Tuesday, July 9, 2013

ويليام فوكنر: مسؤولية الكاتب عمله فقط



عندما طلب محرر مجلة Paris Review من ويليام فوكنر أن يشارك بمعتقداته في سلسلة The Art of Fiction عام 1956، لم يتردد الأديب الأمريكي عن تقديم عدة نصائح للكاتب المبتدئ الطموح قائلا: "يحتاج الكاتب ثلاث اشياء، الخبرة والرصد والخيال، أي اثنين منهما، وفي بعض الأحيان أي واحدة منهم، يمكنها دعم نقص الآخريات. فلابد للكاتب أن يتقن أدوات صنعته". كانت أدوات فوكنر عبارة عن ورق وتبغ وطعام والقليل من النبيذ. يسأله المحرر " تقصد نبيذ امريكي؟" فيجيبه فوكنر "لا..ليس تحديدا، أحبذ الاسكوتش أكثر". وفي سؤال آخر "ماذا تقول للقراء الذين لا يفهمون كتاباتك رغم قراءتها مرتين وربما ثلاث؟". "أقول لهم اقرأوها مرة رابعة".
من المحتمل أن فوكنر كان مشغول في التفكير في روايته "الصخب والعنف" التي نشرت عام 1929 عندما قال ذلك، تلك الرواية التي تأخذك عبر الأحداث ذاتها أربع مرات من خلال منظور مختلف لأربع شخصيات مختلفة، ربما تستطيع مع الحظ والمثابرة ان تجمع السرد. عندما انتهى من كتابتها آخذها فوكنر إلى صديقه ووكيله الفني بين واسن وقال له :"اقرأ هذه، إنها رواية بنت عاهرة..إنها أعظم ما سأكتبه يوما". لم تحظ الرواية بشهرة واسعة في البداية ولكن في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ القراء يشاركون فوكنر رأيه: بالنسبة للعديد من القراء فإن "الصخب والعنف" من أعظم ما كتب فوكنر وتقريبا بالنسبة للجميع فإنها رواية بنت عاهرة.
المعروف أن عنوان الرواية مأخوذ من مونولوج لماكبث وهو يعبر عن تلك الرواية "حكاية / يقصها أحمق، مفعم بالصخب والعنف، / مما يعني لا شئ". لقد أستهل فوكنر الرواية بعقل هذا الـ "أحمق" وهو بينجي الذي يبلغ من العمر 33 عام ولديه عقل طفل صغير (يصف فوكنر شخصية بنجامين دائما بـ "المتأخر عقليا"، وهو ما يُعرف الآن بالتوحد. ولكنه في النهاية شخصية خيالية في عمل روائي في عصر كان المرضى أمثاله غير مدربين على الحياة الإجتماعية. مما يعني أنه لا جدوى من مناقشة ما خطب بنجي). يستخدم فوكنر أسلوب "تداعي الذاكرة"* الأدبي في السرد ليوضح طريقة عمل عقل بنجي عبر الوقت: الذاكرة، مواجهة الواقع والعاطفة والتحولات وإعادة تجميع الأشياء من حوله.
لم يكن بنجي يفهم ما يدور من حوله وبذلك لا يستطيع أن يكون الراوي لما يراه من أحداث، فأجبر فوكنر القارئ على التركيز والعمل على معرفة ما يحدث بنفسه ومتى يحدث من خلال مفاتيح فك الالغاز التي يسقطها بين سطور النص. أنه نوع من أدب البوليس السري الذي بوسعه أن يقود بعض القراء للجنون، ولكنه أيضا ينطوي تحت نظرية "البرهان بالتناقض" وهو افتراض أن نظرية ما أو فكر ما خاطئ ومحاول نقضه في الكتابة نفسها. تتطلب القراءة من القراء أن يستنتجوا المعنى: يحول الفصل الأول من "الصخب والعنف" الاستنتاج إلى فعل رياضي محض. فيتحرك خلال حوالي 14 دقيقة متباينة عبر ثلاثين عام في ذاكرة بنجي وكل ذلك دون لفت نظر القارئ إلى أن هناك تحولات تحدث في الزمن.
في نقاط متعددة من سرد بنجامين، استخدم فوكنر الخط المائل ليؤكد على ارتباكه. فإرتباك الاحمق المتواصل والواضح بشدة يبدو ظاهريا متماسك ديناميكيا ومنطقيا، يوضح فوكنر في خطاب "كنت اتمنى ان يكون النشر متطور بشكل كاف ليسمح بنشر بعض الجمل في الكتب بحبر ملون....اعتقد إني سأحتفظ بالفكرة الى ان تتطور صناعة النشر الى هذه المرحلة"
وفي عام 2012 تحول حلم فوكنر الى حقيقة حيث قاما ستيفن روز ونويل بولك الباحثين في أدب فوكنر بعمل نسخ محدودة، 1480 نسخة، من روايته بالألوان كما كان يأمل وقامت بنشره The Folio Society. النسخ تم ترقيمها باليد وطبعت على ورق فاخر يحتفظ بالألوان مع حافة علوية مذهبة والربع العلوي من الغلاف مصنوع من جلد الماعز القرمزي المغطى باللون الذهبي.
