خطوة إلى داخل المسجد العظيم في قرطبة لتجد نفسك قد انتقلت إلى وقت يبدو انه قد تجمد والى مساحة آخذة في التلاشي (انظر الصور التوضيحية صفحة 42). في كل مكان تنظر إليه، ستواجه أعمدة طويلة من الآفاق المنحسرة، حوالي 850 عامود في المجموع الكلي، والتي ترتفع ضعف صفوف الأقواس المتداخلة المكونة من الحجر الأبيض والطوب الأحمر بالتناوب. يغمرك انطباع قوي بالانتظام والاتساق وفوق كل هذا بالسكون السرمدي.
بالإضافة إلى انه للوهلة الأولى يبدو الاتساق كمعرضا لآثار متنوعة غير متطابقة كالأعمدة الرخامية، على سبيل المثال. عندما باشر أمير المسلمين عبد الرحمن الداخل فاتح الأندلس بناء المسجد العظيم في عام 780 ميلادية، استغل الأعمدة وتيجانها المسلوبة من المباني القوطية والرومانية التي وجدت في رقعة كبيرة تمتد من شمال أفريقيا إلى مدينة ناربون جنوب فرنسا.
إذا عكس المسجد روح الأثر العظيم المسجد الأموي في سوريا التي فر منها عبد الرحمن الداخل بعد سقوط الدولة الأموية، فهو أيضا قد استلهم تصميمه من المباني الرومانية ومن الأشكال المحلية الوطنية للأسبان القوطيين. بالطبع، وفقا للتاريخ فقد بنى هذا المسجد على أطلال كنيسة القوطيين المتهدمة "سان فيسنتي"، هو مكان للعبادة شارك المسلمون فيه المسيحيون حتى بدأ البناء الجديد. ومن الجدير بالذكر أن كنيسة "سان فيسنتي" نفسها تم بناؤها على أطلال معبد روماني.
قرطبة القرون الوسطي، بجانب المسجد العظيم في قلبها، كانت مركزا حيث التقاء الثقافات والحضارات واندماجها سويا.
بجانب أشكاله المعمارية الانتقائية من كل صوب، فان هذا المسجد كان أيضا انتصار مؤكد للهيمنة الإسلامية، الهيمنة التي كانت في عهد عبد الرحمن الداخل وخلفاؤه الأمويون ممتدة حتى الحدود الشمالية لشبه الجزيرة الايبيرية أو جزيرة الأندلس كما كانت تسمى في عهده، حيث مازال المسيحيون قابعون.
تلك الهيمنة التي بدأت عندما عبر جيش البربر أو الامازيغ مضيق جبل طارق في عام 711 ميلادية واسقطوا الدولة القوطية، الوريثة لرومان أسبانيا. كان الفتح سريعا، وعندما اصبحت الخلافة الأموية في قرطبة وصلت لأوج قوتها في القرن العاشر. فكان الزوار المسيحيين ينبهروا من ثراء وعظمة هذه الدولة وقد أخفى هذا الهشاشة الداخلية التي أدت إلى الصراع على السلطة وهذا بدوره كان سببا في السقوط في حرب أهلية. في عام 1031 انقسمت الدولة لأكثر من عشرين دويلة يتولى حكم كل منهم أمير من الأمراء الذين أطلق عليهم لقب ملوك الطوائف. مع سقوط الأمويين كانت أيام قرطبة العظيمة قد أوشكت على الانتهاء، وأخذت طليطلة مكانها كمركز للحضارة الإسلامية، وهي تقع مع ما كان يشكل آنذاك الحدود الشمالية للدولة الأموية مع الممالك المسيحية. وهي المدينة التي كانت