كان يوم طويل مرهق
كالمعتاد، بالكاد حملت جسدي الى السرير في الغرفة الشرقية الدافئة في مثل هذا
الوقت من العام. تأملت السقف مليا في ضجر وانا أتذكر ما حدث اليوم. سرقتان في يوم
واحد لمنازل اصدقائي، أين نحن من هذا العالم؟ نعم نحن البائسون المطالبون بتحقيق
أمننا بذراعنا. بدأت أفكر مؤخرا في امتلاك سلاح ولكني لا اعرف كيفية الامساك به.
أتذكر يوم حين مسكت طبنجة جدي سرت قشعريرة فوق سلسة ظهري وجعلتني انتفض من برودة
قطعة الحديد هذه.
أغمضت عيني في محاولة لإستجداء النوم ولكني فكرت سريعا،
هل أغلقت باب الشقة بالمفتاح؟. من المفترض أن أحمل جسدي مرة أخرى للباب لأتأكد
ولكني لن أفعل وليذهب العالم للجحيم.
كدت أن أغفو ولكني أرهفت السمع قليلا. أعتقد إني أسمع
صوتا قادما من الردهة. لا فائدة، يبدو إني سأنهض من على السرير مجددا وأمرى إلى
الله. تحسست طريقي على أطراف أصابعي دون إحداث أي جلبة حتى أستكشف من هناك. أزحت
الستارة برفق والضوء الأزرق البارد الذي استخدمه مؤخرا في إضاءة الردهة يتسلل
بهدوء لمخدعي. هذا الضوء يجعل يدي تبدو باهتة ولابد ان السارق سينهار عندما يراني
بهيئتي الضخمة وشعري الطويل المنفوش فوق رأسي. سيحسبني زومبي صاعد للتو من مقبرة
ما من أطراف المدينة. يجب ان اضع لمبة زرقاء في صغيرة في مدخل العمارة أيضا.
يبدو لي ان كل شئ على ما يرام وأن السارق لم يقرر بعد أن
يغزو بيتي. جلست فوق الأريكة ألتقط انفاسي وقد طار النوم ورفرف مبتعدا. كيف سأقضي
ليلتي؟. نظرت مرة أخرى للسقف متأملا. من السخافة ان نصدق ان الأدباء والشعراء
يستلهمون أفكارهم بالنظر للسقف، إن السقف ممل ويشعرني بضيق العالم وضحالته.
ماذا أفعل الآن؟ هل أطارد الناموسة التي أرقتني بالأمس أم
أنظف الحوض من آثار العشاء؟ اعتقد إني سأطل قليلا من الشرفة لأقرر. انا أحب شرفة
منزلي. إنها تطل على ميدان صغير يتوسط الحي الذي أقطنه، في وسط الميدان نافورة
صغيرة لا تعمل. أنا أول من طالبت بإنشائها. جلست على ذلك المقهى المقابل لمنزلي
وقلت بصوت عال لعم حنفي: "وإحنا ليه ما نعملش في الوسط هنا نافورة ترطب
الجو في الصيف؟" لم ينتظر عطيه حتى أُكمل جملتي وإنطلق يتحدث مع رؤساء الحي
هنا وهناك ويجمع التبرعات ويناشد ويطالب حتى حصل على ما يريد. عطيه يكرهني وانا
أعلم ذلك، وأحركه من خلال كرهه لي. فقط أضع بذرة شئ ما ويقوم هو بري البذرة
ورعايتها حتى تكبر ثم أحصد أنا وأستمتع. غير مهم أبدا ان يُقال أن عطيه هو من سعى
لإنشاء هذه النافورة، المهم هو راحتى الشخصية وأنا أجلس على القهوة في الصيف
اللعين وأستمتع بطراوة الهواء المعبق بماء ندي يأتي من ناحيتها. فليهنأ عطيه
بتركته وأهنأ أنا بلذاتي السرية الصغيرة.
النافورة حاليا لا تعمل لأن عطيه لم يعد يكترث لها بعد أن
توقف عن الجلوس على المقهى لخلاف بينه وبين الأسطى حنفي صاحبها. فتوقفت الرشاوى عن
الحي وتوقفت النافورة معهم بدورها. لذلك لابد ان أبذل قليل من الجهد لإعادة عطية
للمقهى وإنهاء الخلاف بينهم.
