لا يعني الكثير له. لم يعد يُفرق بين الاتساخ والنظافة اكثر من الخير والشر. لقد منحه النعل العطف والحب الذي لم يستطع تسميتهم ولم يعد يذكر لمن هذا النعل على قدر تذكره للحزن حتى اذا عادت كادي فلن يتعرف عليها.

المحاور: هل وردة النرجس التي قُدمت لبنجي تحمل اي دلالة؟
فوكنر: لقد اُعطيت له لصرف انتباهه، انها مجرد وردة كانت متاحة في الخامس من ابريل. لم يكن هذا متعمدا.

المحاور: هل هناك أية مزايا فنية في تصوير الرواية في القالب الرمزي، مثل الرمزية المسيحية التي استخدمتها في الرواية؟
فوكنر: نفس المزايا التي يجدها النجار في أركان مبنى مربع لانه يريد بناء منزل مربع الشكل. كان الرمز المسيحي هو المناسب لاستخدامه خاصة في هذه الرواية، مثل المستطيل، فالركن المربع هو الركن المناسب لبناء مستطيل، منزل قائم الزوايا.

المحاور: هل هذا يعني ان الفنان في امكانه ببساطة استخدام المسيحية كأداه مثل النجار الذي يستعير المطرقة؟
فوكنر: النجار الذي نتحدث عنه لم يفقد ابدا هذه المطرقة. كما أن لا أحد خارج المسيحية، أعني في الرواية. ذلك هو الرمز الشخصي للسلوك، بمعنى ان الشخص يجعل من نفسه شخص افضل من ما تريده نفسه. ايا كان الرمز، صليب او هلال او ايا كان، فذلك الرمز يُذَكِّر الشخص بواجبه نحو الجنس البشري. فالرموز المختلفة هي مخططات ضد ما يقيس عليه نفسه ويتعلم عن ماهيته. لا يمكن ان تُعَلَم المرء كيف يصبح صالحا مثل الكتب التي تعلمه العلوم الرياضية. انها توضح له كيف يكتشف نفسه، ويطور لنفسه رمز ومعيار اخلاقي ضمن قدراته وتطلعاته. باعطاء مثال فريد من المعاناه والتضحية والوعد بالامل. فالكُتّاب دائما يرسمون وسوف يرسمون فوق رموز من الوعي الاخلاقي، لان الرموز لا مثيل لها، الرجال الثلاث في "موبي ديك" الذين يقدمون ثالوث الضمير: لا يعرفون شيئا، يعرفون ولكن بلا اكتراث، يعرفون ويكترثون. تم تقديم نفس الثالوث في قصة لظابط طيار شاب يهودي، قال "هذا شئ رهيب. ارفض تقبله، حتى اذا اضطررت لرفض الحياة لن افعله". اما الامين العام للمخازن الشيخ الفرنسي فقد قال "هذا رهيب، ولكن يمكننا البكاء والتحمل"، والعدّاء الانجليزي قال "هذا رهيب، سأتخذ كافة الاجراءات بشأنه"

المحاور: هل جاءت القصتان المتباينتان لمجموعتك القصصية "النخيل البري" بين ضفتي كتاب واحد لهدف رمزي ما؟ هل هما، كما صرح بعض النقاد، شكل من الطباق الجمالي ام الامر تم بعشوائية فحسب؟
فوكنر: لا لا، انها قصة واحدة، قصة تشارلي وهاري الذين ضحوا بكل شئ من اجل الحب ثم خسروا. لم اكن اعرف انهم سيكونوا قصتين منفصلتين حتى بعد ان بدأت الكتاب. عندما وصلت لنهاية ما هو الان الفصل الاول من الكتاب اكتشفت فجأة ان هناك شئ ما مفقود ويحتاج الى تأكيد، شئ ما يرتقي بالعمل مثل الطباق الموسيقي. لذلك كتبت "الشيخ" خصيصا حتى عادت النخيل البري الى أوجها. ثم توقفت عن الكتابة في "الشيخ" وكتبت من البداية "النخيل البري" حتى بدأت في التهدل مرة اخرى. ثم أوصلتها للقمة ثانيةَ باضافة جزء اخر لتناقضها، وهو قصة الرجل الذي وجد حبه ويقضي بقية الكتاب في الهروب منه الى الحد الذي يجعله يذهب الى السجن طواعية حيث يكون في مأمن. هناك قصتين فقط بالمصادفة وربما بالضرورة. اما القصة الاساسية فهي قصة شارلوت وهاري.