في وقت سابق عاصمة القوط الأسبانيين، وقد أصبحت فيما بعد عاصمة أحدى دول ملوك الطوائف، باهرة الزوار المسيحيين بعظة وبهاء رفاهية الحياة بها كما كان أجدادهم ينبهروا بعظمة قرطبة. ولكن الضغائن الداخلية الناتجة من انقسام أسبانيا الإسلامية أعطت للمسيحيين فرصتهم. في عام 1085 قام الفونسو السادس ملك الممالك المتحدة قشتالة وليون، والذي كان قد تذوق طعم طليطلة أثناء نفيه المؤقت عن مملكته، بدخول المدينة بجيشه بانتصار. ومن ذلك الوقت فصاعدا بقيت طليطلة في يد المسيحيين. ولكن إذا كان هذا مؤشر لنهاية قصة ما فانه كذلك مؤشر لبداية أخرى. هذه القصة الممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر تم قصها بحيوية بواسطة ثلاث من الكتاب في كتاب "فنون التعايش بألفة". ثلاثتهم متخصصون في التاريخ الثقافي لأسبانيا في العصور الوسطي، بجانب ماريا روزا منوكال الباحثة المعروفة ببحثها المهم عن الحضارة الأسبانية في العصور الوسطي "زخرفة العالم: كيف تسنى للمسلمين واليهود والمسيحيين أن يتعايشوا في ظل ثقافة من التسامح في أسبانيا في العصور الوسطي" وكان الهدف من هذا البحث هو إعطاء فكرة للقراء الغربيين عن إنجازات وتأثير الأندلس الإسلامية، ويسير كتاب "فنون التعايش بألفة" على نفس نهجه. فهو كتاب للقراء العاديين
من غير المتخصصين ولكنه يعد واحدا من أكثر الكتب المنشورة حديثا التي تؤخذ في الحسبان على إنها متخصصة في التاريخ الأسباني في العصور الوسطي، ومن أكثر الكتب التي تم تكريسها لتكون مقال ببيلوغرافي واسع النطاق.
لا يوجد أي ملاحظات على النص، ولكنه يحتوي على العديد من الادراجات المطبوعة على خلفية برتقالية اللون التي تمد القارئ بالمعلومات الإضافية عن الأشخاص والأماكن إلى جانب مختارات من نصوص معاصرة سواء كانت نصوص أصلية أو مترجمة. والنتيجة كانت كتاب جذاب مزود بالرسوم التوضيحية ببذخ ومنتج بشكل رائع، رغم أن وزنه يعتبر عائقا فلا يحمل بسهولة في اليد.
تاريخ شبه جزيرة ايبيريا في العصور الوسطي يعتبر سلسلة معقدة من الممالك المتنافسة، بربريين ومسيحيين، متفرقين ومندمجين وإعادة تشكيل أنفسهم كانت تنوع محير من التبادل والتركيب، مقدمة تحديات هائلة لأي مؤرخ. بمواجهة مهمة جعل التاريخ أكثر إدراكا للقراء العاديين، حافظ مؤلفو "فنون التعايش بألفة" على الحد الادني اللازم لفهم الخلفيات السياسية والعسكرية للأحداث التاريخية. وقد ركزوا اهتمامهم على التاريخ الثقافي الذي هو اهتمامهم الأول. بالنظر لثراء التاريخ الثقافي نظرة خاصة. الفن والعمارة والإنتاج الشعري في شبه الجزيرة الايبيرية خلال القرون الوسطي يعتبروا نوعية بحث مدهشة لا يمكن لضوئها أن يخفت بسهولة، خاصة عندما يكون متقد ومقدم بشكل جيد ككل هذا.
