Friday, December 28, 2012

نهاية التيار المحافظ


يقوم كتاب سام تاننهاوس في معظمه بتقييم الرؤساء الحاليين. على سبيل المثال، "أخر ست رؤساء جمهوريين، ثلاث منهم (نيكسون، ريجان، جورج بوش الابن) كان لديهم نزعات قوية إلى حركة التيار المحافظ بينما (ايزنهاور وفورد وجورج بوش الأب) لم يكن لديهم.". لقد ضم أخر ثلاثة عظماء إلى أول ثلاث. ولكن هذا لم يكن الحكم الشعبي على هؤلاء الرجال. ومع ذلك فان نيكسون وريجان من الرؤساء الذين أعيد انتخابهم لفترة ثانية أما فورد وجورج بوش الأب فلا. بجانب أن في أحدث استطلاع للمؤرخين لتقييم الرؤساء احتل ريجان المنزلة العاشرة بينما بوش الأب المنزلة الثامنة عشر وفورد في الثانية والعشرون. وهنا نجد أن تاننهاوس يستخدم مقياسه الخاص في تقييم الرؤساء ما بين الجيد والسيئ، بعيدا عن النجاح الانتخابي أو السمعة التاريخية. ولقد لاحظ أن أول ثلاث رؤساء المتجهين للتيار المحافظ تعدوا على القانون مثل فضيحة وترجيت وقضية إيران- كونترا واتفاقية جنيف. بينما أخر ثلاثة رؤساء احترموا الدستور.
ويرى تاننهاوس نوعين من ما يسمى بالاتجاه المحافظ. فحركة الاتجاه المحافظ تعتبر تحريرية، على سبيل المثال تنادي باستعادة الثقافة بشكل عاجل. كما إنها تعتبر ثورية، ترغب في سلطة تنفيذية غير مشروطة كما أتضح ذلك في فترة رئاسة معتنقيها. وذلك يعطي الأولوية للنقاء الأيديولوجي عن تسوية الخلافات حتى ولو أن هذا يعني محاربة الحكومة من داخل الحكومة نفسها. فهذه حركة محافظة غير شرعية. فإنها لا تحافظ على النظام المطبق وتغييره ليكون أفضل. هذا هو عمل المحافظين بحق مثل ادموند بورك* وبينجامين دزرائيلي** الذين حقا يحافظون بدلا من التخريب.
بجانب النماذج الحديثة التي يعطيها لأتباع بورك "المحافظون الجديرون"، جاء تاننهاوس بتقييم أخر غير اعتيادي مكون من ايزنهاور وبيل كلينتون: "هما رئيسان جدان لحقبة معاصرة من التيار المحافظ، وهما الأفضل" لماذا؟ "فكلا من ايزنهاور وكلينتون جاهدا من اجل حركة محافظة محايدة في الكونجرس، وكلاهما نجح في ذلك".
من الواضح أن تاننهاوس لديه طريقة مبتكرة في التعامل مع التاريخ. فبامكانه أن يكتب، على سبيل المثال، "أن مواهب نيكسون كانت استثنائية. ولا يوجد رئيس معاصر استطاع أن يتفوق على مهارته الواضحة. في الواقع، لقد كان من أكثر الحاصلين على أصوات انتخابية في التاريخ". بالرغم من أن نيكسون كان مؤيدا لحركة المحافظين، إلا انه كرئيس تحول لأتباع بروك ليس فقط في سياسته الخارجية (الانفتاح وزيارة الصين) بل أيضا بادرته لقضايا الفقر الداخلي وبرامج الأسرة الموحاة إليه من قبل دانيال باتريك موينهان السناتور الأمريكي المحافظ المؤيد لآراء دزرائيلي. فقط عندما قامت مهارات نيكسون الخاصة بتدميره، انتزعت حركة المحافظين إنجازاته:
فلقد ثبتت فضيحة ووترجيت هيمنة الحركة التحريرية. في فترة عشرون عاما ابتداءا من 1968 إلى 1988، فصعد الجمهوريون للرئاسة لأربعة من خمس فترات رئاسية.