المحاور: الى اي مدى تعتمد كتاباتك على التجربة الشخصية؟
فوكنر: لا يمكنني القول. لم أقوم بعدها ابدا. لان "لأي مدى" ليست أمرا مهما. فالكاتب يحتاج ثلاث اشياء: الخبرة، الرصد، والخيال، اي اثنين منهم وفي بعض الاحيان اي واحدة منهم، يمكنها تعويض نقص الصفات الاخرى. معي، يبدأ الامر غالبا مع فكرة وحيدة او ذكرى او صورة رمزية. كتابة القصة ليس الا مسألة عمل للوصول لتلك اللحظة من البدايات، لتفسير لماذا حدث هذا او ما تسبب به لاحقا. فالكاتب يحاول ان يخلق شخصيات ذات مصداقية ضمن مواقف انتقالية منطقية في اكثر طريق متنقل يمكنه الحصول عليه. من الواضح انه لابد له من استخدام البيئة التي يعرفها باعتبارها واحدة من ادواته. واود ان اقول ان الموسيقى اسهل وسيلة للتعبير منذ ان اُكتشفت بدايةَ في خبرة وتاريخ المرء. ولكن لان الكلمات هي موهبتي، فلابد ان احاول التعبير من خلال الكلمات عن الموسيقى الصافية التي قد تفعل ذلك بشكل افضل.

المحاور:: بعض الناس يقولون انهم لا يستطيعوا فهم كتاباتك، حتى بعد قراءاتها مرتين وثلاث. فماذا تقول لهم؟
فوكنر: اقرأوها للمرة الرابعة.

المحاور: لقد ذكرت الخبرة والرصد والخيال كأدوات مهمة للكاتب، وماذا عن الوحي؟
فوكنر: انا لا اعرف شئ عن الوحي لاني لا اعرف ما هو الوحي، لقد سمعت به ولكني ابدا لم اره.

المحاور: لقد ذكرت شيئا عن شغفك بالعنف ككاتب.
فوكنر: هذا مثل القول ان النجار شغوف بمطرقته. العنف ببساطة هو احدى ادوات النجار. الكاتب لا يستطيع أن يبني بأداه واحدة بيد أن النجار يستطيع.

المحاور: حدثنا عن بداياتك ككاتب.
فوكنر: كنت اعيش في نيو أورليانز، حيث كان امتهان اي شئ ضروري من اجل جني المال للآن والمستقبل. قابلت الكاتب الامريكي شروود اندرسون. كنا نسير معا عبر المدينة وقت الظهيرة ونتحدث مع الناس. وفي المساء نتقابل مرة اخرى ونحتسي زجاجة او اثنين من النبيذ بينما هو يتكلم وان استمع. لا اراه مطلقا اثناء النهار. لقد كان منعزل، يعمل. وفي اليوم التالي نعيد الكره. انا قررت اذا كانت هذه حياة الكاتب فهذه هي الحياة المناسبة لي. وبدأت بالفعل كتابة اول كتاب. في البداية وجدت الكتابة شئ ممتع. حتى اني نسيت اني لم ارى مستر اندرسون لمدة ثلاث اسابيع وجاء هو لبيتي، كانت اول مرة يأتي لي بنفسه، وقال "ماذا بك؟، هل أزعجك بمقابلتنا؟" فأخبرته اني عاكف على كتابة رواية. قال "يا الله" ثم مضى. عندما انتهيت وكانت "أجر الجندي" قابلت زوجة اندرسون في الشارع. سألتني عن الرواية فأخبرتها اني انهيتها. قالت "قال شيروود انه سيعقد معك صفقة، اذا لم يقرأ الرواية على مضض سيجعل ناشره يقبلها" فقلت "حسنا" وهكذا اصبحت كاتبا.

المحاور: ما هي نوعية العمل التي كانت توفر لك المال "للآن والمستقبل"؟
فوكنر: ايا كان، ما اجده. قد افعل القليل من كل شئ، تشغيل القوارب، طلاء البيوت، اساعد في تحريك الطائرات. ابدا لم احتاج لمبالغ طائلة لأن الحياة حينذاك كانت زهيدة في نيو أورليانز وكل ما كنت اطمح اليه هو مكان للنوم والقليل من الطعام والتبغ والشراب. كان هناك العديد من المهن التي في امكاني عملها لمدة يومين او ثلاث وكسب الكثير من المال تكفيني لبقية الشهر. وفقا لمزاجي فانا متشرد وصعلوك. عدم حاجتي الشديدة للمال جعلتني لا اعمل من اجله. من العار ان هناك الكثير من العمل في العالم فمن اكثر الاشياء حزنا ان الشئ الوحيد الذي يمكن للمرء فعله طوال ثمان ساعات في اليوم، يوم بعد يوم، هو العمل. فانت لا يمكنك ان تأكل او تشرب او تمارس الحب كل هذا الوقت. وهذا هو السبب وراء ان المرء يصنع نفسه بنفسه واي شخص اخر لا يفعل يصبح تعيس وفي حالة مزرية.

المحاور: لابد انك تشعر بالفضل نحو شيروود اندرسون، ولكن كيف تقييمه ككاتب؟
فوكنر: لقد كان اب لجيلي من الكتاب الامريكيين كما انه وضع تقاليد للكتابة الامريكية وهي التي سيحملها الناجحون منا على عاتقه. ابدا لم يحظ بتقدير مناسب. كان الكاتب الامريكي ثيودور درايزر بمثابة اخيه الاكبر والكاتب الامريكي مارك توين اب لكليهما.

