Wednesday, December 26, 2012

أكتر من مجرد بورتريه!



في عام 1976، ذهب المصور الفوتوغرافي ريتشارد افدون إلى واشنطن ليلتقط صورة للرئيس الأمريكي هنري كاسنجر. وبينما يجلسه افدون في المكان المخصص للتصوير قال له كاسنجر "كن لطيف معي".
قام الفنانون بتصوير بورتريه لشخصيات قائدة كثيرة منذ تمثال ملك أسبانيا فيليب الرابع الذي نحته الرسام الأسباني دييغو فيلازكيز حتى لوحة الملكة إليزابيث الثانية للفنان البريطاني المعاصر لوسيان فرويد، في الواقع أن تصوير بورتريه يمكنه ترك الملك أو الطاغية أو رئيس الجمهورية أو الدبلوماسي مع مشاعر مفاجئة من عدم التوازن وضعف القوة. أدرك افدون أن كاسنجر حاول أن يؤثر فيه ولكن ماذا كان يريد تحديدا؟، كتب افدون فيما بعد "هل رغب كاسنجر في أن يبدو حكيما ودافئ وأكثر صدقا مما هو عليه؟ أليس من الابتذال وعدم الاحترام جعل شخص ما يبدو حكيم ونبيل، رغم سهولة ذلك، وحتى تقليدي بشكل محبب مع أن الشخص نفسه أكثر تعقيدا وتناقض وبالتالي رائع؟"
في سبتمبر الماضي، عندما كان تقريبا كل زعماء العالم في مدينة نيويورك لحضور اجتماع الأمم المتحدة، قام بلاتون مصور هذه المجلة، مجلة The New Yorker، بإنشاء أستوديو صغير قبالة الجمعية العمومية وحاول أن يجمع قدر استطاعته اكبر عدد منهم ليقفوا أمام عدسته. لعدة شهور، قام العاملين بالمجلة بكتابة خطابات إلى العديد من الحكومات والسفارات ورغم ذلك استغرق المشروع خمس أيام طوال فكان بلاتون يفعل كل ما في وسعه لجذب انتباه محمود احمد نجاد وهوجو شافيز ومعمر القذافي للكاميرا خاصته.
وقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنجامين نتنياهو، لبلاتون قبل التقاط الصورة "من فضلك، اجعلني وسيما"
التاريخ ملئ بالقواد الذين لم يتحملوا نتائج جلستهم أمام عدسة الكاميرا. فلقد أشاد ونستون تشرشل بصورة له قام بالتقاطها المصور الإنجليزي جراهام سوثيرلاند ولكنه بعد ذلك شعر إنها تجعله يبدو أكبر سنا وكأنه في مرحلة الشيخوخة، فقامت زوجته كليمنتين بتدميرها. يبدو أن الرؤساء والملوك يبحثون غالبا عن فنان ليقوم بعمل أو تصوير بورتريه خاص بهم في بداية تسلمهم مناصبهم. ففي 27 فبراير عام 1860، اليوم الذي تولى فيه مهامه وألقى خطابه الأول في جامعة Cooper Union، قام أبراهام لنكولن بالذهاب إلى أستوديو المصور الفوتوغرافي الأمريكي الأشهر Mathew Brady ليلتقط له صورة وبهذه الصورة بدأت الحياة السياسية لواحد من أعظم السياسيين الأمريكيين.
كما انه القلق المٌلح الذي جعل السياسي المحنك نتنياهو يقول لبلاتون في الأستوديو المؤقت الخاص بجانب الجمعية العمومية مؤكدا طلبه "من فضلك، اجعلني وسيما".