إنه الواجب بالطبع. الليل جميل، تنهدت، وجلست القرفصاء
أتأمل السماء في صمت من شرفتي بالدور السادس، منها وفي هذا الليل الرائق ، أستطيع
أن ألمس السماء.
بعد برهة سمعت أصوات قادمة من الشارع المقابل. أرهفت
السمع مرة أخرى، كان بإستطاعتي أن أكون جاسوسا درجة أولى لو أعطاني أحدهم الفرصة.
ولكنه حظ عوالم بالطبع كما نعرف جميعا. أعتقد أن المتكلم هو حامد إبن عطيه الأكبر.
حامد من الشخصيات التي يمكنك ان تعتبرها حمقاء، خرقاء، عجفاء.. ولكنه يستطيع أن
يخطط للجريمة الكاملة وهو مستغرق في قيلولته. أسمعه الآن يقول بصوته الجهوري "إحنا
هانروح دلوقتي نخَلَص". يبدو إنه يتحدث في التليفون لأني لا استطيع رؤية أحد
معه. إلى أين سيذهب حامد ليُخَلِص في هذه الليلة الساحرة؟. على أبيه عطية أن يزوجه
سريعا حتى يهدأ في مثل هذه الليالي داخل حضن إحداهن ويتوقف عن إجرامه.
لن يتركني ضميري أنام لما يزيد عن يومين إذا تركته ينفذ
جريمة جديدة الليلة، وهذا ما لن استطع إحتماله. لأنك لا تعرف حامد ستتعجب من قراري
بالنزول إلى الشارع ومراقبته. من حقك طبعا التعجب ولكن ليس من حقك أن تستنكر قراري
وأنت تعرف من ما ذكرته مسبقا إننا بصدد سرقتين في يوم واحد. حامد يمكنه سرقة
ملابسك الداخلية التي ترتديها وانت نائم في سريرك مطمئنا بينما هو يتبول في حمام
بيتهم.
دخلت مسرعا إلى غرفتي وأرتديت معطفي الأسود الذي يجعلني
ضخم الجثة، عريض المنكبين كمجرم سابق. وضعت الكشاف الصغير وسكينة صغيرة في جيبي
الشمال ومنديل قماش في جيبي اليمين لأني أعاني من زكام مفاجئ هذه الأيام. وارتديت
حذائي وأغلقت بابي بإحكام.
على السلم توقفت برهة لأرى إذا كان حامد مازال في الشارع
أم ذهب. أنا أعرف أماكن تجمع هؤلاء الأوغاد جيدا. طالما سمعته يتحدث عنهم ولكني لم
أكترث لملاحقته لأن في تلك الأيام لم أسمع عن سرقتين في آن واحد. ولكن ما حدث يعد
كثيرا على أعصابي المرهقة ولن أسمح له بالمزيد بعد الآن.
الصمت يخيم على الميدان الصغير ولا أثر لحامد. قطة صغيرة
تعبث بكيس بلاستيكي أسود، تعتقد أن ما به من قمامة ربما تحتوي على طعام لها. أسفت
لها بشدة وندمت لأني لم أحمل معي بعض فتات الخبز لأطعم القطط رفقاء الدرب دوما.
ولكني وعدتها بصوت خفيض بأني سأطعمها الرز الأبيض بالزبيب إذا انتظرت عودتي هنا
امام باب العمارة. وإنطلقت بخفة لا تناسب حجمي إلى ما وراء أسوار الجريمة . إلى
حامد.
خطواتي ثقيلة ثابتة متشبثة بالأرض وكأن كائن بحجمي
هذا في استطاعته ان يحلق بعيدا اذا ترك نفسه. يدي في جيوبي طلبا للتدفئة، وجدت قلم
رصاص صغير ففكرت ان اكتب على حوائط البيوت في اتجاه سيري جمل قصيرة لترشد
أهل الحي إلى السارق المجرم. فكتبت على حائط بيت قصير بآخر الميدان "هنا سرق
حامد" ثم مشيت منتشيا وتخيلت كم أن الجميع سيرى غدا الجملة ويعرف ان حامد لص
خطير. ولكني انتبهت أني لم أضع التشكيل فوق سرق، فيمكن الفهم ان حامد تم سرقته هنا
ويصبح في لمح البصر ضحية. أمتعضت وهرشت رأسي الكبير، لا وقت لدي للعودة للميدان
وتصحيح الخطأ. حسنا سأكتب هنا على ذلك البيت على يساري "هنا سَرَقَ
حامد" وأكملت السير بهدوء ويدي في جيوبي مرة أخرى.
