Tuesday, December 25, 2012

محبوب ولكن ليس بالقدر الكافي



كتب الروائي والباحث الانجليزي كريستوفر بيجسبي كتاب رائع عن رجل عظيم. ارثر ميللر الذي بلغ طوله 6 اقدام وكان لفترة من حياته زوج لواحدة من اشهر الفنانات مارلين مونرو، انتج عدد هائل من الاعمال الادبية تجاوزوا 24 مسرحية، من بينهم المسرحية الاشهر "موت بائع متجول" التي تعتبر علامة فارقة في تاريخ الدراما الامريكية، ورواية وسيرة ذاتية وعدة سيناريوهات والكثير من التوقيعات على العديد من العرائض التي لا يعرف عددها. وبعد انهاء عمله المبكر مع مشروع المسرح الاتحادي عاش وقتا كافيا ليعترض على حرب الرئيس بوش على العراق.
بالطبع انتجت الولايات المتحدة الامريكية الكثير من كتاب المسرح العظام كما ان مارلين مونرو لم تفتقر يوما لمحب عاشق مشهور لكن ميللر لايزال يلقي بظلال طويلة على الادب والثقافة القومية الامريكية.
 ميللرهو الرجل المشهور الذي تنازل عن نجاحه في مسرح برودواي ولم يأخذ الا اقل اجر يمكنه الحصول عليه في مصنع صغير. وهو الوطني الذي لم يرفض فقط ان يفصح عن اسماء حلقة أدبية مشتبه في انتسابها للشيوعية فأدين من قبل لجنة تحقيق النشاط المعادي لأمريكا ولكنه ايضا رفض طريق سهل للخروج من هذا المأزق، عرض رئيس اللجنة له: ان يطلاق سراحه مقابل صورة فوتوغرافية مع مارلين مونرو.
في اعمال ميللر، ترتبط الاهتمامات العامة والخاصة بشبكة من الروابط الاخلاقية والمسئوليات المتبادلة. ويفعل هذا الكتاب نفس الشئ. ففي كتاب "ارثر ميللر" يكشف بيجسبي عن معارك ميللر السياسية والاجتماعية التي تمت في حياته. "يقول بيجسبي عنه في مقدمة الكتاب "هذه قصة حياة كاتب ولكنها في ذات الوقت قصة الولايات المتحدة الامريكية بأكملها". انها قصة عن اعمال ميللر الاولى وانتصاراته العظيمة ضد بعض الازمات ما بين مولده في عام 1915 وبين زواجه الثالث في اوائل ستينيات القرن الماضي.
منذ البداية، عمل ميللر من منطلق ان لابد على الكتاب المسرحيين ان يكون لديهم القدرة على احتواء العالم، ولكن العالم لم يتجاوب مع عاطفته. الابن والحفيد المهاجر من اوروبا الشرقية تحديدا من بولندا شهد فقد اسرته لكامل ثروتها في الكساد العظيم الذي تعرضت له الولايات المتحدة الامريكية عام 1929، الصدمة لم تكن في الخسارة المادية فحسب، ولكنها كانت نكبة معنوية وكشف صريح عن النفاق المختبئ وراء قناع المجتمع الامريكي. بالطبع ستدعم الماركسية هذا الصبي البائس المنتمي لمقاطعة بروكلين بنيويورك بالطريق ليدرك ما هو النبذ الاجتماعي، ولقد اعطاه المسرح الحرية في ان يعبر عن كل هذ.
متأثرا بالكاتب المسرحي الامريكي كليفورد اودتيس حاول ميللر كتابة مسرحيات تغير العالم.  فيقول "هنا يوجد جمهور وهناك ممثلين ويمكنك التحدث بشكل مباشر مع الجمهور وتجعل كل منه راديكاليا بطريقتك".
اذا شاهدت "كلهم ابنائي" عن الاب الذي يبيع قطع غيار معطوبة تقتل طيارين الجيش الامريكي، او شاهدت "وفاة بائع متجول" عن الشاب ويللي لومان الذي سقط في الهاوية بين الحلم الامريكي العظيم وواقعه الوحشي، فانك لن تحتاج لاكاديمي انجليزي ليخبرك ان مسرحيات ميللر مليئة بمسحة جدلية عميقة.