المحاور: ماذا عن الكتاب الاوربيين في ذلك الوقت؟
فوكنر: اعظم اثنين في ذلك الوقت في رأيي الروائي الالماني توماس مان والروائي الايرلندي جيمس جويس. لابد ان نتعامل مع  "عوليس" على انها الواعظ الانجيلي الامي الذي يضاهي العهد القديم، بجانب الايمان.

المحاور: كيف تلقيت الخلفية الخاصة بك من الانجيل؟
فوكنر: جدي العظيم موري كان طيبا ونبيل بالنسبة لاطفال مثلنا. كما انه كان اسكتلندي ليس ورع ولا صارم في نظرنا، كان ببساطة ذو مبادئ ثابتة. كل صباح كان علينا ان نكون على اهبة الاستعداد لترديد آية من الكتاب المقدس واذا لم تتلو ايتك الخاصة فانك تحرم من الافطار. ولابد ان تكون آيه موثوق منها وصحيحة تماما. وفي صباح ما قد تجد فجأة عينه عليك، شديدة الزرقة، شديدة الطيبة والنبل بيد انها ليست صارمة على قدر قسوتها. وفي الصباح التالي لابد ان تكون معك آية جديدة. بطريقة ما، تبدأ في اكتشاف ان طفولتك انتهت وقد تجاوزتها الى العالم.

المحاور: هل تقرأ اعمالك المعاصرة؟
فوكنر: لا، الكتب التي اقراها هي الكتب التي كنت احبها وعرفتها اثناء شبابي، وبذلك اعود مرة اخرى لاصدقاء قدامى: العهد القديم، اعمال ديكنز، الكاتب البولندي جوزيف كونراد، وأُُفضل رواية الكاتب الاسباني ثرفانتس "دون كيخوتة"، فأنا اقرأها كل عام وكذلك الانجيل،  كما اقرأ لفلوبير وبلزاك الذي خلق عالم بكر على طريقته الخاصة، تيار من الدم خلال عشرين كتابا، دستوفسكي، تولستوي، شكسبير. كما اقرأ للروائي الامريكي هرمان ميلفيل بين الحين والاخر. اما عن الشعر، فاقرأ للشعراء الانجليز كريستوفر مارلو وتوماس كامبيان وبين جونسون وروبرت هريك وجون دون وجون كيتس وشيلي، مازلت اقرأ هاوسمان. في الاغلب قرأت كل هذه الكتب لذلك عندما اعود اليها فانا اقرأ عن شخصية ما او مشهد واحد وكأنني اتكلم او التقي مع صديق لمدة دقائق معدودة.

المحاور: وفرويد؟
فوكنر: عندما كنت في نيو اورليانز كان الجميع يتحدث عن فرويد، ولكني لم اقرأ له قط. ولا شيكسبير فعل. واشك ان ميلفيل فعل ذلك او حتى موبي ديك.

المحاور: هل قرأت رواية ألغاز قبل ذلك؟
فوكنر: قرأت لجورج سيمنون لانه يذكرني بشئ من تشيكوف.

المحاور: ما الشخصيات المفضلة لك؟
فوكنر: تعتبر سارة جامب من شخصياتي المفضلة، هي امرأة قاسية عديمة الرحمة وسكيرة وانتهازية ولا يعول عليها لديها جانب كبير سيئ ولكنها في النهاية شخصية. والسيدة هاريس وفالستاف والامير هال ودون كيشوت وبالطبع سانشو كما إني دائما شديد الاعجاب بالليدي ماكبث. وبوتوم وأوفيليا وميركتيو، هو والسيدة جامب تعاملا مع الحياة ولم يطلبوا اي خدمات وابدا لم ينتحبوا. وبالطبع هاكلبري فين وجيم. لم احب توم سوير بدرجة كبيرة لطبيعته الخشنة الفظة. كما احب سوت لوفنجوود من كتاب لجورج هاريس ما بين 1940 و1950 في جبال ولاية تينيسي. لم يكن لديه اوهام عن نفسه وبذل قصارى وسعه وفي اوقات معينة كان جبان وقد عرف ذلك ولم يشعره ذلك بالخجل. لم يسبق له ان القى باللوم على اي شخص بسبب سوء حظه ولم يفقد ايمانه بالله ابدا.

المحاور: هل لديك اي تعليق خاص بمستقبل الرواية؟
فوكنر: اتخيل ان طالما استمر القراء في قراءة الرواية سيستمر الكتاب في كتاباتهم وكذلك العكس، ما لم يكن المجلات المصورة والكوميكس جعلت قدرة الانسان على القراءة في طريقها للضمور والادب في طريقه الى الرجوع الى الكتابات المرسومة في كهوف النياندرتال.