أنعطفت يسارا رغم أني أفضل اليمين دوما "اللهم
أجعلنا من أهل اليمين". حامد يجلس الآن مع مجموعته في مقهى حقير في طريق ملئ
بانحناءات في اتجاه اليسار وهكذا أعرف حكمة الله في في أمرنا بالتيمن. "الله
يجازيك يا حامد.. حتى طرقك كلها شمال" همست لنفسي وأنا أنظر في الأرض متعجبا.
الشارع مظلم وطويل على يميني زريبة صغيرة يضع بها عم أحمد
ماشيتين يعانوا من ما يبدو لي أنيميا ولكنهم مازالوا يدروا اللبن بوفرة ويغشه
الرجل بوضع نشا وماء به. كل الحي يعرف ذلك ومع ذلك كلهم يشتروا منه بلا مناقشات.
عم أحمد رجل داهية كان يملك سيارة أجرة صغيرة، كل يوم يرتدي ملابس العمل ويقبل يد
زوجته على السلم ثم يأتي ليجلس معنا في المقهى وبعد عدة ساعات يفتح كابوت السيارة
ويضع الزيت فوق ملابسه بواسطة الذراع المعدني المخصص لقياس الزيت ويشحم يديه
ثم يعود إلى البيت مغموما ويظل يحكي طوال الليل لزوجته كيف ان السيارة توقفت فوق
كوبري أكتوبر لساعات وهو يحاول إصلاحها دون جدوى. لديه دائما وافر من الحكايات
التي لا تنضب، كان يحكي لها عن وقفته وحيدا حائرا فوق الكوبري. وكيف أنه بمجرد
جلوسه منحنيا ليغير عجلة السيارة تأتي سيارة مسرعة تجبره على الوقوف سريعا ثم يكرر
جلوسه مرة أخرى فتأتي غيرها مسرعة فيقف مسرعا، وهكذا دواليك، حتى أن سيارة حمراء
كادت ان تطيح بمؤخرته العزيزة. وهكذا كانت تصدقه زوجته وتبيع أقراطها الذهب التسعة
الواحد يلو الأخر. حتى أقتنعت بعدم جدوى السيارة وقررت بيعها ومنحه الزريبة
للإشراف عليها. زوجة عم أحمد من أعيان الحي وأحد إقطاعياته، تملك الزريبة وسلسلة
محلات للبقالة وبيع منتجات الألبان ورثتهم عن والدها. كانت صاحبة الاقتراح بشراء
السيارة الأجرة حتى يكون عم أحمد مشروع مَعَلِم مثلها صاحب سيارات أجرة كثيرة مستقبلا
ولكنه خيب أملها وجعلها تبيع السيارة قبل إكتمال المشروع.
مازال الشارع طويلا، دخلت السوق الرئيسي في الحي متونسا
بالمحلات الساهرة
ومختصرا الطريق وأنا
أدندن بصوتي العذب بعيد عنك حياتي عذابماليش غير الفراق أحباب ماتبعدنيش بعيد
عنك
ثم سرحت قليلا.. أكان الفراق أم الدموع؟ ثم دندنت مرة
أخرى في محاولة للتذكر. أعتقد أن الدموع منطقية أكثر في ترتيب الجملة ولكني في هذه
اللحظة الحزينة بالذات أفضل الفراق! لماذا هي حزينة؟ لا أعرف. ولكني اعتقد أن
مطاردة لص في الليل لابد أن يفعلها رجل حزين.
أتجهت يمينا متجاهلا حكمة اليسار مع الأشرار وبدأت أشعر
بالوهن. فأسرعت الخطى وحاولت التوقف عن التأمل مذكرا نفسي بمهمتي وهي مراقبة حامد
ومنعه من السرقة الليلة. بداخلي هاجس يقول أنه المسئول عن سرقات اليوم. وتذكرت
قلمي الرصاص الصغير وأني لم أكتب شيئا بعد عبارتي الأخيرة. كم أنا أحمق لأكتب
جملة بلغة عربية فصحى وبالتشكيل أيضا في حي بائس كهذا! واتجهت لأقرب حائط وكتبت
بخط كبير "هنا حامد سرقنا كلنا يا معرصين" . في إشارة لعم أحمد الذي يغش
اللبن والجميع يعرف والجميع يشتري منه في نفس الوقت كما لو أن الجميع الأولى لا
تعرف الجميع الأخيرة. انفصام في الشخصية جماعي يستحق اللفظ القبيح. هكذا سيتكلم
الحي كله عن حامد وسرقاته المتعددة وربما يأتوا على ذكر عطية الذي يكرهني، دافع
الرشوى، ملك النافورة. ضحكت في سري في تلذذ.