هل قادت التحريرية النصر في الواقع بعد ووترجيت؟ لا، منذ أن اكتشف تاننهاوس روح بروك في ريجان أيضا، رجل أخر يتخلى عن حركة المحافظين فقط ليظهرها لهم. فلقد رفع ريجان الضرائب ولم يقلل من دور الحكومة، وارتباطه بمحادثات الحد من التسلح (محادثاته السرية مع ميخائيل جورباتشوف)، وإدارة نهاية الحرب الباردة. ولكن ريجان أبقى التحريرية بطرق تجاهلها تاننهاوس - على سبيل المثال تعيين ريجان لادوين مس لمنصب المدعي العام وهو الذي انشأ واستخدم فكرة السلطة التنفيذية المركزية، الفكرة المؤسسة للمجتمعات الفدرالية.
يبدو أن التحريريين إلى حد ما مقارنة بأتباع بورك لديهم مخطط فوضوي أكثر مما اظهر تاننهاوس الأمر في البداية. ومما يزيد من هذا التعقيد فرض تنازع مختلف عليه. تقول فرضية الصحفي صاموئيل لوبيل "لا يوجد لدينا نظامين متنافسين ولكن "نظام شمسي"، الحزب الأول "الشمس" يهيمن لفترة من الزمن، بينما الحزب الآخر "القمر" دائما المرؤوس.
يقول تاننهاوس أن الديمقراطيون كانوا الشمس حتى حالة الرفاهية-الحرب، الذي أمليت من قبل "مجتمع ليندون جونسون العظيم"، فاقدا الطبقة المتوسطة عام 1968. ثم أصبح الجمهوريون هم الشمس (على الرغم من فترات كارتر وكلينتون الفاصلة) حتى عام 2008، حتى سمحت الحرب الباردة من نوع المانوية والأصولية الدينية في سنوات بوش للديمقراطيين أن يعودوا على الساحة كشمس مرة أخرى. هذا هو موت حزب المحافظين "بالرغم،على نحو مربك، انه لا يعتقد أن الحركة الجمهوريين حركة محافظة حقيقية".
يعد تاننهاوس تلميذ بالغ الذكاء للمحافظين الجدد. فلقد كتب سيرة الكاتب والجاسوس الأمريكي ويتكر تشامبرز الخبير في شئون بلدة باكونسفيلد "وقد كان دزرائيلي حاكم هذه المدينة الإنجليزية التجارية"، كما انه قضى بعض الوقت في العمل على سيرة الكاتب المحافظ ويليام فرانك باكلي. هذا الكتاب الصغير هو نوع من أنواع الاتصال بين مشروعيه الكبيرين، كما انه يناسب نموذجه التحريري – المحافظ. تشامبرز وباكلي، بالرغم من إنهم أصدقاء، إلا إنهم بدأا من النهايات المتضادة لسلسلة المحافظين. باكلي، الذي أشاد بشهادة تشامبرز ضد الشيوعية، حاول بكل سحره وإغرائه أن يجعله محرر في مجلة "ناشيونال ريفيو" التي أصدرها عام 1955. ولكن تشامبرز فكر في السناتور جوزيف مكارثي، المؤيد للمجلة، سيقضي على الجمهوريين. بجانب انه كان مخلص لتحالفه مع قضية ألجر هيس الذي اتهم بالتجسس لحساب الاتحاد السوفيتي ومخلصا لريتشارد نيكسون ودوايت إيزنهاور الذي دعم نيكسون حين كان نائبه، بالإضافة إلى معارضة المجلة لهم كمتنازلون خونة. (في عام 1956 كان يوجد محرر واحد بالمجلة وهو جيمس بارنهام وخلفه اندراوس ايزنهاور بعد إعادة انتخابه).