ماذا كان يوجد هناك في شبه جزيرة ايبيريا في العصور الوسطي ليجعلها في ثراء إبداعي؟ في منتصف التاريخ الايبيري من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر بدأ تغيير الحدود. فالفتح العربي البربري لايبيريا في خلال القرن الثامن حدث بشكل عكسي بواسطة حركة المسيحيين التدريجية الجنوبية من شمال أسبانيا حتى المقاطعة التي فتحها المسلمين. هذه الحركة، امتدت عبر كثير من القرون والى حد ما وبشكل مضلل عرف هذا الاسترداد الذي صور على ليكون استعادي بأنه حرب مقدسة ضد الإسلام. في الواقع، بالرغم من أن المسيحيين عكسوا الحملات الصليبية على جهاد المسلمين، إلا أن الحرب بينهم قد تخللها فترات طويلة من السلام. وكان المسيحيون والممالك الإسلامية يتحدون ويفسخون الاتحاد بينهم وكأن الأمر ضرورة حتمية. وقد انتهت عملية الفتح نفسها فقط في عام 1492، عندما استسلم أخر حصن إسلامي، مملكة غرناطة التي ضعفت بشدة، إلى جيش الملكة ايزابيل وزوجها فرناندو الثاني، حاكمين أسبانيا المتحدة التي اتحدت بزواجهما.
يقول المؤرخ ريتشارد فليتشر في كتابه "مسلمي أسبانيا"، الذي ربما مازال من أكثر الكتب وصولا إلى التاريخ العام للأندلس بالنسبة للقارئ العادي، "الحقيقة الواضحة أن ما بين عام 712 ميلادية و1492 عاشت المجتمعات الإسلامية والمسيحية جنبا إلى جنب في شبه الجزيرة الايبيريا، وان هذا التعايش استمر طويلا وبشكل حميمي". ربما تكون هذه الصورة هي التي أوحت لمؤلفي "فنون التعايش بألفة" هذا الاسم. فكان يوجد بين المسيحيين ومسلمي أسبانيا منطقة حدود مسامية، تمتد وترتبط بنشوب وخفوت الحرب والتسوية بينهم. والفتح الإسلامي غمر مجتمعات عريضة من المسيحيين الأهليين، الذين عرفوا باسم "المستعربين" أي المسيحيين المعربين ليعيشوا تحت الحكم الإسلامي. فكلا من المستعربين واليهود المعروفين بأهل الكتاب كما تقول النصوص الإسلامية، عاشوا في حماية كأقليات دينية في مقابل اعترافها بالسلطة الإسلامية ودفع ضريبة خاصة تسمى "الجزية".
عندما غزا الفونسو السادس وشعبه من القشتالين طليطلة عام 1085، حافظ على استمرارية الحكم الإسلامي بفاعلية، واعدا المسلمين الباقين بتوفير الحماية لهم، وحرية العبادة وأداء صلاة الجمعة في المسجد. وأثناء تقدم الجيوش المسيحية نحو الجنوب، وقع العديد والعديد من المسلمين تحت الحكم المسيحي، فأصبحت صورة طبق الأصل من المستعربين وعرفوا بعد ذلك بالمدجنين أي المسلمون الذين بقوا في الأندلس بعد نزوح العرب.
ما وجدناه إذن، أولا في أسبانيا المسلمة ثم في الأجزاء التي استرجعها الحكم المسيحي، كان التعايش، خاصة في المدن ذات التنوع العرقي والديني، مع درجة من الحماية القانونية امتدت حتى الأقليات. ومع ذلك، فان الموقف كان قابلا للتغير المفاجئ. ففي منتصف القرن الحادي عشر، على سبيل المثال، قامت جماعة الموحدين وهي طائفة إسلامية موطنها المغرب وامتد سلطانها إلى الأندلس، بإتباع سياسة الاضطهاد التي قادت العديد من غير المسلمين إلى اللجوء لمقاطعات المسيحية. وبعد مرور قرنين، تحديدا في عام 1391 كان اليهود هم ضحايا مذبحة رهيبة قام بها المسيحيون. لكن التعايش الذي كان موجود إلى حد كبير وتمليه الراحة أو الديموغرافيه أو خليط بينهما كان لفترة زمنية طويلة هو النظام اليومي المعتاد.