المحاور: وماذا عن فن النقد؟
فوكنر: الفنانون ليس لديهم الوقت ليستمعوا الى النقاد. الذين يريدون ان يكونوا كتاب يستمعوا الى عرض الكتب ومراجعتها، ولكن الذي يكتب ليس لديه الوقت لذلك. النقاد ايضا يحاولون ان يثبتوا انفسهم "نحن هنا". فوظيفة الناقد غير موجهه الى الفنان نفسه. الفنان اعمق من الناقد، بالنسبة للفنان فكتابة شيئا ما، هو ما سيحرك الناقد. اما بالنسبة الى الناقد فان الكتابة هي ما تحرك اي شخص اخر غير الفنان.

المحاور: وبذلك انت لم تشعر قط برغبة في مناقشة اعمالك مع احد اخر؟
فوكنر: لا انا مشغول للغاية في الكتابة. اذا اسعدني المحتوى لا احب ان اتحدث عنه، واذا لم يفعل فالحديث عنه لن يجعله افضل، فالشئ الوحيد الذي سيجعله افضل هو العمل عليه مرة اخرى. انا لست رجل ادب، انا فقط كاتب. ولا اجني اي سعادة من متجر الكلام.

المحاور: يدعي النقاد ان قرابة الدم هي المحرك الرئيسي لاعمالك
فوكنر: هذا رأي وكما قلت قبل ذلك، انا لا اقرأ للنقاد. وأرتاب في ان محاولة الرجل الكتابة عن الناس هي اهتمام لقرابة الدم اكثر منها اهتمام بمظاهرهم واشكالهم، حتى اذا كان ذلك مهم لمساعدته في اكتمال القصة. اذا ركز الكاتب انتباهه في ما يحتاج للاهتمام به، مثل الحقيقة والاحساس الانساني، لن يتوفر له الوقت لأي شئ اخر، مثل الافكار والحقائق عن المظاهر او قرابة الدم. حتى ان الافكار والحقائق، في رأيي انا، لديها صلة ضعيفة بالحقيقة.

المحاور: يقول النقاد كذلك ان شخصياتك لا يختاروا بين الخير والشر بشكل واع.
فوكنر: الحياة لا تهتم بالخير والشر. فشخصية دون كيشوت كانت تختار بين الخير والشر باطراد وبعد ذلك بدأ يختار في احلامه. لقد كان مجنونا. لقد ادرك الواقع فقط عندما اصبح مشغولا بالتعامل مع الناس حتى انه لم يعد لديه الوقت ليفرق بين الخير والشر. مثل هؤلاء موجودون فقط في الحياة فلابد لهم ان يكرسوا وقتهم ليحيوا. فالحياة حركة والحركة ترتبط بما يجعل المرء متحركا مثل التطلع والقوة والسعادة.

المحاور: ألا توضح لنا ما معنى كلامك عن الحركة فيما يتعلق بالفنان؟
فوكنر: هدف كل كاتب هو كبح الحركة والتي هي الحياة بوسائل صناعية والابقاء عليها ثابته لمئات السنين لوقت لاحق، وعندما ينظر اليها شخص غريب تتحرك ثانية وكأنها الحياة. حتى اذا كان المرء فاني، فان السبيل الوحيد لامكانية الخلود بالنسبة له هو ترك شئ ما خلفه وبذلك يبقى خلوده في حركة دائمة.

المحاور: يقول الناقد الادبي مالكوم كولي ان شخصياتك تذعن لاقدارها.
فوكنر: هذا رأيه. بعض الشخصيات تفعل وبعضها لا يفعل، مثل الشخصيات الواقعية. مثلا شخصية لنا جروف في "ضوء في أغسطس" واجهت نفسها بارادة بارعة. لم يكن بالفعل شئ مهم بالنسبة لها فيما يتعلق بالقدر واذا ما كان زوجها هو لوكاس بورش ام لا. لقد كان قدرها ان يكون لها زوج وأطفال وهي تعرف ذلك وقد خرجت واعتنت بهم دون طلب المساعدة من اي شخص. كانت قائد لروحها. واحدا من اهدأ واعقل الكلام الذي سمعته على الاطلاق كان عندما قالت لبايرون بونتش بلحظة عميقة في محاولة لصد محاولته اليائسة والمتهورة في الاغتصاب "ألا تخجل؟ ربما توقظ الطفل." لم ترتبك لحظة، او تخاف او تقلق. انها حتى لم تدرك عدم احتياجها للرثاء. اخر حوار لها على سبيل المثال "لم اسافر الا لشهر، وانا بالفعل في تينيسي. يا الهي، يا الهي، الجسد يراوغ".
عائلة باندرن في "بينما ارقد محتضرا" واجهت نفسها بإرادة قوية. فالاب فقد زوجته واحس بحاجته لشريكة اخرى فتزوج مرة ثانية. وبضربة واحدة لن يستبدل طباخ الاسرة فحسب بل حصل على جرامافون ليضفي البهجة عليهم اثناء استرخائهم. فشل حمل الابنة هذه المرة لتعود الى حالتها الصحية ولكن لم تثبط عزيمتها. وقررت المحاولة مرة اخرى وحتى اذا فشل الجميع حتى النهاية لم يكن هذا يمثل شئ بل مجرد طفل.