ربما يعترض البعض على تحويل هذه التحفة الأدبية لعمل استهلاكي ولكن بالتأكيد سيقدر الآخرون هذا المجهود المتواصل لإعادة اكتشاف هذه الكنوز في عصر النشر الإلكتروني. النسخة بلا شك رائعة وستنال اعجاب محبي القراءة والكتب، السؤال الأقل جمالية هو هل النظام التلويني الذي اتبعه الباحثون كان مفيد في تتبع افكار بنجي أم كان معيق للفهم.
بالطبع هذا سؤال لن يستطيع روز وبولك الاجابة عليه بسهولة، بل ويعترفوا ان طبعتهم المحدودة طرحت سؤال اخر: لنكن اكثر دقة، هل فرض النظام التلويني على النص حتمية القراءة، بالبعد الثالث، وهذا ما لم يفعله النص الابيض والاسود وانكر حق القارئ في أنه يتنقل بحرية في اجواء البعد الثاني، الأبيض والأسود واللغة اللاتينية والخط المائل الذين هم في آن واحد أمر شاق ومبهج. بالطبع يعي الباحثون هذه الأخطار، ولكنهم اعتقدوا أن الأمر يستحق المغامرة والتجريب. "كل قارئ سيحتاج أن يقرر من تلقاء نفسه أي نسخة مناسبة له".
تذكرني قراءة تلك النسخة الملونة برواية الكاتبة الإيرلندية ايريس ماردوخ The Bell "لم يكن الحديث بتلك الصعوبة على قدر جنونه". فمحاولة تلخيص "الصخب والعنف" محاولة تجلب الصداع النصفي، إنها تجربة عابثة لا محالة، حاول التعليق علي كل سطر على السواء بينما تضفي لون موحد على كل مرحلة زمنية تَعّبُر من خلالها أفكار بنجي، ستشعر كأنك باحث مختل تنخرط في تجربة ادبية مجنونة من إبداعات الكاتب الارجنتيني بورخيس. وحتى الان، لا يماثل هوس بورخيس الفني البديع إلا جنون الباحث ألفريد ابيل نحو محاولة تلخيص والتعليق على رواية لوليتا للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف. إنه من المدهش والمدمر والمحير والجنون والتنوير جعل قوس قزح يتغلغل في التدفق الزمني لفوكنر.
وتبقى الصخب والعنف من روايات فوكنر المفضلة، لقد كانت روايته الرابعة، والثانية التي ذكر فيها مقاطعة يوكنابتاوفا، وهي مقاطعة مُتَخْيّلة ويقال إنه استوحاها من مقاطعة لافيات بولاية المسيسبي وكان يطلق عليها "مقاطعتي الملفقة"، وتعتبر تلك الرواية طفرة فنية والتي قد تميز اعماله الاحتفالية التالية مثل "نور في أغسطس" و"بينما أرقد محتضرا" و"إهبط، يا موسى" والكتاب الذي اعتبره على رأس جميع اعماله وتحفته الادبية "أبشالوم أبشالوم!"
لم يتوقف فوكنر هنا: كتب على اللأقل ثمان روايات أخرى وتقريبا نصف دزينة من القصص القصيرة تدور احداثهم في مقاطعة يوكناباتوفا وقد وضع خريطتها اخيرا في روايته "أبشالوم أباشالوم!"، لقد كتب عن تسلسل نسب عائلات كومبسونس الارستقراطية وسارتورس وعائلة سنوبس محدثي النعمة في عدة روايات، استطاع ان ينسج خطب شعرية وتفسيرات وتفاصيل اقدار الثلاث عائلات في قلب عالم إسطوري. انهم يقصوا علينا تاريخ اضمحلال وتدهور الجنوب الامريكي.
ولد ويليام فوكنر بإسم ويليام كوثبرت فوكنر في شهر سبتمبر عام 1897 في نيو ألباني بولاية مسيسيبي ثم انتقلت عائلته الى مقاطعة اكسفورد بنفس الولاية حيث قضى بقية حياته واستمد منها جيفرسون عاصمة مقاطعته المُتَخْيّلة. عندما كان شابا، عام 1918، حاول الالتحاق بالقوات الجوية ولكنه رُفِضَ لقِصر قامته الملحوظ. ولكنه لم ييأس وقرر ان يكون رجل انجليزي وسعى للتجنيد في وحدة الاحتياط  بالقوات المسلحة البريطانية، فقام بتغيير حروف اسمه واختلق تاريخ عائلة بريطانية اسطورية لنفسه. ولاسباب غير معلومة لم يحاول فوكنر ان يستعيد اسمه الاصلي مرة اخرى.