مصطلح التعايش convivencia تم استخدامه في التاريخ الأسباني منذ أوائل القرن الثاني عشر ليصف العلاقة المشتركة بين أصحاب ثلاث معتقدات مختلفة. ولكن في عصر جديد من التعددية الثقافية في وقت لاحق من القرن العشرين، لم يقتصر الأمر على أن مصطلح التعايش يتطلب حداثة مفاجئة، ولكنها توقفت لتكون محايدة وجاءت بدلا من ذلك لتقترح حالة من التعايش في وئام، ووضع حد للاستيلاء على غرناطة وطرد اليهود عام 1492. الأكثر من وجود أسبانيا العصور الوسطي كان وصفها على إنها مجتمع فريد متسامح، فهي كمنارة أمل لعالم يتحول بشكل درامي بالاختلاط بين الشعوب وصدام الحضارات.
الفكرة الرئيسية لبحث ماريا روزا منوكال "زخرفة العالم" كانت حول عالم ما أطلقت عليه "ثقافة التسامح"، التي ولدت بتعايش وتفاعل المسيحيين واليهود والمسلمين في بعض المدن مثل قرطبة وطليطلة.وبالمقارنة بكتاب "فنون التعايش بألفة" لن نجد أي استخدام للتعبير "ثقافة التسامح"، فلقد تمحورت فكرة الكتاب حول اندماج هوية الثقافة القشتالية المميزة من خلال "المساحة المشتركة" بين الإسلام واليهودية.
بمعنى آخر، هذه دراسة عن "التفاعل الثقافي" بدلا من "ثقافة التسامح". هنا التراجع لخلفية أكثر حيادية يبدو مفيدا. فهناك إفراط عاطفي نحو فكرة التعايش الأسباني في العصور الوسطي، والتسامح نفسه مفهوم غامض، خاصة الذي ظهر خلال القرون الوسطي ووجد فكرة حقوق الإنسان الفردية غريبة تماما.
عمليا، أن التعايش كان عاطفي وهش. والجدير بالذكر انه كان يفتقر إلى المساواة الدينية. فالمسلمون والمسيحيون يعتبروا على حد السواء أنفسهم أصحاب المعتقد الصحيح، وعندما يتمتعوا بالهيمنة فهم فقط يتقبلوا صاحب المعتقد الآخر في صبر إكراهي، رغم أن هذا الصبر لم يحول ضد اتحاد الممالك المسلمة مع الممالك المسيحية ضد إخوانهم المسلمين، أو اتحاد المسيحيون مع المسلمين ضد إخوانهم من نفس الديانة. ولكن أيا كان الذي يحكم سواء مسلمين أو مسيحيين أو يهود فقد كانوا طوال الوقت مجتمعين في المدن والبلدات، يتمازجوا باستمرار أعمالهم اليومي ولكن في بعض المدن كانوا يعيشوا في أحياء معزولة. من الأمور الحتمية المترتبة علي اختلاطهم بهذا الشكل هي التقطهم بعض من عادات وتقاليد وأذواق جيرانهم. حيث كان يمكن للمسلمين أن يدخلوا الأديرة المسيحية من اجل كأس من الخمر المحرم.
بجانب هذا التفاعل الشعبي جاء التفاعل المشترك بين النخبة الثقافية، بالرغم من أن الصدارة الثقافية ظلت لقرون مع مسلمي أسبانيا. ناشئي الحضارة الإسلامية انتشروا عبر الشرق الأوسط، وقد جلب الأمويين معهم من سوريا تقليد راسخ في الرعاية الثقافية وأهمية فنون الكياسة، واحترام عميق تجاه العلوم وتعلم كل ما يتعلق بالعصور القديمة. المسيحيون الذين كانوا على اتصال بهم بمقارنتهم سيبدون اقل من البربرين الخام.
ولكن كما يوضح "فنون التعايش بألفة"، بعض من هؤلاء المسيحيين اثبتوا إنهم مهرة في التعلم. ألفونسو السادس وخلفاؤه لم يأخذوا فقط مكان الخلفاء ولكن أيضا تقاليدهم في الرعاية الثقافية. تحت الحكم المسيحي تحديدا في القرن الثاني عشر اصبحت طليطلة المدينة المتنوعة عرقيا ودينيا مركز كبير للترجمة من النسخ اللاتينية المعدلة إلى اليونانية والنصوص العربية العملية ونصوص علم الرياضيات والفلسفة الذين تم نشرهم في كل أوروبا. تلك التعددية الثقافية التي ميزت طليطلة ستنتقل إلى الجنوب على اثر الاستعادة المسيحية لأسبانيا.