الآن بدأت أبتعد عن الحي
ولن أخفي شئ، فلقد بدأت أشعر بالخوف. ولكن قدمي مازالت ثابتة تخشى الطيران. وشعرت
فجأة بالذنب من الكلمة القبيحة التي نقشتها على الحائط. ربما تراها طفلة صغيرة
وتخدش حياءها. أنه حي بائس وأطفاله مشردين ما بين الألفاظ القبيحة والأفعال الأقبح
باليد والجسد ولكن لا أريد أن اكون سببا في هذا المشهد. لا أريد أن أظهر به في كل
الأحوال. تنهدت وقررت أن أعود لمنزلي من نفس الطريق لأزيل الكلمة وأكتب غيرها.
أريد وصف غير لطيف لأهل الحي ويكون غير خارج في آن واحد. بدات أسلي نفسي بتذكر كل
الكلمات التي تصلح. ما هو مرادف التعريص؟ إنه كما أفهمه التستر على مجرم وقد يصل
الأمر إلى مدحه. أي أن الشخص المُعرص هو الشخص المتستر. إذن.. وإنطلقت إلى أقرب
حائط وكتبت "حامد بيسرقنا كلنا يا متسترين". وشعرت براحة كما مَن كَفَرَ
عن ذنبه.
أثناء سيري والصمت يخيم على المكان، سمعت صوت ورائي. لم
ألتفت بسرعة كما قد يُخيل لك. كلا. ليس هذه أفعال الجواسيس القدامى. مشيت ببطء
وأنا أحاول ان أنظر بهدوء من فوق ياقة المعطف إلى الوراء. لمحت ظل ضخم على مقربة
مني. هذا الشارع الذي انا به خارج الحي تماما ليس به إلا مدارس إبتدائية وإعدادية
والسنترال الرئيسي. أي إنها أماكن خدمية ليس بها كائن ما الآن. أنا وحيد مع الظل
الأسود إذن. حسنا، أعتقد حان وقت السكين الصغير وليكن ما يكون.
تحسست سكيني فلم أجده. بدأت اتوتر، أين ذهب هذا اللعين؟
لا أثر له! أيعقل اني أخذت القلم الرصاص بدلا منه وخُيل إليِ أنه سكينا؟
إبتسمت لسخرية القدر! سلاحي اليوم هو قلمي، ويا له من سلاح!
فكرت بسرعة لأول مرة منذ أيام، ماذا أفعل؟ أتجهت إلى حائط
السنترال في سرعة وكتبت "هنا عبرت إلى خارج الحي لأصارع حامد اللص ومن الممكن
أن أقتل حالا". خانتني عيناي ونظرت سريعا إلى الظل الأسود، فوجدته واقف
بالقرب من حائط قريب منه. تبا! ماذا يفعل؟ أيتبول؟ ربما لم يكن يمشي ورائي أبدا
وصور لي وسواسي ذلك!
فمضيت في سيري إلى خلف السنترال في إتجاه اليمين. وتذكرت
إني غبي ولم أضع التشكيل فوق أقتل. ربما يُقتل حامد ويكون أعترافي مُسجل على حائط
السنترال. يجب ان أعود سريعا. ألتفت بسرعة لأعود ولكني وجدت صاحب الظل مازال
ورائي. لو كان بحوذتي مرآه، كنت وجهت كشافي الصغير إلى جبهتي لأرى حبيبات العرق
اللؤلؤية تلمع في الظلام فوقها. يا إلهي.. كم أعشق نداوتها.
ولكن لا وقت لدي لهذا التلذذ الليلي. لم أفكر كثيرا، يجب
أن أبرئ نفسي من التهمة وتوجهت لأقرب حائط وكتبت.. قبل أن أكتب نظرت للظل فوجدته
واقف بجانب حائط.. ماذا يفعل هذا الكائن؟ أيلعب معي؟ أيعقل أنه يكتب أني متفوه
بألفاظ قبيحة قد تضر الأطفال؟ أقرأ نقش المعرصين؟ غضبت عندما وصلت لهذه الفكرة.
