لم أحكي لكِ عن الجدة الكبرى التي لن تعرفينها ابدا يا
عالية، لقد كانت ذكرى الاربعين خاصتها من أيام قليلة. ماتت متأثرة بالشيخوخة، لا
ضغط او سكر او أمراض متعلقة بالقلب، فقط حساسية صدر أصابتها في شبابها ولم تؤثر
كثيرا على صحتها. تذكرني بأورسولا الجدة الخالدة في "مائة عام من
العزلة". عاشت الجدة طويلا وربت ثلاث أجيال بمثابرة
أغبطها عليها. اتذكر حين تزوج احد افراد العائلة زواجا عرفيا وجزعت العائلة
بأكملها، لم تهتز هي بل جلست على سريرها في صمت وكبرياء تتابع جزعنا وغضبنا. لم
تكن غاضبة ولم ترى فيما حدث معضلة كبرى، بعد كل هذه السنوات الطويلة في الحياة لم
تعد ترى اي مشكلة في اي شئ. فكل شئ زائل والحلول متواجدة هنا او هناك. لا مشكلة يا
عالية اطلاقا.
تجتاحني نوستالجيا المكان من آن لآخر في السنوات الأخيرة.
كلما زاد الحنين للماضي كلما أدركت اني كبرت. عندما ذهبت لمنزلها الذي شهد تاريخنا كعائلة بعد وفاتها لتلقي العزاء، أبكاني الحنين. لم يعد المنزل لنا بعد ان تزوج به الخال الاصغر وتغيرت معالمه. اعتقد اني لن اعود ابدا لزيارته وسأكتفي بصورة ذهنية للجدران البيضاء المنقوشة برسومات حمراء صغيرة والتي كنت اتأملها كثيرا في محاولة لأستنباط أشكال وهمية. سأكتفي بدفء الغرفة الداخلية أكبر الغرف. كانت تضم سرير كبير وخزينة ملابس وكنبة صغيرة وكان دائما هناك رقعة كبيرة في المنتصف نجلس جميعا فيها لنتناول العشاء، الآن لا تستطيع تحمل كل هذا. حقيقة غير علمية يا عالية، الأماكن تُضيق بعد رحيل أصحابها ويقل البراح وربما النور المتسلل إليها من السماء ايضا.
هذه الجدة الجميلة جدا التي تزوجت بعد قصة حب من جارها بحي روكسي. كانت الفيلا مقابلة للعمارة، نعم تمتد أصولنا لمصر الجديدة المقدسة يا عالية وهذا وحده شئ كاف للابتهاج. كانوا لا يزالوا اطفالا وتزوجا يذهب هو الى عمله وترفض هي تنظيف المنزل وتُفضل ان تنتقل لشقة اخرى وتترك ورقة صغيرة على الباب لتبلغه بالعنوان الجديد. وهكذا انتقلت الاسرة من شرق مصر الجديدة لغربها، في كل الميادين والشوارع النبيلة حتى انهم قطنوا ذات مرة في شقة مقابلة لقصر البارون، أتتخيلين! انا كحفيدة نشأت في الشرابية مع نفس الجدة، منبهرة. كان يتركها الجد ويسهر في سهرات طويلة بالشرابية مع اولاد عمومته ففطنت بذكائها حتمية الانتقال لجوارهم حتى لا تكون السهرات سببا للتباعد بينهم. كان ما بين مصر الجديدة والشرابية في ذلك الزمن، أيام. وفي الوقت الذي كانت الطبقة الدُنيا في مصر تصعد في عصر الانفتاح كانت جدتي تنحدر بنا جميعا الى هناك. توقفت إحدى خالاتي عن الذهاب للمدرسة لأن