عندما توفي فرديناند الثالث، فاتح اشبيلية، بنى ابنه ألفونسو العاشر "الملقب بالحكيم أو المثقف" لأبيه مقبرة في مسجد اشبيلية الذي تحول الآن إلى كاتدرائية، ونقش فوق شاهد القبر اسمه تكريما له باللاتينية والعربية والعبرية القشتالية.
مؤلفو "فنون التعايش بألفة" أكدوا على الإدراج المكتوب بالقشتالية لان اهتمامهم ينصب على تتبع التزييف التدريجي للهوية القشتالية المميزة والثقافة بالتفاعل بين الثقافات والناس في العصور الوسطي. وقد أثبتت قشتالة مبكرا إنها مميزة بين مقاطعات أوروبا الغربية باحتضانها لكل ما هو عامي، ففي قشتالة القديمة في عام 1230 بدل القشتالين اللاتينية كلغة للوصيات ولكل المستندات المتعلقة بالممتلكات. سحر وجمال أسبانيا الإسلامية جعل من السهل الاستخفاف بتشكيل الثقافة القشتالية التي شكلتها الأقاليم الشمالية لشبه الجزيرة الايبيرية، التي تمتلك روابط دينية وثقافية قوية مع فرنسا. ولكن هذه الثقافة كما ذكرها هذا الكتاب الذي نحن بصدده بوضوح تأثرت بشكل كبير بتجربة التعايش ومواجهة الإسلام المتزامنة. وقد أشار المؤلفون إلى التعابير الملتبسة لعلاقة غامضة دائمة منعكسة في ملحمة شعبية عظيمة بقشتالة في القرون الوسطي تم تصويرها في أغنية الشاعر الملحمي "السيد"* (استراحة السيد). تحكي القصيدة عن مأثرة محارب جاء ليرمز إلى الكفاح الانتصاري للمسيحيين الأسبان ضد المسلمين البربر، رغم انه، من المرجح، كان مرتبط بمقاتلة الأتباع المسيحيين.
لذلك فان التفاعل الثقافي ليس بالضرورة أن يكون متوقفا على ثقافة التسامح. ابتداء من القرن الحادي عشر حتى بعد ذلك كان يوجد موقف متصلب من الطرفين منقسم بين التصريحات الباباوية بشأن الحملات الصليبية وجهاد الموحدين. ولكن بالرغم من هذه المواقف المتصلبة وانتصار المسيحيين العظيم على المسلمين البربر في لاس نافاس دي تولوزا في معركة العقاب عام 1212، إلا أن الحياة الاجتماعية والثقافية في قشتالة استمرت عاكسة تأثير المسلمين القوي. السكان المدجنون الذين خضعوا للحكم المسيحي في صحوة الاسترداد كلفوا عمالهم الحرفيين ببناء كنائس مسيحية تضجر بصمة المسلمين البربرين الواضحة. في القرن الخامس عشر كانت الأذواق والعادات البربرية تتخلل الحياة الملكية وعندما قبل فردناند وايزابيلا استسلام غرناطة كانوا مرتدين الملابس البربرية.