المحاور: كما يقول مستر كولي انك تجد صعوبة في خلق شخصيات يتراوح عمرها بين العشرين والاربعين، حيث خفة الروح.
فوكنر: الشخصيات ما بين  العشرين والاربعين ليسوا متعاطفين او حساسين او خفيفين الروح. فالطفل لديه القدرة على ذلك ولكن القدرة نفسها لا تدرك هذا. انها فقط تعرف بعد ان يكون المرء غير قابل للتعاطف بعد الاربعين. بين العشرين والاربعين تكون ارادة الطفل قوية وخطيرة ولكنه لم يبدأ التعلم ليدرك ذلك. ولكن البيئة المحيطة والضغوط تجعل تلك القدرات تسير نحو الشر، فالرجل يكون قوي قبل ان يكون اخلاقيا. كما ان ازعاج العالم يكون بسبب من هم بين العشرين والاربعين. فالناس حول بيتي الذين يتسببون في توترعرقي، كل من هم على شابهة ميلام وبراينت الذين قتلوا ايميت تل* وعصابات السود الذين اختطفوا امرأة بيضاء واغتصبوها بعنف، واشباه هتلر ونابليون ولينين، كل هؤلاء هم نماذج بشرية وللازعاج ولمن تعذبوا بسببهم وكلهم كانوا بين العشرين والاربعين.

المحاور: لقد صرحت للصحف برأيك في مقتل ايميت تل. هل لديك اي اضافة تقولها لنا؟
فوكنر: لا، فقط سأعيد ما قلته قبل ذلك: اذا كنا نحن كأمريكيين نطمح للبقاء على قيد الحياة سيكون علينا ان نختار وننتخب وندافع لنكون اول الامريكيين في تقديم للعالم جبهة واحدة متجانسة ومتصلة سواء كانت من الامريكيين البيض او السود او الارجوانيين او الزرق او الخضر. ربما كان الهدف من ذلك القتل الخطأ المأساوي والمؤسف في بلدتي المسيسيبي بواسطة اثنان من الامريكان البيض تجاه صبي اسود حزين هو اثبات لنا ما اذا كنا نستحق البقاء ام لا. لاننا اذا وصلنا الى ذلك المنحنى في ثقافتنا البائسة الذي هو قتل الاطفال، لا يهم ما هي الاسباب او اللون، فاننا لا نستحق البقاء ومن المحتمل اننا لن نبقى.

المحاور: ماذا حدث لك بين "اجر الجندي" و"سارتوريس"، هذا هو ما جعلك تبدأ ملحمة يوكناباتوفا؟
فوكنر: في "اجر الجندي" وجدت ان الكتابة ممتعة. ولكني اكتشفت بعد ذلك ان ليس فقط لابد لكل كتاب ان يكون لديه تصميم خاص ولكن كل اعمال او بعض من اعمال الكاتب لابد ان يكون لها تصميم خاص بها. في "اجر الجندي" و"البعوض" كتبت من اجل الكتابة، لقد كانت حقا ممتعة. بدءا من "سارتوريس" اكتشفت ان طابعي البريدي الصغير للارض الام يستحق بالطبع الكتابة عنه ولن اعيش الوقت الكافي ابدا لمعالجة هذا الموضوع. ولذلك خلقت الكون الخاص بي فأحرك الناس وكأني اله، ليس فقط في المكان ولكن في الوقت ايضا. حقيقة اني احرك شخصياتي عبر الزمن بنجاح، على الاقل في تقديري، تثبت لي ان نظريتي الخاصة عن الوقت هي حالة سائلة حيث لا وجود لها الا في لحظة تجسد الافراد. لا يبقى شيئا على حاله. اذا كان موجودا، لن يكون هناك اي حزن أو أسى. احب ان افكر في العالم الذي خلقته كشكل من اشكال حجر الزاوية في الكون، فهو صغير مثله، ولكن اذا انتزع من العالم سيختل. اخر كتاب لي سيكون يوم الخلاص، الكتاب الذهبي، لمقاطعة يوكناباتوفا. بعدها سأكسر قلمي واضطر الى التوقف. 