ترجمة: اميمة صبحي

تم نشر المقال في مجلة وجهات نظر عدد مارس 2010

Tuesday, December 25, 2012

فنون التعايش: المسيحيين واليهود والمسلمين وصنع الثقافة القشتالية


خطوة إلى داخل المسجد العظيم في قرطبة لتجد نفسك قد انتقلت إلى وقت يبدو انه قد تجمد والى مساحة آخذة في التلاشي (انظر الصور التوضيحية صفحة 42). في كل مكان تنظر إليه، ستواجه أعمدة طويلة من الآفاق المنحسرة، حوالي 850 عامود في المجموع الكلي، والتي ترتفع ضعف صفوف الأقواس المتداخلة المكونة من الحجر الأبيض والطوب الأحمر بالتناوب. يغمرك انطباع قوي بالانتظام والاتساق وفوق كل هذا بالسكون السرمدي.
بالإضافة إلى انه للوهلة الأولى يبدو الاتساق كمعرضا لآثار متنوعة غير متطابقة كالأعمدة الرخامية، على سبيل المثال. عندما باشر أمير المسلمين عبد الرحمن الداخل فاتح الأندلس بناء المسجد العظيم في عام 780 ميلادية، استغل الأعمدة وتيجانها المسلوبة من المباني القوطية والرومانية التي وجدت في رقعة كبيرة تمتد من شمال أفريقيا إلى مدينة ناربون جنوب فرنسا.
إذا عكس المسجد روح الأثر العظيم المسجد الأموي في سوريا التي فر منها عبد الرحمن الداخل بعد سقوط الدولة الأموية، فهو أيضا قد استلهم تصميمه من المباني الرومانية ومن الأشكال المحلية الوطنية للأسبان القوطيين. بالطبع، وفقا للتاريخ فقد بنى هذا المسجد على أطلال كنيسة القوطيين المتهدمة "سان فيسنتي"، هو مكان للعبادة شارك المسلمون فيه المسيحيون حتى بدأ البناء الجديد. ومن الجدير بالذكر أن كنيسة "سان فيسنتي" نفسها تم بناؤها على أطلال معبد روماني.
قرطبة القرون الوسطي، بجانب المسجد العظيم في قلبها، كانت مركزا حيث التقاء الثقافات والحضارات واندماجها سويا.
بجانب أشكاله المعمارية الانتقائية من كل صوب، فان هذا المسجد كان أيضا انتصار مؤكد للهيمنة الإسلامية، الهيمنة التي كانت في عهد عبد الرحمن الداخل وخلفاؤه الأمويون ممتدة حتى الحدود الشمالية لشبه الجزيرة الايبيرية أو جزيرة الأندلس كما كانت تسمى في عهده، حيث مازال المسيحيون قابعون.
تلك الهيمنة التي بدأت عندما عبر جيش البربر أو الامازيغ مضيق جبل طارق في عام 711 ميلادية واسقطوا الدولة القوطية، الوريثة لرومان أسبانيا. كان الفتح سريعا، وعندما اصبحت الخلافة الأموية في قرطبة وصلت لأوج قوتها في القرن العاشر. فكان الزوار المسيحيين ينبهروا من ثراء وعظمة هذه الدولة وقد أخفى هذا الهشاشة الداخلية التي أدت إلى الصراع على السلطة وهذا بدوره كان سببا في السقوط في حرب أهلية. في عام 1031 انقسمت الدولة لأكثر من عشرين دويلة يتولى حكم كل منهم أمير من الأمراء الذين أطلق عليهم لقب ملوك الطوائف. مع سقوط الأمويين كانت أيام قرطبة العظيمة قد أوشكت على الانتهاء، وأخذت طليطلة مكانها كمركز للحضارة الإسلامية، وهي تقع مع ما كان يشكل آنذاك الحدود الشمالية للدولة الأموية مع الممالك المسيحية. وهي المدينة التي كانت في وقت سابق عاصمة القوط الأسبانيين، وقد أصبحت فيما بعد عاصمة أحدى دول ملوك الطوائف، باهرة الزوار المسيحيين بعظة وبهاء رفاهية الحياة بها كما كان أجدادهم ينبهروا بعظمة قرطبة. ولكن الضغائن الداخلية الناتجة من انقسام أسبانيا الإسلامية أعطت للمسيحيين فرصتهم. في عام 1085 قام الفونسو السادس ملك الممالك المتحدة قشتالة وليون، والذي كان قد تذوق طعم طليطلة أثناء نفيه المؤقت عن مملكته، بدخول المدينة بجيشه بانتصار. ومن ذلك الوقت فصاعدا بقيت طليطلة في يد المسيحيين. ولكن إذا كان هذا مؤشر لنهاية قصة ما فانه كذلك مؤشر لبداية أخرى. هذه القصة الممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر تم قصها بحيوية بواسطة ثلاث من الكتاب في كتاب "فنون التعايش بألفة". ثلاثتهم متخصصون في التاريخ الثقافي لأسبانيا في العصور الوسطي، بجانب ماريا روزا منوكال الباحثة المعروفة ببحثها المهم عن الحضارة الأسبانية في العصور الوسطي "زخرفة العالم: كيف تسنى للمسلمين واليهود والمسيحيين أن يتعايشوا في ظل ثقافة من التسامح في أسبانيا في العصور الوسطي" وكان الهدف من هذا البحث هو إعطاء فكرة للقراء الغربيين عن إنجازات وتأثير الأندلس الإسلامية، ويسير كتاب "فنون التعايش بألفة" على نفس نهجه. فهو كتاب للقراء العاديين
من غير المتخصصين ولكنه يعد واحدا من أكثر الكتب المنشورة حديثا التي تؤخذ في الحسبان على إنها متخصصة في التاريخ الأسباني في العصور الوسطي، ومن أكثر الكتب التي تم تكريسها لتكون مقال ببيلوغرافي واسع النطاق.
لا يوجد أي ملاحظات على النص، ولكنه يحتوي على العديد من الادراجات المطبوعة على خلفية برتقالية اللون التي تمد القارئ بالمعلومات الإضافية عن الأشخاص والأماكن إلى جانب مختارات من نصوص معاصرة سواء كانت نصوص أصلية أو مترجمة. والنتيجة كانت كتاب جذاب مزود بالرسوم التوضيحية ببذخ ومنتج بشكل رائع، رغم أن وزنه يعتبر عائقا فلا يحمل بسهولة في اليد.
تاريخ شبه جزيرة ايبيريا في العصور الوسطي يعتبر سلسلة معقدة من الممالك المتنافسة، بربريين ومسيحيين، متفرقين ومندمجين وإعادة تشكيل أنفسهم كانت تنوع محير من التبادل والتركيب، مقدمة تحديات هائلة لأي مؤرخ. بمواجهة مهمة جعل التاريخ أكثر إدراكا للقراء العاديين، حافظ مؤلفو "فنون التعايش بألفة" على الحد الادني اللازم لفهم الخلفيات السياسية والعسكرية للأحداث التاريخية. وقد ركزوا اهتمامهم على التاريخ الثقافي الذي هو اهتمامهم الأول. بالنظر لثراء التاريخ الثقافي نظرة خاصة. الفن والعمارة والإنتاج الشعري في شبه الجزيرة الايبيرية خلال القرون الوسطي يعتبروا نوعية بحث مدهشة لا يمكن لضوئها أن يخفت بسهولة، خاصة عندما يكون متقد ومقدم بشكل جيد ككل هذا.
ماذا كان يوجد هناك في شبه جزيرة ايبيريا في العصور الوسطي ليجعلها في ثراء إبداعي؟ في منتصف التاريخ الايبيري من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر بدأ تغيير الحدود. فالفتح العربي البربري لايبيريا في خلال القرن الثامن حدث بشكل عكسي بواسطة حركة المسيحيين التدريجية الجنوبية من شمال أسبانيا حتى المقاطعة التي فتحها المسلمين. هذه الحركة، امتدت عبر كثير من القرون والى حد ما وبشكل مضلل عرف هذا الاسترداد الذي صور على ليكون استعادي بأنه حرب مقدسة ضد الإسلام. في الواقع، بالرغم من أن المسيحيين عكسوا الحملات الصليبية على جهاد المسلمين، إلا أن الحرب بينهم قد تخللها فترات طويلة من السلام. وكان المسيحيون والممالك الإسلامية يتحدون ويفسخون الاتحاد بينهم وكأن الأمر ضرورة حتمية. وقد انتهت عملية الفتح نفسها فقط في عام 1492، عندما استسلم أخر حصن إسلامي، مملكة غرناطة التي ضعفت بشدة، إلى جيش الملكة ايزابيل وزوجها فرناندو الثاني، حاكمين أسبانيا المتحدة التي اتحدت بزواجهما.
يقول المؤرخ ريتشارد فليتشر في كتابه "مسلمي أسبانيا"، الذي ربما مازال من أكثر الكتب وصولا إلى التاريخ العام للأندلس بالنسبة للقارئ العادي، "الحقيقة الواضحة أن ما بين عام 712 ميلادية و1492 عاشت المجتمعات الإسلامية والمسيحية جنبا إلى جنب في شبه الجزيرة الايبيريا، وان هذا التعايش استمر طويلا وبشكل حميمي". ربما تكون هذه الصورة هي التي أوحت لمؤلفي "فنون التعايش بألفة" هذا الاسم. فكان يوجد بين المسيحيين ومسلمي أسبانيا منطقة حدود مسامية، تمتد وترتبط بنشوب وخفوت الحرب والتسوية بينهم. والفتح الإسلامي غمر مجتمعات عريضة من المسيحيين الأهليين، الذين عرفوا باسم "المستعربين" أي المسيحيين المعربين ليعيشوا تحت الحكم الإسلامي. فكلا من المستعربين واليهود المعروفين بأهل الكتاب كما تقول النصوص الإسلامية، عاشوا في حماية كأقليات دينية في مقابل اعترافها بالسلطة الإسلامية ودفع ضريبة خاصة تسمى "الجزية".