بالإضافة إلى ذلك كانت الهوة واسعة بين التدريب والممارسة. فأسبانيا الرسمية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر اصبحت مشهورة بتعصبها الديني، تأسيس محاكم التفتيش، ترحيل اليهود منها، وفرض المسيحية على المدجنون ويطلق عليهم الآن "موريسكيون" وهم المسلمين الذي بقوا في الأندلس بعد استرداد غرناطة. ولكن بملام فرناند وايزابيلا على سياستهم المتعصب فإننا ننسى ببساطة تصرف انجلترا وفرنسا في العصور الوسطي عندما طردوا يهودهم منذ فترة طويلة. هناك تفسير واحد لهوس الانهماك في نقاء العرق الديني والتوحيد الواضح بجلي في أسبانيا أثناء عهد فرناند وايزابيلا يمكننا إيجاده في تصورهم عن دولتهم في عصر النهضة الأوروبية على أساس إنها ارض "سيئة الأعراق" وتشوه عقيدتهم. فلديهم حافز قوي لمقاومة إرادة الأسطورة السوداء** الأولية لإطلاق كل نزاع ضد أسبانيا يمكن تصوره، متضمنا التعايش الذي استمر طويلا بين المسيحيين والمسلمين واليهود الذي جعل دولتهم شاذة في العصر المسيحي المبكر.
حكم خلفاء الأسبان "الهابسبورج"*** أصبح مثال للتعصب. الإصرار على اقتلاع كل ذرة هرطقة والحاجة إلى الدم النقي لشغل المناصب، حتى إذا لم تكن شاملة ومؤثرة كما يدعى أحيانا، يعد كل هذا مؤشرات واضحة لنيل المناصب العليا الحكومية
في الكنيسة والدولة. ومن الطبيعي أن نستنتج من التصريحات والسياسات الرسمية، خاصة بعد بلوغ ذروة التعصب بطرد الموريسكيون منذ 400 عام الآن، أن التعصب قد تغلغل في نسيج المجتمع الأسباني بأجمعه.
هذا واحد من افتراضات ستيوارت شوارتز، أستاذ التاريخ بجامعة يال الأمريكية والمعروف من خلال كتبه عن مستعمرة البرازيل، والذي يتحدى بكتابه "الجميع يمكنه الخلاص" عن التسامح الديني والخلاص في شبه الجزيرة الايبيرية. مدى طموحه وكثرة وثائقه واتساع نطاقه الجغرافي كل هذا جعل من كتابه جهد ملحوظ. اعتمادا على مئات القضايا من تحقيقات محاكم التفتيش الأسبانية والبرتغالية، خطط ليثبت ويتحدى أن هناك وجود لدرجة من التسامح الديني على المستوى الشعبي، ليس فقط داخل أسبانيا والبرتغال إنما أيضا في مقاطعتهم الأمريكية، وهذا كان يتعارض تماما مع الأيديولوجية الرسمية للكنيسة والدولة. وقد وجد هذا الدليل على ذلك في البيانات التي أدلى بها من تم استدعاؤهم إلى المحكمة قبل المحاكمة بتهمة الهرطقة والانحراف، تحت تأثير أن "كل مرؤ يمكنه الخلاص عن طريق معتقده الخاص".
القضايا التي أوردها في كتابه تجعل القراءة ممتعة. ففي عام 1488، أعلنت امرأة قروية من بلدة اراندا تدعى جوانا بيريز أن "اليهودي الصالح سينقذه الله وكذلك المسلم الصالح، كلا في عقيدته، والا لماذا خلقهم الله هكذا؟". وفي عام 1594 جادل عامل أسباني يدعى جوان فرنانديز احضروه قبل المحاكمة في ليما وقال "كل شخص صالح يمكنه خلاص نفسه وفقا لقانونه الخاص". هذا والعديد من القضايا الأخرى تجعل على الأقل فرضية شوارتز للوهلة الأولى قضية على المستوى الشعبي، بان العالم الايبيري كان اقل تشددا في مسيحيته وأكثر انفتاحا ليتقبل الطرق البديلة للخلاص أكثر مما يظهر للعيان أو ما يعتقده المؤرخين.
كان شوارتز نفسه هو أول من أدرك المشاكل المتلازمة في فرضيته. فتدوين الاستجوابات معروفا انه صعب ترجمته مما يعطي فرصة للتلاعب وسوء الفهم لبعض المحققين. حتى إذا كانت استجوابات المساجين والشهود بالطبع مسجلة بالتدوين، هل هم مقصورين على قليل من الأفراد الكارهون لسبب أو آخر قبول سير العمل الرسمي؟ أو هم يمثلوا آراء قطاع عريض من المجمتع ككل؟ وفي الحالة الأخيرة، فان الصورة المحافظة لأسبانيا في بداية عهدها كمجتمع متعصب على نحو استثنائي سيظهر بها خلل جدي.