ولكن في عام 1957 استطاع باكلي في النهاية أن يهزم تشامبرز، فمع الكثير من الهواجس انضم تشامبرز إلى المجلة. وكتب الصحفي الأمريكي ميراي كيمبتون أن تشامبرز أخيرا يعمل مع مدير بامكانه احترامه – "أصبح رؤساء تشامبرز في العمل كولونيل بيكوف رئيس وكالة التجسس السوفيتية بالولايات المتحدة والراحل هنري لوس وجون اف اكس ماكجوي الذي تولى منصب وكيل وزارة العدل الأمريكية للمنطقة الجنوبية من نيويورك". اضطر تشامبرز لاحقا إلى التخلي عن المجلة لأسباب صحية ولكن بقى بينه وبين باكلي اتصال منتظم، تشامبرز يقدم نصائحه التي يحترمها باكلي. وقد جعل تاننهاوس القضية هي قدرة تشامبرز على تحويل باكلي من تحريري إلى محافظ. ولكن كيمبتون، الذي درس الشخصيتين عن قرب، يشك أن نصائح تشامبرز كانت تؤخذ على محمل الجد: "باكلي يبجله ولكنه لا يستمع إليه: فرأي تشامبرز مثل أيقونة قديس معلقة في الكنيسة ولكن رسالته أبدا لا تسمع".
يتتبع تاننهاوس التناظر العكسي لتقدم ايرفين كريستول من أتباع الاتجاه المحافظ الحديث إلى التحريرية، وتطور باكلي في الاتجاه المعاكس. بالتأكيد في أواخر عام 1962 كان باكلي لا يقل تطرفا عن أيا من هؤلاء الذي أدانهم تاننهاوس كمحافظ الاتجاه. في نفس هذا العام، كتب باكلي مقال يقول إذا كانت هزيمة الشيويعة سيتبعها إبطال السلاح النووي، فهو إنجاز يستحق الثمن: "فإذا كان صحيحا أن فردا واحد على استعداد لان يموت بسبب قضية عادلة، فبالتأكيد انه صحيح أن حضارة كاملة على استعداد لان تموت من اجل قضية عادلة". ولكن تاننهاوس يعتقد أن باكلي بدأ أن يكون واقعي أكثر خلال حملته المتكلفة لرئاسة بلدية نيويورك في عام 1965، وبعد ذلك تقاربت وجهات نظره أكثر وأكثر مع آراء تشامبرز. ففي مقابلة صحفية مع باكلي عام 2007 وجده تاننهاوس متشكك في الاتجاه المحافظ الذي ساد فترة رئاسة جورج بوش الابن على سبيل المثال لقد كان منتقد حرب العراق بشدة.
ومن الواضح أن باكلي قد عمل طويلا على أن يحتفظ بمجلته "ناشيونال ريفيو" لتكون حرة من أصوات اليمين المتطرفة - أعداء السامية من اللوبي الحر، موضوعانية آيان راندي واختلال مجتمع جون بيرتشر وعنصرية جورج والاس. فإذا كانت المجلة مازالت تعرض الأصوات اليمينية المتطرفة فان تاننهاوس يبرر هذا على انه جهود أتباع الفكر المحافظ الحديث لتجميع المحافظين في مكان واحد. وقد اخذ باكلي هذا الرأي بنفسه. عندما كتبت له عام 1970 قائلا أن المجلة حادة النبرة ولكنها غير مهتمة بالحقيقة، كتب لي قائلا "لديك كل الحق فيما يتعلق بالمحرر جيفرب هارت، أنا ممنون لرأيك هذا، فكما ترى أن المجلة تترنح على حافة الهاوية". وفوق ذلك من الصعب أن نصدق باكلي التابع للفكر المحافظ الحديث عندما يمجد تاننهاوس لتميز سياسات نيكسون وريجان الفعالة، انفتاح نيكسون وزيارة الصين ومحادثات ريجان العسكرية ينكرها باكلي بعد فترة من التحول لآراء تشامبرز التي رسمها تاننهاوس في أواخر الستينات.