عندما غزا الفونسو السادس وشعبه من القشتالين طليطلة عام 1085، حافظ على استمرارية الحكم الإسلامي بفاعلية، واعدا المسلمين الباقين بتوفير الحماية لهم، وحرية العبادة وأداء صلاة الجمعة في المسجد. وأثناء تقدم الجيوش المسيحية نحو الجنوب، وقع العديد والعديد من المسلمين تحت الحكم المسيحي، فأصبحت صورة طبق الأصل من المستعربين وعرفوا بعد ذلك بالمدجنين أي المسلمون الذين بقوا في الأندلس بعد نزوح العرب.
ما وجدناه إذن، أولا في أسبانيا المسلمة ثم في الأجزاء التي استرجعها الحكم المسيحي، كان التعايش، خاصة في المدن ذات التنوع العرقي والديني، مع درجة من الحماية القانونية امتدت حتى الأقليات. ومع ذلك، فان الموقف كان قابلا للتغير المفاجئ. ففي منتصف القرن الحادي عشر، على سبيل المثال، قامت جماعة الموحدين وهي طائفة إسلامية موطنها المغرب وامتد سلطانها إلى الأندلس، بإتباع سياسة الاضطهاد التي قادت العديد من غير المسلمين إلى اللجوء لمقاطعات المسيحية. وبعد مرور قرنين، تحديدا في عام 1391 كان اليهود هم ضحايا مذبحة رهيبة قام بها المسيحيون. لكن التعايش الذي كان موجود إلى حد كبير وتمليه الراحة أو الديموغرافيه أو خليط بينهما كان لفترة زمنية طويلة هو النظام اليومي المعتاد.
مصطلح التعايش convivencia تم استخدامه في التاريخ الأسباني منذ أوائل القرن الثاني عشر ليصف العلاقة المشتركة بين أصحاب ثلاث معتقدات مختلفة. ولكن في عصر جديد من التعددية الثقافية في وقت لاحق من القرن العشرين، لم يقتصر الأمر على أن مصطلح التعايش يتطلب حداثة مفاجئة، ولكنها توقفت لتكون محايدة وجاءت بدلا من ذلك لتقترح حالة من التعايش في وئام، ووضع حد للاستيلاء على غرناطة وطرد اليهود عام 1492. الأكثر من وجود أسبانيا العصور الوسطي كان وصفها على إنها مجتمع فريد متسامح، فهي كمنارة أمل لعالم يتحول بشكل درامي بالاختلاط بين الشعوب وصدام الحضارات.
الفكرة الرئيسية لبحث ماريا روزا منوكال "زخرفة العالم" كانت حول عالم ما أطلقت عليه "ثقافة التسامح"، التي ولدت بتعايش وتفاعل المسيحيين واليهود والمسلمين في بعض المدن مثل قرطبة وطليطلة.وبالمقارنة بكتاب "فنون التعايش بألفة" لن نجد أي استخدام للتعبير "ثقافة التسامح"، فلقد تمحورت فكرة الكتاب حول اندماج هوية الثقافة القشتالية المميزة من خلال "المساحة المشتركة" بين الإسلام واليهودية.
بمعنى آخر، هذه دراسة عن "التفاعل الثقافي" بدلا من "ثقافة التسامح". هنا التراجع لخلفية أكثر حيادية يبدو مفيدا. فهناك إفراط عاطفي نحو فكرة التعايش الأسباني في العصور الوسطي، والتسامح نفسه مفهوم غامض، خاصة الذي ظهر خلال القرون الوسطي ووجد فكرة حقوق الإنسان الفردية غريبة تماما.
عمليا، أن التعايش كان عاطفي وهش. والجدير بالذكر انه كان يفتقر إلى المساواة الدينية. فالمسلمون والمسيحيون يعتبروا على حد السواء أنفسهم أصحاب المعتقد الصحيح، وعندما يتمتعوا بالهيمنة فهم فقط يتقبلوا صاحب المعتقد الآخر في صبر إكراهي، رغم أن هذا الصبر لم يحول ضد اتحاد الممالك المسلمة مع الممالك المسيحية ضد إخوانهم المسلمين، أو اتحاد المسيحيون مع المسلمين ضد إخوانهم من نفس الديانة. ولكن أيا كان الذي يحكم سواء مسلمين أو مسيحيين أو يهود فقد كانوا طوال الوقت مجتمعين في المدن والبلدات، يتمازجوا باستمرار أعمالهم اليومي ولكن في بعض المدن كانوا يعيشوا في أحياء معزولة. من الأمور الحتمية المترتبة علي اختلاطهم بهذا الشكل هي التقطهم بعض من عادات وتقاليد وأذواق جيرانهم. حيث كان يمكن للمسلمين أن يدخلوا الأديرة المسيحية من اجل كأس من الخمر المحرم.
بجانب هذا التفاعل الشعبي جاء التفاعل المشترك بين النخبة الثقافية، بالرغم من أن الصدارة الثقافية ظلت لقرون مع مسلمي أسبانيا. ناشئي الحضارة الإسلامية انتشروا عبر الشرق الأوسط، وقد جلب الأمويين معهم من سوريا تقليد راسخ في الرعاية الثقافية وأهمية فنون الكياسة، واحترام عميق تجاه العلوم وتعلم كل ما يتعلق بالعصور القديمة. المسيحيون الذين كانوا على اتصال بهم بمقارنتهم سيبدون اقل من البربرين الخام.
ولكن كما يوضح "فنون التعايش بألفة"، بعض من هؤلاء المسيحيين اثبتوا إنهم مهرة في التعلم. ألفونسو السادس وخلفاؤه لم يأخذوا فقط مكان الخلفاء ولكن أيضا تقاليدهم في الرعاية الثقافية. تحت الحكم المسيحي تحديدا في القرن الثاني عشر اصبحت طليطلة المدينة المتنوعة عرقيا ودينيا مركز كبير للترجمة من النسخ اللاتينية المعدلة إلى اليونانية والنصوص العربية العملية ونصوص علم الرياضيات والفلسفة الذين تم نشرهم في كل أوروبا. تلك التعددية الثقافية التي ميزت طليطلة ستنتقل إلى الجنوب على اثر الاستعادة المسيحية لأسبانيا.
عندما توفي فرديناند الثالث، فاتح اشبيلية، بنى ابنه ألفونسو العاشر "الملقب بالحكيم أو المثقف" لأبيه مقبرة في مسجد اشبيلية الذي تحول الآن إلى كاتدرائية، ونقش فوق شاهد القبر اسمه تكريما له باللاتينية والعربية والعبرية القشتالية.
مؤلفو "فنون التعايش بألفة" أكدوا على الإدراج المكتوب بالقشتالية لان اهتمامهم ينصب على تتبع التزييف التدريجي للهوية القشتالية المميزة والثقافة بالتفاعل بين الثقافات والناس في العصور الوسطي. وقد أثبتت قشتالة مبكرا إنها مميزة بين مقاطعات أوروبا الغربية باحتضانها لكل ما هو عامي، ففي قشتالة القديمة في عام 1230 بدل القشتالين اللاتينية كلغة للوصيات ولكل المستندات المتعلقة بالممتلكات. سحر وجمال أسبانيا الإسلامية جعل من السهل الاستخفاف بتشكيل الثقافة القشتالية التي شكلتها الأقاليم الشمالية لشبه الجزيرة الايبيرية، التي تمتلك روابط دينية وثقافية قوية مع فرنسا. ولكن هذه الثقافة كما ذكرها هذا الكتاب الذي نحن بصدده بوضوح تأثرت بشكل كبير بتجربة التعايش ومواجهة الإسلام المتزامنة. وقد أشار المؤلفون إلى التعابير الملتبسة لعلاقة غامضة دائمة منعكسة في ملحمة شعبية عظيمة بقشتالة في القرون الوسطي تم تصويرها في أغنية الشاعر الملحمي "السيد"* (استراحة السيد). تحكي القصيدة عن مأثرة محارب جاء ليرمز إلى الكفاح الانتصاري للمسيحيين الأسبان ضد المسلمين البربر، رغم انه، من المرجح، كان مرتبط بمقاتلة الأتباع المسيحيين.
لذلك فان التفاعل الثقافي ليس بالضرورة أن يكون متوقفا على ثقافة التسامح. ابتداء من القرن الحادي عشر حتى بعد ذلك كان يوجد موقف متصلب من الطرفين منقسم بين التصريحات الباباوية بشأن الحملات الصليبية وجهاد الموحدين. ولكن بالرغم من هذه المواقف المتصلبة وانتصار المسيحيين العظيم على المسلمين البربر في لاس نافاس دي تولوزا في معركة العقاب عام 1212، إلا أن الحياة الاجتماعية والثقافية في قشتالة استمرت عاكسة تأثير المسلمين القوي. السكان المدجنون الذين خضعوا للحكم المسيحي في صحوة الاسترداد كلفوا عمالهم الحرفيين ببناء كنائس مسيحية تضجر بصمة المسلمين البربرين الواضحة. في القرن الخامس عشر كانت الأذواق والعادات البربرية تتخلل الحياة الملكية وعندما قبل فردناند وايزابيلا استسلام غرناطة كانوا مرتدين الملابس البربرية.
بالإضافة إلى ذلك كانت الهوة واسعة بين التدريب والممارسة. فأسبانيا الرسمية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر اصبحت مشهورة بتعصبها الديني، تأسيس محاكم التفتيش، ترحيل اليهود منها، وفرض المسيحية على المدجنون ويطلق عليهم الآن "موريسكيون" وهم المسلمين الذي بقوا في الأندلس بعد استرداد غرناطة. ولكن بملام فرناند وايزابيلا على سياستهم المتعصب فإننا ننسى ببساطة تصرف انجلترا وفرنسا في العصور الوسطي عندما طردوا يهودهم منذ فترة طويلة. هناك تفسير واحد لهوس الانهماك في نقاء العرق الديني والتوحيد الواضح بجلي في أسبانيا أثناء عهد فرناند وايزابيلا يمكننا إيجاده في تصورهم عن دولتهم في عصر النهضة الأوروبية على أساس إنها ارض "سيئة الأعراق" وتشوه عقيدتهم. فلديهم حافز قوي لمقاومة إرادة الأسطورة السوداء** الأولية لإطلاق كل نزاع ضد أسبانيا يمكن تصوره، متضمنا التعايش الذي استمر طويلا بين المسيحيين والمسلمين واليهود الذي جعل دولتهم شاذة في العصر المسيحي المبكر.