إذا كان قد قرأها فلابد أنه قرأ نقش المتسترين الذي يليه. أنا لست أحمق حتى لا
أعتذرعما بدر مني. كتبت على الحائط بغضب "لست قاتل حامد بل أنا أخشى أن أُقتل..
وأعتذر للمعرصين عن لفظي القبيح".
ما هذه الليلة الغريبة؟ ماذا فعلت بنفسي بنزولي إلى
الشارع في مثل هذا الوقت؟ اللعنة على الواجب؟ ولكن لا طريق للعودة بعد ظهور هذا
الظل. هل ظهر ليحثني على إتخاذ قرارات جادة بشأن حامد؟ أنا لا أعرف ماذا سأفعل
عندما أصل إليه، ماذا إذا لم أجده يسرق مثلا؟ أو لم أجده يتفق على جريمة ما؟ ماذا
سأقول له؟ اعتقد أني سأجلس في المقهى أشرب السحلب اللذيذ ثم أنصرف في هدوء مترقبا
فرصة أخرى.
ربما الظل يقلدني؟ خاصة أنه يرتدي مثلي معطف أسود يجعله
ضخم الجثة. تُرى ماذا يكتب فوق الحوائط؟ أيكتب شعرا؟ يريدها لعبة؟ إذن فلنلعب!
اتجهت إلى الحائط وكتبت "الحر ممتحن بأولاد الزنا*" في إشارة إليه.
وجدته يقف بجانب الحائط كالمعتاد. أبتعدت مهرولا حتى يتسنى له رؤية ما كتبت عندما
يتبعني كالكلب. وقفت، فوقف. هكذا بدا لي أنه يراقبني بوضوح. أنت لي الليلة أيها
الضخم. أقتربت من الحائط، فأقترب. ما هذه اللعبة السخيفة؟ وكأني أنظر في مرآة.
نظرت للحائط وكأني أكتب شيئا ورمقته بطرف عيني فوجدته ينظر للحائط أيضا. أرأى بيت
الشعر؟ لا أعرف. أفكر أنه لا يبدو لي أمرا خطيرا أن يراقبني أحدهم. ربما ملاك من
السماء أرسله الرب ليحميني من بطش حامد ورفاقه وسيقترب في الوقت المناسب ليضربهم
جميعا. أو ربما يكون متحذلق لا يعرف كيف يقضي ليلته فقرر ينزل للشوارع ليراقب
الناس. لا يبدو لي لص في كل الأحوال.
والآن فلأتجاهله وأذهب لهدفي مباشرة. وبدأت أدندن مرة
أخرى بصوت خفيض. بعد برهة سمعت صوت دندنة يأتي من خلفي. الظل يدندن؟ ماذا
يغني ذلك الأحمق المُقلد؟ أليس لديه مساحات إبداعية خاصة ليسلي نفسه على طول
طريقه؟ منذ زمن لم أر ظل غير مبتكر.
وصلت للمقهى، ولم أجد شئ. عبارة فكرت أن أكتبها فوق أقرب
حائط. يمكن أن تكون تلغرافا صغيرا. ولكني وصلت بالفعل إلى المقهى، لا يوجد مقهى!
خلف السنترال ساحة واسعة دائرية فارغة. تجولت حولها والظل يلهث خلفي، أستطيع أن
ألتقط أنفاسه بأذني الكبيرة. أين الجميع؟ المقهى وحامد والرفاق والكراسي والسحلب
اللذيذ؟ أنا غارق في أسئلتي ولا أجد إجابة. لابد ان هذا الظل اللعين قد أخفاهم
بطريقة أو بأخرى. توجهت إليه لأنقش على وجهه هذه المرة.
كان يبتعد بنفس مقدار قربي له. خطوتي للأمام وخطوته
للخلف، خطوة بخطوة. أكاد أجن! ما هذا الشيطان؟ وجدت على الأرض نقش بخط كبير، كُتب
بأكبر قلم رصاص يمكن لخيالي أن يدركه "وصلت للمقهى، ولم أجد شئ". ثم
رأيت الظل وقد تحول لظلال كثيرة بمعاطف سوداء تجعلهم ذو حجم ضخم، عريضي المنكبين
كمجرمين سابقين. وبيدهم أقلام رصاص. واقفون حولي على شكل دائرة وأنا في المنتصف.
مركز الدائرة. أقتربوا مني.. أكثر.. فأكثر.. فأكثر ثم ألتحمنا سويا في نشوى وحلقنا
في السماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المتنبي*
No comments:
Post a Comment