الأطفال هناك متسخين ولا يملكون مناديل لتنظيف أنوفهم. ولكن الجدة بدأت حياة جديدة هناك. في هذا الحي الشعبي اصبحت مميزة فهي الجميلة القادمة من الأحلام بفساتينها التي لا يرونها غير في افلام صباح وشادية والأقراط والقلادات الملونة الزاهية. كانت سيدات الحي يخدمونها في مقابل تعليمهن كيفية محاذاة الموضة كما علمتهن كيف يطبخن الكانولوني وكيفية عمل المربى. كانت تزرع السطح بالجرجير والطماطم والفلفل فتعلموا ان يضعوا أصاصيص الزرع في بلكوناتهن. كانت فقط تجلس في الصالة الفسيحة تشتغل الكورشية وهن حولها يطبخن وينظفن ويأكلن قبل الرحيل في امتنان. وكذلك كانت أروسولا الخالدة تعلم الجميع وتستقبلهم في ترحاب شديد وحب. كانت الجدة سيدة الشرابية الأولى بلا منازع كما ان الجد كان الباشا الغير رسمي بسماره ووسامته وقبل ذلك بكرمه البالغ على أهل الحي. كانت أقفاص الفاكهة تتوالى على المنزل بلا انقطاع وبلا فواتير، فخيره سابق على الجميع. بالتأكيد كانت سنوات سعيدة ولت بموت الجد المفاجئ وغلق الأبواب المفتوحة نسبيا. وانسحاب الجميع بالتدريج وبقت السيرة العطرة إلى الآن تصل لآنوفنا كلما اقتربنا من المكان. وبقينا نحن عالقين بين أرستقراطية وبرجوازية زائفة تمتد جذورها للأرض المقدسة وبين طبقات شعبية وحواري وأزقة وجيل جديد من الأحفاد لا يعرف اين موطأ قدمه تحديدا.
لم أتخلص أبدا من حنيني للمنزل الآخر الموجود في البناية المجاوة لبيت جدتي، المنزل الأقدم في حياتي على الاطلاق. منزل الجدة الأخرى يا عالية التي رحلت منذ سنوات. تلك الجدة الطيبة التي طالما دعت الله ان يريح زوجها من عناء المرض ويتوفاه ثم لحقت به بعد أشهر قليلة. هل كانت تعرف انها لن تتأخر كثيرا حتى تلقاه؟ لا أعرف بل هذه قصة أخرى. ولكن لا تقلقي، لا وجود لثنائية الحنين والموت يا عالية، يأتي الحنين من الفراغ. يمكنك ان تشعري به تجاه الاسبوع الفائت، تجاه الامس، تجاه الخمس دقائق الماضية! الحنين يأتي لأنه لا يعرف مكان آخر غيرنا.
اليوم رأس السنة، غدا أول يوم في 2013 يا عالية. في يناير سيكون عمرك عامان وفي مارس سيكون عيد زواجي الثالث وفي أبريل سيكون عيد ميلاد عبدالله.. ونحن جميعا نحب فبراير يا عالية لأنه ذكرى أول لقاء بيني وبين أبيك، وذكريات كثيرة بيننا. عندما يأتي مايو سنفكر سويا في كيفية صناعة البهجة والاحتفال بشئ ما
هذا العام كان شاهدا على نهاية فصل آخر من الحياة. توالت فصول كثيرة يا عالية وقريبا سأتمم الكتاب ونبدأ في كتابة آخر معا بلا فصول وبلا نهايات، فقط بدايات متوالية ومفتوحة على كل الاحتمالات لعلنا نتخلص من أزمة النوستالجيا سويا.