حكم خلفاء الأسبان "الهابسبورج"*** أصبح مثال للتعصب. الإصرار على اقتلاع كل ذرة هرطقة والحاجة إلى الدم النقي لشغل المناصب، حتى إذا لم تكن شاملة ومؤثرة كما يدعى أحيانا، يعد كل هذا مؤشرات واضحة لنيل المناصب العليا الحكومية
في الكنيسة والدولة. ومن الطبيعي أن نستنتج من التصريحات والسياسات الرسمية، خاصة بعد بلوغ ذروة التعصب بطرد الموريسكيون منذ 400 عام الآن، أن التعصب قد تغلغل في نسيج المجتمع الأسباني بأجمعه.
هذا واحد من افتراضات ستيوارت شوارتز، أستاذ التاريخ بجامعة يال الأمريكية والمعروف من خلال كتبه عن مستعمرة البرازيل، والذي يتحدى بكتابه "الجميع يمكنه الخلاص" عن التسامح الديني والخلاص في شبه الجزيرة الايبيرية. مدى طموحه وكثرة وثائقه واتساع نطاقه الجغرافي كل هذا جعل من كتابه جهد ملحوظ. اعتمادا على مئات القضايا من تحقيقات محاكم التفتيش الأسبانية والبرتغالية، خطط ليثبت ويتحدى أن هناك وجود لدرجة من التسامح الديني على المستوى الشعبي، ليس فقط داخل أسبانيا والبرتغال إنما أيضا في مقاطعتهم الأمريكية، وهذا كان يتعارض تماما مع الأيديولوجية الرسمية للكنيسة والدولة. وقد وجد هذا الدليل على ذلك في البيانات التي أدلى بها من تم استدعاؤهم إلى المحكمة قبل المحاكمة بتهمة الهرطقة والانحراف، تحت تأثير أن "كل مرؤ يمكنه الخلاص عن طريق معتقده الخاص".
القضايا التي أوردها في كتابه تجعل القراءة ممتعة. ففي عام 1488، أعلنت امرأة قروية من بلدة اراندا تدعى جوانا بيريز أن "اليهودي الصالح سينقذه الله وكذلك المسلم الصالح، كلا في عقيدته، والا لماذا خلقهم الله هكذا؟". وفي عام 1594 جادل عامل أسباني يدعى جوان فرنانديز احضروه قبل المحاكمة في ليما وقال "كل شخص صالح يمكنه خلاص نفسه وفقا لقانونه الخاص". هذا والعديد من القضايا الأخرى تجعل على الأقل فرضية شوارتز للوهلة الأولى قضية على المستوى الشعبي، بان العالم الايبيري كان اقل تشددا في مسيحيته وأكثر انفتاحا ليتقبل الطرق البديلة للخلاص أكثر مما يظهر للعيان أو ما يعتقده المؤرخين.
كان شوارتز نفسه هو أول من أدرك المشاكل المتلازمة في فرضيته. فتدوين الاستجوابات معروفا انه صعب ترجمته مما يعطي فرصة للتلاعب وسوء الفهم لبعض المحققين. حتى إذا كانت استجوابات المساجين والشهود بالطبع مسجلة بالتدوين، هل هم مقصورين على قليل من الأفراد الكارهون لسبب أو آخر قبول سير العمل الرسمي؟ أو هم يمثلوا آراء قطاع عريض من المجمتع ككل؟ وفي الحالة الأخيرة، فان الصورة المحافظة لأسبانيا في بداية عهدها كمجتمع متعصب على نحو استثنائي سيظهر بها خلل جدي.
إذا لم تكن قضايا شوارتز التاريخية تشير تحديدا إلى ثقافة التسامح، فيبدوا إنهم يشيروا بالتأكيد إلى ثقافة فرعية للمعارضة. إلى كل من يتحدث من عقله، لابد أن هناك كان العديد من الحريصين على التزام الصمت. فليس من الحكمة أن نثير الانتباه تجاه محاكم التفتيش. لذلك "فالتسامح" يمكنه التحرك على امتداد طيف يمتد من اللامبالاة، من خلال مبدأ العيش وترك الآخرين يعيشوا، فاعتقاد راسخ بحزم أن لا الكاثوليك أو البروتستانت أو المسلمين أو اليهود محتكرين الحقيقة، وبناءا على ذلك "فان كل شخص يمكنه الخلاص من خلال قانونه الخاص".إلى هذا المدى بينما كل هذه المواقف قد وجدت في عصر أسبانيا المبكر فمن الطبيعي أن نتساءل عم ما إذا كانت تجربة التعايش في القرون الوسطي بين الثلاث معتقدات قد خلقت استعدادا استثنائي في العالم الايبيري نحو قابلية الآخر.
الاكتشاف والاستعمار الايبيري لأمريكا قد عمل لتعزيز هذه القابلية، وجد الأسبان أنفسهم هناك يتعاملون يوميا ليس فقط مع عدد هائل من السكان الأصليين الذين لم يسمعوا مطلقا عن المسيحية قبل مجيئهم، إنما أيضا في نفس الوقت مع العبيد الأفريقيين وأنظمة معتقداتهم الخاصة وعدد متزايد من الناس من العقائد المختلفة. كتب ريتشارد فليتشر، الأستاذ الراحل في جامعة يورك والمتخصص في تاريخ العصور الوسطي، في كتابه "مسلمي أسبانيا" أن "مستعمرات المكسيك وبيرو والبرازيل كانت بوضوح هي أندلس العصور الوسطي". هذه التأكيدات المدرجة مازالت في حاجة إلى المزيد من العمل، ولكن دليل شوارتز الأمريكي قاد فليتشر إلى التسليم بأن الوجود في العالم الايبيري الجديد "ثقافة نابضة بالحياة على خلاف السائد في الكنيسة والدولة".
أي افتراض، مع ذلك، بان التجربة الاندلسية ربما تكون قد تركت الحضارة الايبيرية مؤهلة بشكل فريد لتقبل إمكانية وجود خيارات غير النظام التقليدي الأرثوذكسي السائد، قام شوارتز بهدمه بحجته الواسعة النطاق التي تقول أن النسبية الدينية لم تكن "ظاهرة هسبانية**** مميزة تم ترسيخها خلال التعايش في العصور الوسطي واستمرت حتى الازدهار". على العكس تماما، على الرغم من أن دليله قد استمد غالبا من العالم الايبيري، وهو حريص على أن "مبدأ التسامح الشعبي فيما يتعلق بالدين كان ظاهرة عامة في الكثير من أنحاء أوروبا وان الشكوك والتسامح الشعبي خلقوا تربة من المفاهيم الحديثة لحرية الضمير والتسامح الذين نموا في نهاية المطاف". في قول آخر، لقد أراد أن ينقذ تاريخ التسامح من الأيد المانعة من النخبة السياسية والفكرية وإعطاء الناس العاديين مكانهم المستحق في القصة.
لإثبات الحقيقة في ادعائه الطموح ذلك سيتطلب أدلة على نطاق أوسع بكثير، من المجتمعات الأوروبية المتنوعة بدلا من العالم الايبيري فحسب، ولكن في إثارة مسألة المواقف الشعبية وتوثيقها بشكل غني كتب شوارتز كتاب اكتشافي. حاليا، بقدر ما تهتم أسبانيا نفسها فان حجته عن التسامح الشعبي قد تلقت تعزيزات مساعدة من دراسة بحثية مثيرة للإعجاب عن مدينة لامنتشا الأسبانية التي خرج سكانها لدعم محاولات موريسكيون بلدتهم لتحدى مرسوم بطردهم عام 1609، ومن ثم الترحيب بالذين نجحوا في العودة خلسة. ليس هذا رد فعل مجتمع واقع في قبضة التعصب الديني والعرقي.
وفوق ذلك هناك شك أن شوارتز لم يتجنب الأمر تمام، فقدم قصته على إنها خطوة للامام نحو "الحداثة" التي تشير إلى حرية الضمير والتسامح الديني. الآن على الأحداث أن تعطي لنا الفرصة لنتوقف.نحن نرى كيف أن في البلقان مثل أسبانيا العصور الوسطي حيث كان يعيش ناس من عقائد وأعراق وثقافات مختلفة وكانوا قادرين على التعايش لمدة طويلة في وئام نسبي، ثم
حدث بشكل مفاجئ أن كل هذا تحول إلى فورة من الغضب والدمار. في السعي لتعقب تاريخ ثقافة التسامح، فمن المهم ألا ننسى أن في اغلب الأحيان تكمن ثقافة التعصب تحت السطح مباشرة.
يوضح تاريخ أسبانيا في العصور الوسطي أن التعايش بين أناسا ذوي أعراق ومعتقدات مختلفة من المحتمل أن تكون مصدر لإثراء ثقافي عظيم، ولكن في الوقت نفسه من الممكن أن يكون مصدرا لتوتر اجتماعي عميق. التعايش الانسجامي متوقف على الحفاظ على توازن دقيق، دائما عرضه لخطر الضيق والانزعاج من قبل الاتحاد المؤسف للسلوك والأحداث. التبديل في السياسة والممارسة الرسمية، التدهور الاقتصادي، التصريحات الملتهبة الشعبية من شخص يمكنه تحريك الجماهير، صراع مبتذل أولي بين الجيران، كل هذا في وسعه أن يحول التسامح إلى تحدي عنيف بين عشية وضحاها. حتى الآن تتضمن قصة القرية الصغيرة لامنتاش في القرن السابع عشر درس في ذاتها. حتى في أسوأ الأوقات تستطيع الإنسانية وآداب السلوك أن تجعل صوتها مسموعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * هو شخصية تاريخية أسبانية من القرون الوسطي كثرت حول شخصيته القصص و الحكايات، اسمه بالكامل رودريغو دياث دي
 بيفار، ولد حوالي العام 1040 و كان فارسا من فرسان قشتالة في زمن حروب الاسترداد و هو معروف باسم آل سيد كامبيادور
** الأسطورة السوداء *** أسرة هابسبورغ ، من أهم الأسر الأوروبية الحاكمة . عرفت هذه الأسرة برجعيتها الشديدة و بتأييدها المطلق للكاثوليكية .
**** هسبانيا: اسم أطلقه الرومان على شبه جزيرة ايبيريا