ترجمة: أميمة صبحي
عن باريس ريفيو - 1956 

Tuesday, July 9, 2013

ويليام فوكنر: مسؤولية الكاتب عمله فقط



عندما طلب محرر مجلة Paris Review من ويليام فوكنر أن يشارك بمعتقداته في سلسلة The Art of Fiction عام 1956، لم يتردد الأديب الأمريكي عن تقديم عدة نصائح للكاتب المبتدئ الطموح قائلا: "يحتاج الكاتب ثلاث اشياء، الخبرة والرصد والخيال، أي اثنين منهما، وفي بعض الأحيان أي واحدة منهم، يمكنها دعم نقص الآخريات. فلابد للكاتب أن يتقن أدوات صنعته". كانت أدوات فوكنر عبارة عن ورق وتبغ وطعام والقليل من النبيذ. يسأله المحرر " تقصد نبيذ امريكي؟" فيجيبه فوكنر "لا..ليس تحديدا، أحبذ الاسكوتش أكثر". وفي سؤال آخر "ماذا تقول للقراء الذين لا يفهمون كتاباتك رغم قراءتها مرتين وربما ثلاث؟". "أقول لهم اقرأوها مرة رابعة".
من المحتمل أن فوكنر كان مشغول في التفكير في روايته "الصخب والعنف" التي نشرت عام 1929 عندما قال ذلك، تلك الرواية التي تأخذك عبر الأحداث ذاتها أربع مرات من خلال منظور مختلف لأربع شخصيات مختلفة، ربما تستطيع مع الحظ والمثابرة ان تجمع السرد. عندما انتهى من كتابتها آخذها فوكنر إلى صديقه ووكيله الفني بين واسن وقال له :"اقرأ هذه، إنها رواية بنت عاهرة..إنها أعظم ما سأكتبه يوما". لم تحظ الرواية بشهرة واسعة في البداية ولكن في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ القراء يشاركون فوكنر رأيه: بالنسبة للعديد من القراء فإن "الصخب والعنف" من أعظم ما كتب فوكنر وتقريبا بالنسبة للجميع فإنها رواية بنت عاهرة.
المعروف أن عنوان الرواية مأخوذ من مونولوج لماكبث وهو يعبر عن تلك الرواية "حكاية / يقصها أحمق، مفعم بالصخب والعنف، / مما يعني لا شئ". لقد أستهل فوكنر الرواية بعقل هذا الـ "أحمق" وهو بينجي الذي يبلغ من العمر 33 عام ولديه عقل طفل صغير (يصف فوكنر شخصية بنجامين دائما بـ "المتأخر عقليا"، وهو ما يُعرف الآن بالتوحد. ولكنه في النهاية شخصية خيالية في عمل روائي في عصر كان المرضى أمثاله غير مدربين على الحياة الإجتماعية. مما يعني أنه لا جدوى من مناقشة ما خطب بنجي). يستخدم فوكنر أسلوب "تداعي الذاكرة"* الأدبي في السرد ليوضح طريقة عمل عقل بنجي عبر الوقت: الذاكرة، مواجهة الواقع والعاطفة والتحولات وإعادة تجميع الأشياء من حوله.
لم يكن بنجي يفهم ما يدور من حوله وبذلك لا يستطيع أن يكون الراوي لما يراه من أحداث، فأجبر فوكنر القارئ على التركيز والعمل على معرفة ما يحدث بنفسه ومتى يحدث من خلال مفاتيح فك الالغاز التي يسقطها بين سطور النص. أنه نوع من أدب البوليس السري الذي بوسعه أن يقود بعض القراء للجنون، ولكنه أيضا ينطوي تحت نظرية "البرهان بالتناقض" وهو افتراض أن نظرية ما أو فكر ما خاطئ ومحاول نقضه في الكتابة نفسها. تتطلب القراءة من القراء أن يستنتجوا المعنى: يحول الفصل الأول من "الصخب والعنف" الاستنتاج إلى فعل رياضي محض. فيتحرك خلال حوالي 14 دقيقة متباينة عبر ثلاثين عام في ذاكرة بنجي وكل ذلك دون لفت نظر القارئ إلى أن هناك تحولات تحدث في الزمن.
في نقاط متعددة من سرد بنجامين، استخدم فوكنر الخط المائل ليؤكد على ارتباكه. فإرتباك الاحمق المتواصل والواضح بشدة يبدو ظاهريا متماسك ديناميكيا ومنطقيا، يوضح فوكنر في خطاب "كنت اتمنى ان يكون النشر متطور بشكل كاف ليسمح بنشر بعض الجمل في الكتب بحبر ملون....اعتقد إني سأحتفظ بالفكرة الى ان تتطور صناعة النشر الى هذه المرحلة"
وفي عام 2012 تحول حلم فوكنر الى حقيقة حيث قاما ستيفن روز ونويل بولك الباحثين في أدب فوكنر بعمل نسخ محدودة، 1480 نسخة، من روايته بالألوان كما كان يأمل وقامت بنشره The Folio Society. النسخ تم ترقيمها باليد وطبعت على ورق فاخر يحتفظ بالألوان مع حافة علوية مذهبة والربع العلوي من الغلاف مصنوع من جلد الماعز القرمزي المغطى باللون الذهبي.