بالطبع لم يخدم فوكنر اطلاقا في الجيش بشكل حقيقي: ففي عام 1925 نشر اول اعماله الروائية  "أجر جندي" ثم تبعها بشكل عشوائي رواية "البعوض". كان يرى روايته التالية "رايات في الرماد" والتي بدأ فيها الكتابة عن مقاطعته المُتَخْيّلة، إنها أفضل أعماله على الاطلاق ولذلك صدم عندما علم برفض ناشره لها فأجرى عليها تعديلات كثيرة ونشرت لاحقا باسم "سارتوريس" عام 1928. يقول فوكنر "الخبرة فقط قادتني الى طفرة "الصخب والعنف"، فلقد نفضت يدي من الناشرين وقررت ان اكتب ما يحلو لي"
بالرغم من أن كتبه قد نالت إعجابا من الكتاب الآخرين إلا إنه كان كاتب مغمور في بداياته لمدة لا تقل عن عقد كامل حتى نشر "الملاذ" عام 1931 ولقد كانت الأعلى مبيعا حينذاك. ويعود نجاحها الى محتواها الذي يصور العنف الجنسي من خلال قصة امرأة تم اغتصابها بكوز ذرة ثم تحولت الى عاهرة لاسباب مجتمعية بحتة بالطبع. ومن الصعوبة تتبع متى بدأ فوكنر طريقه نحو هوليوود، حيث اتفق على تقديم عدة قصص له لشاشة السينما عام 1949وقتما حصل على جائزة نوبل للآداب. كما حصل على جائزة بوليترز عن روايتيه اللاتين نُشرا بعد وفاته "حكاية" و"اللصوص" عام 1962
تحكي "الصخب والعنف" قصة انحدار عائلة كومبسون، عندما سأل تلميذ صغير فوكنر لماذا واجهت عائلة كومبسون هذا الوضع الكارثي؟ أجاب "لأنهم عاشوا في الستينيات (1860s)". الوقت الذي تدور به أحداث الرواية من بداية القرن العشرين حتى اخر العشرينيات ولكن بقيت تلك العائلة غارقة في افكار ومعتقدات بالية توارثتها من الجنوب الامريكي اثناء الحرب الاهلية الامريكية (1861 – 1865)، مدمرين انفسهم بمحاولاتهم العقيمة للعيش وسط امتيازات جنسية وعرقية وطبقية بائدة.
تشبه الرواية كثيرا المآسي اليونانية، فتحكي قصة كادي، المرأة المفقودة، من وجهة نظر ثلاث من اخواتها وهم يعانوا من التيه والفقد ايضا، واخيرا من وجهة نظر خادمة العائلة السوداء ديسلي. كادي هي مركز القَص الغائب هنا، نقطة تلاقي جميع الشخصيات ولكنها غير معروفة ولا يُعرف لها طريق مثل الحقيقة تماما. الرواية ايضا متباينة الطبقات والاساليب، استخدم فوكنر نسيج من الكلمات والصور ليبدع وحدة فنية تجاوزت كل وجهات النظر المفتتة البادية للعيان.
قال فوكنر ان تراجيديا فقد كادي وابنتها جاءته لاول مرة كخاطرة على هيئة صورة لفتاة صغيرة ذات سروال تحتي موحل، وقد احبها كثيرا، "لانها جعلتني حزينا مكروبا، مثل الام التي احبت ابنها الذي اصبح قاتل ولص اكثر من الاخر الذي اصبح كاهن". كانت هذه الرواية اكثر رواية شعر فوكنر من خلالها "بالتعاطف نحو الاخفاق الاكثر نبلا والاكثر عظمة، لم اتمكن من ان اترك السرد يسير في اتجاه بمفرده ولم اتمكن في نفس الوقت من ان اسردها بالشكل الصحيح، لقد حاولت جاهدا واعتقد اني احب ان اجرب ثانية رغم اني ربما افشل ثانية".
في عام 1998 قامت دار النشر Modern Library بتقييم "الصخب والعنف" كسادس اعظم رواية مكتوبة بالانجليزية في القرن العشرين في قائمة تضم مائة رواية. ولكن قد لا يعجب فوكنر بهذا التقييم، ففي حواره مع "باريس ريفيو" قال "انا لا اهتم كثيرا برأي اي شخص في اعمالي او اعمال غيري من الكتاب، فمعياري التقييمي هو حتمية الشعور بسير العمل بالطريق الذي لابد ان اسلكه وانا اقرأ لوحة "اغراء سانت انطوني" أو "العهد القديم". وأخيرا صرح "الكاتب مسئوليته هي عمله فقط، فإذا اضطر الى اغتصاب امه فلن يتردد" قال ذلك معتقدا ان اذا كان الكاتب يتحول الى قاس عديم الرحمة فذلك هو الثمن الذي على العالم ان يدفعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تداعي الذاكرة: هو تقنية ادبية تسعى لاظهار وجهة نظر الشخص من خلال صياغة افكاره بصيغة كتابية إما ان تكون على هيئة
محادثة داخلية غير مترابطة او متعلقة بافعال الشخص.

كتبت: سارة تشارشويل
ترجمة: أميمة صبحي 
نُشر في مجلة الدوحة الثقافية - يوليو 2013

No comments:

Post a Comment