استطاع بيجبسي الحصول على هذه المعلومات القيمة عن ميللر بعد قضاء سنوات عدة في الكتابة عنه بوصفه مديرا لمركز ارثر ميللر في جامعة شرق انجليا، كما انه عرف ميللر معرفة كافية ليسأله عن كل شئ، فبالنسبة للمرثاة الموسيقية الحزينة عن البائع المتجول المهترئ اخبره ميللر انه كتبها متأثرا بكتابات الكتابة الامريكية جيرترود شتاين، ذلك الخيط الرفيع الذي لن تعرفه ابدا الا اذا اخبرك الكاتب بنفسه عنه.
برغم حصول بيجبسي على هذه المعلومات القيمة وقوة بصيرته الا ان كتابه مازال ناقصا. فهو يتحدث عن تجربة ميللر في الخمسينيات سواء زواجه من مارلين مونرو او مطاردته من قبل المحافظين لتأييده السابق للاتحاد السوفيتي بالرغم من انه لم يكن يوما عضوا في الحزب الاشتراكي، فقد كان يعتبر نفسه ماركسي حتى الخمسينيات فقط. لكن يحكي الكتاب القليل عن اخر 40 عام في حياته ويدافع بيجيبسي عن ذلك قائلا "الكتاب عن ميللر عندما كان في مرحلة التشكل، عن بداياته عندما قرر تغيير العالم واستمر في ذلك".
وهذا بالفعل مؤكد فميللر لم يؤثر في الصناعة الادبية بعد فترة الستينيات كما فعل قبلها. رغم انه نال التشجيع كرئيس لقلم الكتاب الدولي الا ان جودة مسرحياته بدأت تقل لدرجة ان في عام 1984 اشار اليه اتحاد جامعة اكسفورد للمسرح الامريكي في الفعل الماضي. ولكن يبقى هذا الجزء من حياته في حاجة الى دراسة. فنحن لا نزال لا نملك صورة كاملة عن حياته.
في عام 1967 انجبت انجي مورث زوجة ميللر الثالثة ابنا له مريض بعدة امراض متزامنة اطلقوا عليه اسم دانيال. وقرر ميللر بناءا على نصيحة طبيبه ان يضع دانيال في مكان متخصص لتلقي العلاج قائلا "ان هذا سيكون افضل من بقاؤه في بيت العائلة" ولم يشر بيجسبي ان ميللر لم يذكر الطفل في مذكراته ولم يتكلم عنه في العلن.
انه رجل متسم بالفوضى والالم، لقد ترك ربع تركته لابنه دانيال بناءا على مقال طويل له نشر في مجلة "فانيتي فاير". ولكن في ضوء ما عرفناه عنه فانه من المتعذر فهم حياته او اعماله، فهو الشاعر المعبر عن واجبات الاسرة والمؤرخ الشديد الحساسية للآباء والابناء، بدون التعرض لطريقة معاملته لطفله دانيال.
ميللر الذي ظهر في سيرتهم الذاتية وكتبهم رجل ليس من السهل ان نحبه. دائما ما يوجد شئ بارد وجاف يقف بينه وبيننا ومن بين هذا كله كتب وحقق نجاحه في حياة مديدة. ولكن وبالرغم من ذلك ألا يوجد شئ يشدنا في اختلافه وعدم قدرتنا على حبه؟ واحدة من تأثير سيرته الذاتية هي وفاته الذي جعلنا نرى كيف ان رجل بوعي واحساس ميللر استطاع اجتياز السخرية المتطرفة للقرن الواحد والعشرين. استطيع تخيله الان يتمسك بعناد بحرفته ويكرر ما كتبه بعد ان سحبت وزارة الخارجية الامريكية جواز سفره "اريد 
ان اترك في سلام لانهي مسرحيتي الجديدة التي اعرف انها لن تروقهم ايضا"

ترجمة: أميمة صبحي
عن النيويورك تايمز
نُشر في أخبار الادب

No comments:

Post a Comment