ربما يعترض البعض على تحويل هذه التحفة الأدبية لعمل استهلاكي ولكن بالتأكيد سيقدر الآخرون هذا المجهود المتواصل لإعادة اكتشاف هذه الكنوز في عصر النشر الإلكتروني. النسخة بلا شك رائعة وستنال اعجاب محبي القراءة والكتب، السؤال الأقل جمالية هو هل النظام التلويني الذي اتبعه الباحثون كان مفيد في تتبع افكار بنجي أم كان معيق للفهم.
بالطبع هذا سؤال لن يستطيع روز وبولك الاجابة عليه بسهولة، بل ويعترفوا ان طبعتهم المحدودة طرحت سؤال اخر: لنكن اكثر دقة، هل فرض النظام التلويني على النص حتمية القراءة، بالبعد الثالث، وهذا ما لم يفعله النص الابيض والاسود وانكر حق القارئ في أنه يتنقل بحرية في اجواء البعد الثاني، الأبيض والأسود واللغة اللاتينية والخط المائل الذين هم في آن واحد أمر شاق ومبهج. بالطبع يعي الباحثون هذه الأخطار، ولكنهم اعتقدوا أن الأمر يستحق المغامرة والتجريب. "كل قارئ سيحتاج أن يقرر من تلقاء نفسه أي نسخة مناسبة له".
تذكرني قراءة تلك النسخة الملونة برواية الكاتبة الإيرلندية ايريس ماردوخ The Bell "لم يكن الحديث بتلك الصعوبة على قدر جنونه". فمحاولة تلخيص "الصخب والعنف" محاولة تجلب الصداع النصفي، إنها تجربة عابثة لا محالة، حاول التعليق علي كل سطر على السواء بينما تضفي لون موحد على كل مرحلة زمنية تَعّبُر من خلالها أفكار بنجي، ستشعر كأنك باحث مختل تنخرط في تجربة ادبية مجنونة من إبداعات الكاتب الارجنتيني بورخيس. وحتى الان، لا يماثل هوس بورخيس الفني البديع إلا جنون الباحث ألفريد ابيل نحو محاولة تلخيص والتعليق على رواية لوليتا للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف. إنه من المدهش والمدمر والمحير والجنون والتنوير جعل قوس قزح يتغلغل في التدفق الزمني لفوكنر.
وتبقى الصخب والعنف من روايات فوكنر المفضلة، لقد كانت روايته الرابعة، والثانية التي ذكر فيها مقاطعة يوكنابتاوفا، وهي مقاطعة مُتَخْيّلة ويقال إنه استوحاها من مقاطعة لافيات بولاية المسيسبي وكان يطلق عليها "مقاطعتي الملفقة"، وتعتبر تلك الرواية طفرة فنية والتي قد تميز اعماله الاحتفالية التالية مثل "نور في أغسطس" و"بينما أرقد محتضرا" و"إهبط، يا موسى" والكتاب الذي اعتبره على رأس جميع اعماله وتحفته الادبية "أبشالوم أبشالوم!"
لم يتوقف فوكنر هنا: كتب على اللأقل ثمان روايات أخرى وتقريبا نصف دزينة من القصص القصيرة تدور احداثهم في مقاطعة يوكناباتوفا وقد وضع خريطتها اخيرا في روايته "أبشالوم أباشالوم!"، لقد كتب عن تسلسل نسب عائلات كومبسونس الارستقراطية وسارتورس وعائلة سنوبس محدثي النعمة في عدة روايات، استطاع ان ينسج خطب شعرية وتفسيرات وتفاصيل اقدار الثلاث عائلات في قلب عالم إسطوري. انهم يقصوا علينا تاريخ اضمحلال وتدهور الجنوب الامريكي.
ولد ويليام فوكنر بإسم ويليام كوثبرت فوكنر في شهر سبتمبر عام 1897 في نيو ألباني بولاية مسيسيبي ثم انتقلت عائلته الى مقاطعة اكسفورد بنفس الولاية حيث قضى بقية حياته واستمد منها جيفرسون عاصمة مقاطعته المُتَخْيّلة. عندما كان شابا، عام 1918، حاول الالتحاق بالقوات الجوية ولكنه رُفِضَ لقِصر قامته الملحوظ. ولكنه لم ييأس وقرر ان يكون رجل انجليزي وسعى للتجنيد في وحدة الاحتياط  بالقوات المسلحة البريطانية، فقام بتغيير حروف اسمه واختلق تاريخ عائلة بريطانية اسطورية لنفسه. ولاسباب غير معلومة لم يحاول فوكنر ان يستعيد اسمه الاصلي مرة اخرى.