Volume 56, Number 13 · August 13, 2009

A Question of Coexistence

"كيفية التعايش"

By J.H. Elliott

The Arts of Intimacy: Christians, Jews, and Muslims in the Making of Castilian Culture
""فنون التعايش: المسيحيين واليهود والمسلمين وصنع الثقافة القشتالية
by Jerrilynn D. Dodds
María Rosa Menocal, and Abigail Krasner Balbale. Yale University Press, 395 pp., $40.00
All Can Be Saved: Religious Tolerance and Salvation in the Iberian Atlantic World
"الجميع يمكنه الخلاص: التسامح الديني والخلاص في عالم ايبيريا الاطلسي"
by Stuart B. Schwartz
Yale University Press, 336 pp., $40.00

ترجمة: أميمة صبحي
نُشر في مجلة وجهات نظر - 2009

الجرادة والطائر لحنان الشيخ



بالنسبة لكثير من النساء الغربيات، أن المرأة المسلمة التقليدية منعزلة وغريبة مثل القمر. الجهل لا يولد الازدراء بنفس كم الارتباك وسوء الفهم وفوق كل ذلك الادعاء. بمواجهة مجموعة من التقاليد الظالمة بمقايسنا نحن على الأقل، فوسوستنا ناحيتهم هي الشعور بالرثاء الغامر لهؤلاء السيدات التي يعتبرن أخوات لنا. لا شك أن الحياة في أحسن حالاتها نجدها نحن صعبة التخيل وفي أسوأ حالتها نجد الخوف.
والحقيقة أننا حتى وقت قريب من فهمنا فأننا نسبيا لدينا القليل من المعلومات حول ما يجري خلف هذه الوجوه المحجبة. فمن المؤكد أن القصص العادية للأشخاص العادية نادرا ما تصل لعقلنا الواعي الواسع. فالمرأة في العالم العربي بدت لأسلافنا في أوروبا بالقرون الوسطى في نفس الوضع لعدة عقود: المتفرج الأبكم في مجتمع يسوده ثقافة الرجل المسيطر، عدم القدرة على الاتصال بالناس خارج حدود الأصدقاء والأسرة، هل هم سعداء؟ هل هم حزانى؟ هل يتطلعون لنفس احتياجاتنا؟ هل يشعرون بما نشعر؟
الكاتبة حنان الشيخ مؤلفة "الجرادة والطائر" على العكس تماما من هذا الفكر الشائع عن نساء العالم العربي، فهي سيدة عصرية ناجحة نشأت في بيروت وتلقت تعليمها في القاهرة. عملت في بلدها كصحفية قبل انتقالها للعيش في لندن حيث تعيش وتكتب الآن. يحكي الكتاب عن والدتها تلك السيدة التي نشأت وسط التقاليد القديمة لكن بقلب ثابت متطلع نحو المستقبل. تمثل تلك السيدة بشكل حاسم شئ من الغموض لابنتها التي تعتبر الحياة لها شكل واحد معاصر. وهذا يعطي بعدا إضافيا للسرد: هذه ليست رحلة اكتشاف للقارئ إنما هي لاكتشاف الكاتبة أيضا.
بطلتنا هنا هي كاميليا، فتاة الريف الجميلة التي نشأت في لبنان في الثلاثينات. وعندما تخلى الأب عن الأسرة انتقلت لبيروت. مأخوذة بازدحام وضوضاء الحياة في المدينة الكبيرة ومرتبكة للأجواء المختلفة المحيطة بها. وجدت كاميليا نفسها مخطوبة لأحد أقاربها. وتزوجت وأصبحت حامل وهي لديها 15 عام. ورغم ذلك جاهدت بقوة لتحسين ظروفها لتثبت إنها كفؤ لزوجها التقي بشكل أكثر مما ينبغي والذي يكبرها بثمان عشر عام.
صوت كاميليا الواضح والعنيد واحد من الأشياء المبهجة في هذا الكتاب. مهما كانت فقد تكون ضحية وبطلة وطفلة تعيش حياة مأساوية بالنسبة لزمانها، وهي أيضا حقيقة واضحة ولا يمكن إنكارها. زوجة وأم ومكرسة نفسها للحياة المنزلية وفي نفس الوقت لديها روح مراهقة تمتلأ رأسها بالمشاكسة والحب والغضب الشديد، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تمتلأ رأسها بكل الأشياء المشتركة بين الفتيات في سن المراهقة. كانت تحب الأفلام والحلي والملابس الجميلة والحلويات. مشاغبة ومباغتة وتطلق النكات على ارتباك واضطراب زوجها وغير هذا فهي واقعة في الحب مع شخص آخر.
غرام كاميليا بولد آخر في مثل سنها تم الإشارة إليه في لب الكتاب تقريبا، تمثل علاقتهما وماهيتها الحرية وحرية الاختيار والسعادة الشخصية وهذا ما يعرّف كاميليا، فانجذابها له ليس فقط بسبب شبابه وجماله الروحي ولكن أيضا من اجل ثقافته وتعليمه وذكائه. فهو يقدم مقارنة قوية مع زوجها الهمجي حيث أن الفن والجمال والحب ليسوا أكثر من تباه أحمق ورفاهية متكلفة وليس من حق أمثالهم الاستمتاع بها.
أي شخص يأمل في وضع وجه غير مدرك للعالم ويعرفه كشئ مؤذ سيحب هذا الكتاب. وذلك لأن الاتصال الحيوي للإنسان موجود هنا بغض النظر عن التدين أو مرور الزمن. تجارب كاميليا هي تجارب كل النساء اللاتي يسعين إلى الحرية، اختياراتها بعض من أصعب الاختيارات التي تمت باسم الاستقلال. ليكون ذلك السرد الجميل شهادة عظيمة لها.   


ترجمة: أميمة صبحي
عن ذا تايم
نُشر في اخبار الادب

لوركا، الشاعر السريالي


"السريالية ليست مدرسة شعرية إنما حركة تحريرية"، يقول الشاعر المكسيكي الحائز على جائزة نوبل اوكتافيو باز، "هي طريقة لاكتشاف لغة البراءة، تجديد أساس الحياة، فالشعر هو النص الأصلي، الأساس في النظام الإنساني. أما السريالية ثورية لانها تعود لبداية كل البدايات".