Happy new year
هذه الجدة الجميلة جدا التي تزوجت بعد قصة حب من جارها بحي روكسي. كانت الفيلا مقابلة للعمارة، نعم تمتد أصولنا لمصر الجديدة المقدسة يا عالية وهذا وحده شئ كاف للابتهاج. كانوا لا يزالوا اطفالا وتزوجا يذهب هو الى عمله وترفض هي تنظيف المنزل وتُفضل ان تنتقل لشقة اخرى وتترك ورقة صغيرة على الباب لتبلغه بالعنوان الجديد. وهكذا انتقلت الاسرة من شرق مصر الجديدة لغربها، في كل الميادين والشوارع النبيلة حتى انهم قطنوا ذات مرة في شقة مقابلة لقصر البارون، أتتخيلين! انا كحفيدة نشأت في الشرابية مع نفس الجدة، منبهرة. كان يتركها الجد ويسهر في سهرات طويلة بالشرابية مع اولاد عمومته ففطنت بذكائها حتمية الانتقال لجوارهم حتى لا تكون السهرات سببا للتباعد بينهم. كان ما بين مصر الجديدة والشرابية في ذلك الزمن، أيام. وفي الوقت الذي كانت الطبقة الدُنيا في مصر تصعد في عصر الانفتاح كانت جدتي تنحدر بنا جميعا الى هناك. توقفت إحدى خالاتي عن الذهاب للمدرسة لأن الأطفال هناك متسخين ولا يملكون مناديل لتنظيف أنوفهم. ولكن الجدة بدأت حياة جديدة هناك. في هذا الحي الشعبي اصبحت مميزة فهي الجميلة القادمة من الأحلام بفساتينها التي لا يرونها غير في افلام صباح وشادية والأقراط والقلادات الملونة الزاهية. كانت سيدات الحي يخدمونها في مقابل تعليمهن كيفية محاذاة الموضة كما علمتهن كيف يطبخن الكانولوني وكيفية عمل المربى. كانت تزرع السطح بالجرجير والطماطم والفلفل فتعلموا ان يضعوا أصاصيص الزرع في بلكوناتهن. كانت فقط تجلس في الصالة الفسيحة تشتغل الكورشية وهن حولها يطبخن وينظفن ويأكلن قبل الرحيل في امتنان. وكذلك كانت أروسولا الخالدة تعلم الجميع وتستقبلهم في ترحاب شديد وحب. كانت الجدة سيدة الشرابية الأولى بلا منازع كما ان الجد كان الباشا الغير رسمي بسماره ووسامته وقبل ذلك بكرمه البالغ على أهل الحي. كانت أقفاص الفاكهة تتوالى على المنزل بلا انقطاع وبلا فواتير، فخيره سابق على الجميع. بالتأكيد كانت سنوات سعيدة ولت بموت الجد المفاجئ وغلق الأبواب المفتوحة نسبيا. وانسحاب الجميع بالتدريج وبقت السيرة العطرة إلى الآن تصل لآنوفنا كلما اقتربنا من المكان. وبقينا نحن عالقين بين أرستقراطية وبرجوازية زائفة تمتد جذورها للأرض المقدسة وبين طبقات شعبية وحواري وأزقة وجيل جديد من الأحفاد لا يعرف اين موطأ قدمه تحديدا.
لم أتخلص أبدا من حنيني للمنزل الآخر الموجود في البناية المجاوة لبيت جدتي، المنزل الأقدم في حياتي على الاطلاق. منزل الجدة الأخرى يا عالية التي رحلت منذ سنوات. تلك الجدة الطيبة التي طالما دعت الله ان يريح زوجها من عناء المرض ويتوفاه ثم لحقت به بعد أشهر قليلة. هل كانت تعرف انها لن تتأخر كثيرا حتى تلقاه؟ لا أعرف بل هذه قصة أخرى. ولكن لا تقلقي، لا وجود لثنائية الحنين والموت يا عالية، يأتي الحنين من الفراغ. يمكنك ان تشعري به تجاه الاسبوع الفائت، تجاه الامس، تجاه الخمس دقائق الماضية! الحنين يأتي لأنه لا يعرف مكان آخر غيرنا.
اليوم رأس السنة، غدا أول يوم في 2013 يا عالية. في يناير سيكون عمرك عامان وفي مارس سيكون عيد زواجي الثالث وفي أبريل سيكون عيد ميلاد عبدالله.. ونحن جميعا نحب فبراير يا عالية لأنه ذكرى أول لقاء بيني وبين أبيك، وذكريات كثيرة بيننا. عندما يأتي مايو سنفكر سويا في كيفية صناعة البهجة والاحتفال بشئ ما
هذا العام كان شاهدا على نهاية فصل آخر من الحياة. توالت فصول كثيرة يا عالية وقريبا سأتمم الكتاب ونبدأ في كتابة آخر معا بلا فصول وبلا نهايات، فقط بدايات متوالية ومفتوحة على كل الاحتمالات لعلنا نتخلص من أزمة النوستالجيا سويا.
Happy new year
No comments:
Post a Comment