بالطبع لم يخدم فوكنر اطلاقا في الجيش بشكل حقيقي: ففي عام 1925 نشر اول اعماله الروائية  "أجر جندي" ثم تبعها بشكل عشوائي رواية "البعوض". كان يرى روايته التالية "رايات في الرماد" والتي بدأ فيها الكتابة عن مقاطعته المُتَخْيّلة، إنها أفضل أعماله على الاطلاق ولذلك صدم عندما علم برفض ناشره لها فأجرى عليها تعديلات كثيرة ونشرت لاحقا باسم "سارتوريس" عام 1928. يقول فوكنر "الخبرة فقط قادتني الى طفرة "الصخب والعنف"، فلقد نفضت يدي من الناشرين وقررت ان اكتب ما يحلو لي"
بالرغم من أن كتبه قد نالت إعجابا من الكتاب الآخرين إلا إنه كان كاتب مغمور في بداياته لمدة لا تقل عن عقد كامل حتى نشر "الملاذ" عام 1931 ولقد كانت الأعلى مبيعا حينذاك. ويعود نجاحها الى محتواها الذي يصور العنف الجنسي من خلال قصة امرأة تم اغتصابها بكوز ذرة ثم تحولت الى عاهرة لاسباب مجتمعية بحتة بالطبع. ومن الصعوبة تتبع متى بدأ فوكنر طريقه نحو هوليوود، حيث اتفق على تقديم عدة قصص له لشاشة السينما عام 1949وقتما حصل على جائزة نوبل للآداب. كما حصل على جائزة بوليترز عن روايتيه اللاتين نُشرا بعد وفاته "حكاية" و"اللصوص" عام 1962
تحكي "الصخب والعنف" قصة انحدار عائلة كومبسون، عندما سأل تلميذ صغير فوكنر لماذا واجهت عائلة كومبسون هذا الوضع الكارثي؟ أجاب "لأنهم عاشوا في الستينيات (1860s)". الوقت الذي تدور به أحداث الرواية من بداية القرن العشرين حتى اخر العشرينيات ولكن بقيت تلك العائلة غارقة في افكار ومعتقدات بالية توارثتها من الجنوب الامريكي اثناء الحرب الاهلية الامريكية (1861 – 1865)، مدمرين انفسهم بمحاولاتهم العقيمة للعيش وسط امتيازات جنسية وعرقية وطبقية بائدة.
تشبه الرواية كثيرا المآسي اليونانية، فتحكي قصة كادي، المرأة المفقودة، من وجهة نظر ثلاث من اخواتها وهم يعانوا من التيه والفقد ايضا، واخيرا من وجهة نظر خادمة العائلة السوداء ديسلي. كادي هي مركز القَص الغائب هنا، نقطة تلاقي جميع الشخصيات ولكنها غير معروفة ولا يُعرف لها طريق مثل الحقيقة تماما. الرواية ايضا متباينة الطبقات والاساليب، استخدم فوكنر نسيج من الكلمات والصور ليبدع وحدة فنية تجاوزت كل وجهات النظر المفتتة البادية للعيان.
قال فوكنر ان تراجيديا فقد كادي وابنتها جاءته لاول مرة كخاطرة على هيئة صورة لفتاة صغيرة ذات سروال تحتي موحل، وقد احبها كثيرا، "لانها جعلتني حزينا مكروبا، مثل الام التي احبت ابنها الذي اصبح قاتل ولص اكثر من الاخر الذي اصبح كاهن". كانت هذه الرواية اكثر رواية شعر فوكنر من خلالها "بالتعاطف نحو الاخفاق الاكثر نبلا والاكثر عظمة، لم اتمكن من ان اترك السرد يسير في اتجاه بمفرده ولم اتمكن في نفس الوقت من ان اسردها بالشكل الصحيح، لقد حاولت جاهدا واعتقد اني احب ان اجرب ثانية رغم اني ربما افشل ثانية".
في عام 1998 قامت دار النشر Modern Library بتقييم "الصخب والعنف" كسادس اعظم رواية مكتوبة بالانجليزية في القرن العشرين في قائمة تضم مائة رواية. ولكن قد لا يعجب فوكنر بهذا التقييم، ففي حواره مع "باريس ريفيو" قال "انا لا اهتم كثيرا برأي اي شخص في اعمالي او اعمال غيري من الكتاب، فمعياري التقييمي هو حتمية الشعور بسير العمل بالطريق الذي لابد ان اسلكه وانا اقرأ لوحة "اغراء سانت انطوني" أو "العهد القديم". وأخيرا صرح "الكاتب مسئوليته هي عمله فقط، فإذا اضطر الى اغتصاب امه فلن يتردد" قال ذلك معتقدا ان اذا كان الكاتب يتحول الى قاس عديم الرحمة فذلك هو الثمن الذي على العالم ان يدفعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تداعي الذاكرة: هو تقنية ادبية تسعى لاظهار وجهة نظر الشخص من خلال صياغة افكاره بصيغة كتابية إما ان تكون على هيئة
محادثة داخلية غير مترابطة او متعلقة بافعال الشخص.

كتبت: سارة تشارشويل
ترجمة: أميمة صبحي 
نُشر في مجلة الدوحة الثقافية - يوليو 2013