إذا لم تكن قضايا شوارتز التاريخية تشير تحديدا إلى ثقافة التسامح، فيبدوا إنهم يشيروا بالتأكيد إلى ثقافة فرعية للمعارضة. إلى كل من يتحدث من عقله، لابد أن هناك كان العديد من الحريصين على التزام الصمت. فليس من الحكمة أن نثير الانتباه تجاه محاكم التفتيش. لذلك "فالتسامح" يمكنه التحرك على امتداد طيف يمتد من اللامبالاة، من خلال مبدأ العيش وترك الآخرين يعيشوا، فاعتقاد راسخ بحزم أن لا الكاثوليك أو البروتستانت أو المسلمين أو اليهود محتكرين الحقيقة، وبناءا على ذلك "فان كل شخص يمكنه الخلاص من خلال قانونه الخاص".إلى هذا المدى بينما كل هذه المواقف قد وجدت في عصر أسبانيا المبكر فمن الطبيعي أن نتساءل عم ما إذا كانت تجربة التعايش في القرون الوسطي بين الثلاث معتقدات قد خلقت استعدادا استثنائي في العالم الايبيري نحو قابلية الآخر.
الاكتشاف والاستعمار الايبيري لأمريكا قد عمل لتعزيز هذه القابلية، وجد الأسبان أنفسهم هناك يتعاملون يوميا ليس فقط مع عدد هائل من السكان الأصليين الذين لم يسمعوا مطلقا عن المسيحية قبل مجيئهم، إنما أيضا في نفس الوقت مع العبيد الأفريقيين وأنظمة معتقداتهم الخاصة وعدد متزايد من الناس من العقائد المختلفة. كتب ريتشارد فليتشر، الأستاذ الراحل في جامعة يورك والمتخصص في تاريخ العصور الوسطي، في كتابه "مسلمي أسبانيا" أن "مستعمرات المكسيك وبيرو والبرازيل كانت بوضوح هي أندلس العصور الوسطي". هذه التأكيدات المدرجة مازالت في حاجة إلى المزيد من العمل، ولكن دليل شوارتز الأمريكي قاد فليتشر إلى التسليم بأن الوجود في العالم الايبيري الجديد "ثقافة نابضة بالحياة على خلاف السائد في الكنيسة والدولة".
أي افتراض، مع ذلك، بان التجربة الاندلسية ربما تكون قد تركت الحضارة الايبيرية مؤهلة بشكل فريد لتقبل إمكانية وجود خيارات غير النظام التقليدي الأرثوذكسي السائد، قام شوارتز بهدمه بحجته الواسعة النطاق التي تقول أن النسبية الدينية لم تكن "ظاهرة هسبانية**** مميزة تم ترسيخها خلال التعايش في العصور الوسطي واستمرت حتى الازدهار". على العكس تماما، على الرغم من أن دليله قد استمد غالبا من العالم الايبيري، وهو حريص على أن "مبدأ التسامح الشعبي فيما يتعلق بالدين كان ظاهرة عامة في الكثير من أنحاء أوروبا وان الشكوك والتسامح الشعبي خلقوا تربة من المفاهيم الحديثة لحرية الضمير والتسامح الذين نموا في نهاية المطاف". في قول آخر، لقد أراد أن ينقذ تاريخ التسامح من الأيد المانعة من النخبة السياسية والفكرية وإعطاء الناس العاديين مكانهم المستحق في القصة.