للإيضاح الكامل، لابد أن أقول أن تاننهاوس قال عني أشياء لطيفة في كتابه، في المقام الأول بسبب إني عندما كنت في السادسة والعشرون من عمري كتبت مقال أدرجه باكلي ضمن مختارات من كتابات المحافظين. توقعات تاننهاوس لاقت جهودي في الفكر المحافظ الحديث والذي من الممكن أن يكون دقيق بالرغم من اعتمادي الكلي على القديس أوغسطين والقس الروماني جون هنري نيومان. لم أر أبدا للمقال أي تأثير على باكلي ربما في جزء منه لأنه لا يعرف إلا القليل عن أوغسطين ونيومان وهذا شئ محرج. ما اقتبسته من نيومان كان سلسلة خطاباته العامة المعادية للحرب أثناء فترة حرب القرم. لقد قال أن الدستور الإنجليزي جيد للتقدم، كما يجب أن يكون، بينما، هنا ملحوظة محافظة، ما يجب حفظه هو المجموعة الأساسية من المعتقدات والإيمان الراسخ والقواعد والعرف والعادات والحكم الشعبية والمبادئ".
ولكن التقدم ليس كافيا في الحرب كما اثبت في حرب القرم ببلاكلافا "هجوم الكتيبة الخفيفة"، أو مجزرة ماي لاي التي أقامها الأمريكان في فيتنام أو الفلوجة في العراق. فالحرب خلاف الحكومة الدستورية، يقول نيومان، "أن الحكومة الاستبدادية هي الأفضل في حالة الحرب، بينما الحكومة الشعبية هي الأفضل في حالة السلم". فباكلي كان مخلصا لحرب فيتنام حتى النهاية الأليمة، ورغم انه رأى أخيرا حماقة العراق فانه لم يكن في حاجة إلى مساعدة بروك ليعرف ذلك- في الحقيقة معظم الشعب الأمريكي رأى ذلك من تلقاء نفسه.
درس تاننهاوس شخصية باكلي عن قرب، ولابد انه يعرف الكثير عنه عن ما اعرفه أنا، لذا من المحتمل أن سيرته الذاتية ستجعل الأحكام التمهيدية المشار إليها في ذلك الكتاب المختصر أحكام صادقة. الآن لدينا آراء واضحة في العقود القليلة الأخيرة عن السياسي، الشائك، صاحب الرؤية والاستفزازي الأمريكي باكلي. فلقد جعلنا نرى كل شئ من زاوية مختلفة. وبصرف النظر عن آراء باكلي الأخيرة، فان تاننهاوس صنع قضية قاسية ومقنعة ضد ما يحاول جورج دابليو بوش أن يقدمه على انه اتجاه محافظ شرعي:
ولاحقا كانت العراق، الحدث الذي شكل فترة رئاسة بوش، ووفقا لمعظم الآراء، ألقت به وباتجاه المحافظ إلى الانهيار.... فحرب العراق كانت أكثر الأحداث خلافا في الفكر المحافظ الكلاسيكي. غير مباليين إلى الاحتياجات الفعلية للمجتمع المدني داخل أمريكا، فان مخططي حرب بوش على العراق لم يعطوا أي اهتمام لمدى صعوبة خلق مجتمع مماثل في ارض بعيدة ذات خلفية تاريخية مختلفة تماما. هذا بجانب الادراة التي تحاول أن تجعل هذه القضية مهمشة أو ممحاة من جانب السلطة.
على الأقل لم يكن هناك نفحة من بروك في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ادموند بروك: مفكر ايرلندي من رواد الفكر المحافظ الحديث.
** بينجامين دزرائيلي: بريطاني محافظ وتولى رئاسة وزراء بريطانيا مرتين


ترجمة: أميمة صبحي
نُشر في وجهات نظر 2009 

No comments:

Post a Comment