 في سكن الطلاب في مدريد عاش معا كل من الشاعر والكاتب المسرحي فدريكو جارسيا لوركا والرسام السريالي سلفادور دالي وصانع الأفلام لويس بنويل خلال الفترة من أواخر العشرينات إلى أوائل الثلاثينات من القرن الفائت، مكونين طليعة السريالية الأسبانية الجديدة. وقد عرفوا باسم "الجيل 27" ومعهم العديد من الشعراء الأسبانيين المشهورين خلال هذا الوقت، مثل جورج جويلان، بيدرو ساليناز وفيسنته ألكسندر. معارضين للحركة الرومانسية المحافظة في أسبانيا، وملهمين من قبل الرسم التكعيبي لبيكاسو، هذه المجموعة من الرسامين والشعراء والكتاب المسرحيين بدأوا في التجريب والتعاون مع الأساليب السريالية.
من أكثر الأعمال شهرة في الحركة السريالية كانت لوحات دالي  (إصرار الذاكرة 1931)، (اللعبة الحزينة 1929)، الأجسام السريالية، (مقياس الذاكرة اللحظية 1932)، والعين المشرحة بشفرة الحلاقة والسحابة المجزئة لقمر في فيلم بنويل ودالي "كلب اندلوسي" Un Chien Andalu الذي تم إنتاجه في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات تحديدا عام 1929 خلال أوج صداقتهما مع لوركا. وهو فيلم مدته 16 دقيقة تم إنتاجه في فرنسا وهو من أعظم الأفلام السريالية التي أنتجت في عشرينات القرن الماضي، فيلم بلا حبكة درامية بالمعنى التقليدي للكلمة، وتسلسله الزمني مفكك فيقفز ثمان سنوات إلى الأمام من بدايته "حدث ذات يوم" دون أحداث أو وقوع أي تغيير في الشخصيات مستخدما منطق الحلم.
 فيلم "العمر الذهبي" L’Âge d’Or، تعاون آخر بين بنويل ودالي وتم إنتاجه عام 1930 والفيلم مثل ما سبقه يركز على التعديل المزعج والمشاهد العنيفة ليحاكي احداهما الآخر ويعطي بنويل المساحة للتعبير عن نفوره وهوسه بالجنس والتركيب التشريحي للأنثى; وفي نفس الوقت انتقاد ميول لوركا الجنسية الشاذة علنا رغم صداقتهما الوثيقة.
في وقت سابق عام 1927، تعاون دالي ولوركا في الإنتاج المسرحي الذي أسفر عنه مسرحية "ماريانا بنيدا" وهي دراما تاريخية عن سيدة بنفس الاسم كانت معارضة لحكم الملك فرديناند السابع في أسبانيا وقد صارت قصة بطولتها جزء من فلكلور غرناطة. قام دالي ببناء المشاهد وكتب لوركا الحوار، وقد ساعدت شهرة أحداث المسرحية في الاعتراف بدالي ولوركا من قبل الشعب الأسباني. وقد نشر لوركا أيضا في تلك الفترة أكثر دواوينه الشعرية قربا للجمهور، (الأغاني 1927)، (حكايا غجرية 1928)، (قصيدة من الأغنية العميقة 1932).
يمكننا أن نجد تأثير السريالية في ديوانه الشعري (المدينة التي لا تنام) والذي كتبه عام 1929 بعد زيارته لنيويورك:

أحذر! كن حذر! كن حذر!
فالرجال الذين مازال لديهم خدوش من المخلب والعاصفة الرعدية
وهذا الصبي الذي يبكي لأنه لم يسمع قبلا عن الجسر
أو ذلك الرجل الميت الذي لا يملك الآن سوى رأسه وحذاء
لابد أن نحملهم إلى الخراب حيث الاغوانة والثعابين ينتظروا
حيث أسنان الدب تنتظر
حيث يد الصبي المحنطة تنتظر
وشعر الجمل منتصبا في النهاية مع رعشة عنيفة زرقاء.

صور لوركا تأثيرات السريالية في العشرينات أيضا. فكان لديه اهتمام غامر بالمسرح والموسيقى، وخلال هذه الفترة أصبح مهتما بالموسيقى الأسبانية الفلكلورية وموسيقى الفلامنكو التي جلبها الغجر إلى أسبانيا. هذه ألاغاني أعطت أعماله حداثة منهجية وإيقاعية لم تكن موجودة في الشعر آنذاك وعرف بأنه شعر اندلسي أو غجري. وعندما زار لوركا نيويورك اكتشف روحانيات الافروامريكان التي بدت له النسخة الأمريكية من الموسيقى الأسبانية التي كان يدرسها.
في منتصف أواخر الثلاثينات، تفرق لوركا ودالي، فقد سافر لوركا لغرناطة في عام 1936 في أوج الحرب الأهلية، وقتل على يد الجنود الفاشيون وأصبح شهيد جيله من المبدعين ورمز إلى التغيير الذي طرأ على الصورة الفنية.  


ترجمة واعداد: أميمة صبحي
نُشر في أخبار الادب

التحفة الادبية التي قتلت جورج أورويل



"لقد كان يوم ساطع بارد الهواء وكانت الساعات تشير إلى الواحدة"
مازالت تحفة جورج اورويل "1984" - بعد مرور 60 عام على نشرها -  مهيمنة على القراء أكثر من أي وقت مضى. عندما ترى مخطوطة الرواية ستجد إنها ليست واضحة تماما لوجود كتابة هامشية بألوان حبر مختلفة تستحوذ على النص وذلك يدل على الاضطراب الهائل القابع وراء التأليف.
من المحتمل أن الرواية الرئيسية للقرن الواحد والعشرين والتي بقيت قوية ومعاصرة بشكل خالد  وتم إطلاق بعض الأسماء عليها مثل "الأخ الأكبر"، "التفكير المزدوج"، "الخطاب الجديد" أصبحت جزء من كل يوم نعاصره الآن. فلقد تم ترجمتها إلى أكثر من 65 لغة وبيعت بالملايين حول العالم كما أعطت جورج اورويل مكان فريد في العالم الأدبي. واصبحت "الاوريلانيية" موجز كلي لكل شئ قمعي أو ديكتاتوري، فقصة وينستن سميث الذي هو رمز لكل رجل يمثل عصره لا تزال صدى للقراء الذين تختلف مخاوفهم حول المستقبل كثيرا عن هؤلاء الكتاب الإنجليز في منتصف أربعينات القرن الماضي.