لإثبات الحقيقة في ادعائه الطموح ذلك سيتطلب أدلة على نطاق أوسع بكثير، من المجتمعات الأوروبية المتنوعة بدلا من العالم الايبيري فحسب، ولكن في إثارة مسألة المواقف الشعبية وتوثيقها بشكل غني كتب شوارتز كتاب اكتشافي. حاليا، بقدر ما تهتم أسبانيا نفسها فان حجته عن التسامح الشعبي قد تلقت تعزيزات مساعدة من دراسة بحثية مثيرة للإعجاب عن مدينة لامنتشا الأسبانية التي خرج سكانها لدعم محاولات موريسكيون بلدتهم لتحدى مرسوم بطردهم عام 1609، ومن ثم الترحيب بالذين نجحوا في العودة خلسة. ليس هذا رد فعل مجتمع واقع في قبضة التعصب الديني والعرقي.
وفوق ذلك هناك شك أن شوارتز لم يتجنب الأمر تمام، فقدم قصته على إنها خطوة للامام نحو "الحداثة" التي تشير إلى حرية الضمير والتسامح الديني. الآن على الأحداث أن تعطي لنا الفرصة لنتوقف.نحن نرى كيف أن في البلقان مثل أسبانيا العصور الوسطي حيث كان يعيش ناس من عقائد وأعراق وثقافات مختلفة وكانوا قادرين على التعايش لمدة طويلة في وئام نسبي، ثم
حدث بشكل مفاجئ أن كل هذا تحول إلى فورة من الغضب والدمار. في السعي لتعقب تاريخ ثقافة التسامح، فمن المهم ألا ننسى أن في اغلب الأحيان تكمن ثقافة التعصب تحت السطح مباشرة.
يوضح تاريخ أسبانيا في العصور الوسطي أن التعايش بين أناسا ذوي أعراق ومعتقدات مختلفة من المحتمل أن تكون مصدر لإثراء ثقافي عظيم، ولكن في الوقت نفسه من الممكن أن يكون مصدرا لتوتر اجتماعي عميق. التعايش الانسجامي متوقف على الحفاظ على توازن دقيق، دائما عرضه لخطر الضيق والانزعاج من قبل الاتحاد المؤسف للسلوك والأحداث. التبديل في السياسة والممارسة الرسمية، التدهور الاقتصادي، التصريحات الملتهبة الشعبية من شخص يمكنه تحريك الجماهير، صراع مبتذل أولي بين الجيران، كل هذا في وسعه أن يحول التسامح إلى تحدي عنيف بين عشية وضحاها. حتى الآن تتضمن قصة القرية الصغيرة لامنتاش في القرن السابع عشر درس في ذاتها. حتى في أسوأ الأوقات تستطيع الإنسانية وآداب السلوك أن تجعل صوتها مسموعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هو شخصية تاريخية أسبانية من القرون الوسطي كثرت حول شخصيته القصص و الحكايات، اسمه بالكامل رودريغو دياث دي
بيفار، ولد حوالي العام 1040 و كان فارسا من فرسان قشتالة في زمن حروب الاسترداد و هو معروف باسم آل سيد كامبيادور
** الأسطورة السوداء *** أسرة هابسبورغ ، من أهم الأسر الأوروبية الحاكمة . عرفت هذه الأسرة برجعيتها الشديدة و بتأييدها المطلق للكاثوليكية .
**** هسبانيا: اسم أطلقه الرومان على شبه جزيرة ايبيريا
Volume 56, Number 13 · August 13, 2009
A Question of Coexistence
"كيفية
التعايش"
By J.H. Elliott
The Arts of Intimacy: Christians, Jews,
and Muslims in the Making of Castilian Culture
""فنون التعايش: المسيحيين واليهود والمسلمين وصنع الثقافة
القشتالية
by Jerrilynn D. Dodds
María
Rosa Menocal, and Abigail Krasner Balbale. Yale University
Press, 395 pp., $40.00
All Can Be Saved: Religious Tolerance and
Salvation in the Iberian Atlantic World
"الجميع يمكنه
الخلاص: التسامح الديني والخلاص في عالم ايبيريا الاطلسي"
by Stuart B. Schwartz
ترجمة: أميمة صبحي
نُشر في مجلة وجهات نظر - 2009
No comments:
Post a Comment