الظروف حول كتابة "1984" جعلت السرد القصصي المتردد يساعد على توضيح قتامة نظرة اورويل للواقع المرير. فهنا كان كاتب إنجليزي مريض بيأس ووحيد مع شياطين مخيلته داخل مخفر اسكتلندي من ما تبقى بعد كارثة الحرب العالمية الثانية. فكرة رواية "1984" أو "آخر رجل في أوروبا" تكونت في رأس اورويل منذ الحرب الأهلية الأسبانية التي كان يعمل بها مراسلا صحفيا وجندي لصالح أسبانيا. وتدين هذه الرواية بشئ ما لرواية الكاتب الروسي جيفجيني زماتين "نحن" التي تتحدث عن مستقبل مرير.
 فمن المحتمل إنها اكتسبت شكلها النهائي خلال عامي 1943 و 1944 في وقت قريب من تبنيه طفله الوحيد ريتشارد مع زوجته ايليين. ويقول اورويل نفسه انه ربما جاءته الفكرة خلال مؤتمر رؤساء الحلفاء الذي عقد عام 1944 في طهران، فيقول ايساك دويتشير، زميله في جريدة "اوبسيرفير" ان اورويل كان مقتنع ان ستالين وتشارشل وروزفلت تآمروا بشكل مقصود لتقسيم العالم في طهران.
عمل اورويل في جريدة "اوبسيرفير" منذ عام 1942 كان مراجع للكتب في البداية ثم أصبح مراسل صحفي. وقد استفادت حياة اورويل المبدعة من ارتباطه بجريدة "اوبسيرفير" في كتابة روايته "مزرعة الحيوان"، فبينما شارفت الحرب على الانتهاء ساهم التفاعل المثمر بين الخيال وصحافة "الصنداي" في تشكيل الرواية الأكثر سوادا وتعقيدا التي كانت في عقله بعد روايته المشهورة الخيالية "مزرعة الحيوان". وواضح من عمله مراجع للكتب انه كان مفتون بالعلاقة بين المثل الأخلاقية العليا واللغة.
ويوجد عدة مؤثرات أخرى على العمل، فبعد تبني طفله ريتشارد بفترة وجيزة تم تدمير شقته بصاروخ صغير، فمناخ التواجد في رعب عشوائي يومي في وقت الحرب بلندن أصبح تتمة لحالته المزاجية في كتابة الرواية. بجانب الحادث الأسوأ يوم 14 مارس عام 1945 عندما كان اورويل في مهمة لصالح جريدة "اوبسيرفير" في أوروبا وجاءته أخبار تفيد بان زوجته قد توفت تحت تأثير البنج أثناء عملية جراحية صغيرة.
فجأة أصبح أرمل وأب وحيد، يحتال على حياته المكفهرة في بيته بحي اسلينجتون بوسط لندن فيعمل بشكل متواصل ليكبح تدفق نزيف ندمه وحزنه على رحيل زوجته المبكر عن أوانه. على سبيل المثال فقد كتب تقريبا 110.000 كلمة لدور نشر متنوعة منها عرض لخمسة عشر كتاب لجريدة "اوبسيرفير".
في مايو 1946 كان اورويل مازال يجمع شتات حياته ويأخذ القطار لرحلة طويلة وقاسية إلى جزيرة جورا في اسكتلندا ليقضي بها أجازة طويلة في بيت أهداه له صديقه استور، قال اورويل لصديقه الروائي ارثر كوسيتلر  واصفا هذه الرحلة بأنها مثل تجهيز سفينة للإبحار نحو القطب الشمالي
وقد كانت رحلة خطرة بالنسبة لصحة اورويل التي أخذت تتدهور كما أن شتاء 1946-47 كان أقسى شتاءا في هذا القرن، وبريطانيا بعد الحرب صارت أكثر كآبة من وقت الحرب نفسه.  كان يعاني دائما من صدر مريض، فتوقف عن إثارة عالم لندن الأدبي ولكنه على الأقل صار حرا غير مرتبط به في إصدار روايته الجديدة "دخان تحت القدس". ورغم هذه الحرية الا انه اخبر صديق له ذات يوم "لقد أصبحت يوما بعد يوم كبرتقالة تم امتصاصها"
ومن المثير للسخرية أن بعض من صعوباته نشأ من نجاح روايته "مزرعة الحيوان" فبعد سنوات من الإهمال واللامبالاة أفاق العالم على عبقريته. "كل الناس تأتي إلي يريدون مني أن أحاضر أو أراجع بعض الكتيبات أو أشارك هنا وهناك، أنت لا تدرك كم أتوق لأكون حرا ولدي الوقت الكافي لأفكر مجددا" يشتكي اورويل لصديقه كوستيلر.
وقد كان أكثر حرية في التفكير عندما ينعزل في جورا ولكن هذه الحرية كانت لها ثمنها فكتب في مقال له بعنون "لماذا اكتب" واصفا الصراع الذي يصاحب الكتابة "الكتابة شئ مرعب وصراع مرهق كنوبة طويلة من نوبات مرض مؤلم"

من ربيع عام 1947 إلى وفاته في عام 1950 أعاد اورويل تشكيل كل جوانب الصراع بأشد الطرق التي يمكن تخيلها إيلاما، ربما كان يستمتع، بشكل شخصي، بالتداخل بين النظرية والتطبيق. لقد كان يزدهر دائما بسبب محنة ابتلاء الذات.
في البداية بعد انقضاء الشتاء القارص، استمتع اورويل بعزلته وبجمال جورا الطبيعي لأقصى درجة وكان يكتب لوكيله قائلا "أنا أصارع هذا الكتاب الذي ربما انتهي منه بنهاية هذا العام، على أي حال سأبتعد عن العمل الصحفي حتى الخريف"
بيته في جورا الذي كان يطلق عليه بارنهيل كان يطل على البحر في أعلى طريق أخدودي، لم يكن كبيرا به أربع غرف نوم صغيرة بأعلى مطبخ فسيح. كانت الحياة بسيطة حتى البدائية فلم يكن هناك كهرباء وكان يستخدم زيت حراري ليطبخ ويسخن الماء كما يحرق المصباح اليدوي البرافين. في الليالي كان أيضا يحرق نسيج نباتي يستخدم كوقود يسمى الخُث. كان حينذاك مازال مدخنا بشراهة سجائر ملفوفة بتبغ قوي مفروم، فمناخ المنزل كان دافئ ومريح ولكنه لم يكن صحي وكان الراديو هو وسيلة الاتصال الوحيدة بالعالم.
اورويل، ذلك النوع من الرجال المهذب وذو روح الخفيفة وصل إلى جورا ليس معه سوى سرير صغير من سرائر المخيمات  ومنضدة وبعض الكراسي والقليل من الأقداح والأوعية، كان كشخص اسبرطي مقتصد في حياته البسيطة لكنه مزود بكل شئ يساعده على العمل، ظهر في هذا المكان كطيف في الضباب أو ككائن هزيل في معطف واقي من المطر.
عرفوه الجيران باسمه الحقيقي ايريك بلير رجل طويل، شديد الشحوب وذو نظرة حزينة يفكر بقلق في كيفية إدارة شئون حياته. كان يشاركه المنزل طفله ومربيته وكان الحل في افريل الراهبة المؤهلة بكفء لإدارة المنزل ويتذكر ريتشارد ابنه أن والده لم يكن بإمكانه أن ينجح بدون افريل فقد كانت طباخة ماهرة وعملية جدا"
وبمجرد استقرار حياة اورويل الجديدة بدأ في الانتهاء من كتابه ففي نهاية مايو 1947 اخبر ناشره فريد واربرج "اعتقد إني كتبت ما يقرب المسودة الأولية الثالثة من الكتاب، لم اكتب كثيرا كما تمنيت لأني حقا كنت في حالة صحية سيئة منذ شهر يناير فصدري كالمعتاد لم يكن على ما يرام".
ولوعيه بكم يتوق ناشره لروايته الجديدة أضاف اورويل "بالطبع المسودة الأولية دائما ما تكون فوضى مروعة ولا تقدم إلا القليل من النتائج النهائية من العمل ولكنها الجزء الرئيسي منه" وبقى اورويل مضغوطا وبنهاية شهر يوليو كان متوقع أن ينتهي من المسودة الأولية في شهر أكتوبر. ولكنه بعد ذلك طلب ست شهور أخرى لينقح النص ليتم نشره ولكن حدث بعد ذلك نكبة.
ففي جولة للصيد أو لاكتشاف الجزيرة ومشاهدة الزوارق بشهر أغسطس خلال سحر طقس الصيف الجميل رجع اورويل وافريل وريتشارد من جولة حول الساحل على أقدامهم إلى المنزل بزورق صغير والذي غرق في بحيرة غير معروفة تسمى "كوريفركان".
ويتذكر ريتشارد كم تجمد في الماء البارد وكم أزعج سعال اورويل المتواصل الأصدقاء. وفي خلال شهرين اشتد عليه المرض بشكل خطير. واستمر الصراع الطويل مع روايته "آخر رجل في أوروبا" أو "1984" واعترف اورويل في نهاية أكتوبر 1947 وهو حزين بسبب سوء صحته ان روايته مازالت في فوضى عارمة وتقريبا ثلثيها سيتم كتابتهم من جديد.
كان يعمل بسرعة محمومة، زوار بارنهيل يتذكروا صوت ضرباته فوق آلته الكاتبة قادما من حجرة نومه في أعلى المنزل. وفي نوفمبر أصاب بالتهاب في الرئة رغم رعاية افريل المخلصة وأرسل لصديقه كوستلر يقول له "انه مريض بشدة ولا يستطيع مبارحة سريره". وقبل حلول الكريسماس أرسل له خطاب آخر يخبره بما فزعت له نفسه بان مرضه شُخص بالسل.
بعد أيام قليلة كتب لصديقه استور من مستشفى هايرمايرز يعترف انه مريض جدا وانه كشخص أحمق رفض الذهاب للطبيب بعد حادثة الغرق في البحيرة لأنه أراد أن ينعزل ليكمل روايته. في عام 1947 لم يكن هناك علاج لمرض السل فاقترح الأطباء بعض الهواء المنعش ونظام طعام صحي ولكن وجد عقار جديد تجريبي يباع في أسواق الولايات المتحدة جعل استور يرتب ليحضره من هناك عن طريق النقل البحري.
كان للعقار مؤثرات جانبية مريعة تتمثل في قرح عديدة بالحلق والفم وسقوط الشعر وقشور بالجلد وتفكك في أصابع اليد والقدم ولكنه بعد تناوله بثلاث اشهر وتحديدا في مارس 1948 اختفت أعراض السل. وبينما يخطط اورويل لمغادرة المستشفى تلقى خطابا من ناشره واربرج يقول "لمستقبلك الأدبي لابد أن تنتهي من روايتك بنهاية هذا العام وسيكون من الأفضل لو أنهيتها قبل ذلك قدر المستطاع". وبدلا من أن يقضي فترة نقاهته توجه اورويل الى بارنهيل ليراجع مسودة الرواية بعمق وقد وعد ناشره انه سيرسل له الرواية كاملة في اوائل ديسمبر واستمر في الكتابة متنفسا هواءا غير صحيا على الإطلاق مصاحب للخريف في جورا.
هذا واحد من مراجع اورويل النادرة جدا المشيرة لفكرة كتابه. فلقد اعتقد كالكثير من الكتاب انه لمن الحظ العاثر مناقشة العمل وهو مازال في طور الكتابة. وقد وصف الأمر للروائي انتوني باول "إنها يوتوبيا مكتوبة على هيئة رواية".
كتابة النسخة الواضحة من "آخر رجل في أوروبا" على الاله الكاتبة أصبحت بعدا آخر من معركة اورويل مع الكتاب. فكلما عدل بالحبر النسخة النهائية السيئة بشكل لا يمكن تصديقه كلما أصبحت وثيقة بالكاد يمكنه قراءتها وتفسيرها. اخبر صديقه "إنها كانت طويلة بشكل مفرط، أكثر من 125.000 كلمة" وأضاف بحيادية تامة "أنا لست سعيدا بالكتاب ولكن في ذات الوقت لست مستاء.. اعتقد انه فكرة جيدة لكن هذا المجهود كان سيكون أفضل كثيرا لو لم يكتب تحت تأثير مرض السل".
لم يكن استقر بعد على العنوان "أنا محتار بين 1984 وآخر رجل في أوروبا لكن من الممكن أن أفكر في عنوان آخر في الأسابيع القليلة القادمة". وفي نهاية أكتوبر انتهى اورويل من الكتابة والآن هو فقط يحتاج كاتب اختزال ليساعده في كتابة الرواية على الالة الكاتبة.
كان سباق يائس مع الزمن فصحة اورويل تدهورت والنسخة النهائية من الرواية في حاجة إلى إعادة كتابتها والميعاد الأخير للنشر في ديسمبر بدأ يلوح في الأفق. وعد واربرج بالمساعدة وكذلك فعل وكيل اورويل فتضاربت المحاولات لجلب كاتب فجعلوا الموقف يزداد سوءا،ولكن اتبع اورويل حدسه المصاحب له منذ صغره، وحاول مساعدة نفسه بنفسه.
بحلول منتصف نوفمبر أصبح ضعيفا جدا ولا يستطيع المشي، انعزل في سريره ليكمل، عمله المفزع، كتابة الرواية على آلته الكاتبة العتيقة بنفسه ومعه عدد لا نهائي من بكرات الورق المستخدم على الالة الكاتبة ومزود بأقداح من القهوة والشاي الثقيل والدفء الذي ينبعث من حرارة البرافين مع وجود عواصف تضرب بارنهيل، عمل ليلا ونهارا حتى أنهى عمله بالكامل في 30 نوفمبر عام 1948.
قال اورويل، رجل الحرب القديم، لوكيله "الأمر لا يستدعى كل هذه الجلبة، فها أنا قد انتهيت من الرواية بالرغم من إنها أرهقتني بالجلوس منتصبا لفترات طويلة كما إنني لم استطع أن اكتب بسهولة أو أن اكتب عدة أوراق في اليوم ولكن أخطاء أي كاتب محترف على الالة الكاتبة كانت ستكون مريعة خاصة وان الرواية تحتوي على مصطلحات كثيرة ذات مستوى عالي وغير مألوف"
وصلت الرواية الأخيرة لجورج اوريل إلى لندن في منتصف شهر ديسمبر كما وعد وقال واربرج، الناشر، عنها "من اكثر الروايات المروعة التي قرأتها يوما، اذا لم نستطع بيع من 15 الى 20 الف نسخة من الافضل لنا ان نتوقف عن النشر".

 اخيرا غادر اورويل جورا ليقوم بمعالجة نفسه في مصحة بعيدة للسل. "كان من المفترض ان انتقل الى هنا منذ شهرين ولكني كنت اريد ان انتهي من هذا الكتاب اللعين" اخبر اورويل صديقه استور الذي حاول مساعدته ومراقبة العلاج ولكن طبيب اورويل المعالج كان متشائما فيما يخص شفاؤه.
بينما بدا اسم الرواية "1984" في الذيوع بدأت موهبة استور الصحفية في العمل فشرع يكتب لجريدة "اوبسيرفير" عن الرواية كاحتفال لكن اورويل وجد الفكرة "مزعجة نوعا ما".
بحلول الربيع اصبح ارويل يبصق دما ويشعر طوال الوقت انه شاحب كالموتى ولكنه كان قادر على اغراق نفسه في اجراءات نشر الرواية مسجلا ملاحظات جيدة وهو راض. وكان يمازح استور قائلا "لن اندهش اذا غيرت ما تكتبه عن الرواية لاوبسيرفير وحولته الى نعي".
نشرت الرواية في 8 يونيو عام 1949 وبعد خمس ايام تم نشرها في الولايات المتحدة الامريكية، وتقريبا عرفها العالم على انها "تحفة ادبية من الطراز الاعلى" وقد قال تشرشل لطبيبه الخاص انه قرأها مرتين.
استمرت صحة اورويل في التدهور،وفي اكتوبر من نفس العام تزوج من سيدة تدعي سونيا براونيل في حجرته بمستشفى الجامعة وكان صديقه دايفد استور اشبينه، لقد كانت لحظة من السعادة النادرة. بقى على قيد الحياة حتى العام الجديد 1950 وفي 21 يناير عانى من بصق الكثير من الدماء ثم رحل وحيدا.
اذيع خبر رحيله في اذاعة البي بي سي في صباح اليوم التالي وقد استمعت اليها افريل التي مازالت تعيش في جورا من خلال الردايو الصغير في بارنهيل، لا يذكر ابنه ريتشارد كيف كان حال الطقس في هذا اليوم رغم تذكره كيف كانت انباء وفاته صادمة فلقد توفى وهو في السادسة والاربعين من عمره فقط.
رتب استور لمراسم الدفن ودفن في فناء كنيسة ساتون كورتناي بمقاطعة اوكسفورد باسمه الحقيقي ايريك بلير بين قبر رئيس الوزراء البريطاني هيربرت هينري اسكويث ومقابر عائلة الرومانيين (الجيبسي)

لماذا 1984؟
يبقى عنوان الرواية الذي وضعه اورويل لغزا، يقول البعض انه كان يلمح الى مئوية المجتمع الفابي الذي نشأ عام 1884 عن طريق جمعية انجليزية سعى اعضاؤها الى نشرالمبادئ الاشتراكية بالوسائل السلمية، ويقترح البعض الاخر انها اشارة الى رواية جاك لندن "اغلال عَقِب القدم" والذي يحكي فيه عن حركة سياسية تقوى في عام 1984، ويرجح اخرون انها تشير لرواية واحد من احب الكُتاب اليه "جي كيه تشيسترتون "هضبة نابليون المجزوزة" والتي تقع احداثها في عام 1984.
يذكر الشاعر بيتر دافيسون في مجلد من "الاعمال الكاملة" المكون من 20 مجلد ان ناشر اورويل الامريكي يدعى ان اسم الرواية مستمد من عكس ارقام عام 1948 ولكن لا يوجد أي وثيقة تؤكد ذلك فيقترح ان عام 1984 مرتبط بعام ولادة ابنه ريتشارد 1944 كما يشير الى ان السرد في الرواية يبدأ من عام 1980 ثم يسير على التوالي الى 1982 ثم اخيرا 1984.
واخيرا من المعتقد انه لا يوجد لغز في التخلي عن الاسم الاول "اخر رجل في اوروبا"، اورويل نفسه لم يكن واثقا منه لكن ناشره فريد واربرج هو من اقترح عليه اسم "1984" لانه تجاري اكثر


ترجمة: أميمة صبحي


تم نشر المقال في اخبار الادب - 2009
عن الجارديان