Tuesday, April 21, 2015

عجزت عن الانتماء

كانت الكتب وقصصها هم الشيء الوحيد الذي شعرت بإمكانية تملكه حين كنت طفلة. ومع ذلك لم تك ملكية بالمعنى الحرفي؛ فلقد كان والدي أمين مكتبة. ربما لأنه آمن بالملكية العامة أو ربما لأن والداي اعتبرا شراء الكتب ما هو إلا تبذير، أو ربما لأن الناس بشكل عام كانوا يكسبون بشكل أقل مما يفعلون الآن، لهذه الأسباب لم أك أملك الكتب. اتذكر شعوري بالشغف، عندما سُمح لي أخيرا بإمتلاك كتاب لأول مرة. كنت حينها في الخامسة أو السادسة من عمري. كان كتابا مصغرا، حوالي أربع بوصات على هيئة مربع، وكان عنوانه "لن تحتاج أبدا للبحث عن أصدقاء". كان مختبئا بين الحلوى الصغيرة والأوراق اللاصقة الملونة بالمتجر القديم عبر الشارع، بجوار منزلنا القديم في رود ايلاند. كانت حبكته تافهة، عبارة عن بطاقات ترحيب ممتدة أكثر منها قصة. ولكني مازلت أتذكر حماسي عندما اشترته أمي من أجلي وجلبته معها للمنزل. داخل الغلاف الأمامي، كان هناك خط أسفل الإعلان "هذا الكتاب خصيصا إلى" لكتابة إسم الشخص المهدى إليه الكتاب. كتبت أمي إسمي عليه، ووقعت في النهاية بكلمة "والدتك" ليكون إهداء منها إليَ، على الرغم من إني لا اناديها بوالدتي بل ماما.  كانت كلمة "والدة" كأنها نائب لولي أمري. ولايزال ذلك الكتاب، الذي جائني منذ ما يقرب من 40 عام، موجود في خزانة الكتب في غرفة طفولتي.
لم يك منزلنا يخلو من ما يمكن قرائته، ولكن العروض كانت شحيحة، وكانت غير مهمة لي. كان هناك كتب عن الصين وروسيا التي قرأها أبي أثناء دراسته بالعلوم السياسية. بعض أعداد مجلة تايم التي يقرأها في أوقات الاسترخاء. أما أمي فكانت تحتفظ بالروايات ومجموعات القصص القصيرة وكومات من مجلة داش الأدبية، ولكنهم كانوا باللغة البنغالية، حتى عناوينهم كانت عصية عليَ. كانت تحتفظ بهم على أرفف معدنية بالدور السفلي، أو بجانب سريرها. أذكر المجلد الأصفر للشاعر نذر الإسلام، والذي بدت أشعاره ككتاب مقدس بالنسبة لها، والقاموس الضخم المهتريء ذو الغلاف الكستنائي الذي تستخدمه في ألعاب الكلمات المتقاطعة. في مرحلة ما، اشترينا المجلدات الأولى القليلة من مجموعة موسوعات حيث كان أحد المتاجر يروج لهم، ولكننا لم نكمل المجموعة أبدا. كان شرائنا للكتب يتم بشكل عششوائي وغير منظم، كما كان الحال في بعض جوانب حياتنا المادية. وكنت أرغب في النقيض: منزل به كتب ذات حضور قوي، متراكمة فوق كل شئ ومنظمة بمرح فوق الجدران. في بعض الأحيان، كانت جهود أسرتي لملأ منزلنا بالكتب محبطة؛ كان هذا عندما بدأ أبي بتركيب القضبان والأقواس لعقد مجموعة من الأرفف الزيتية اللون. وفي غضون أيام قليلة، تهشمت الأرفف لأن جدران المنزل القائمة منذ فترة الإستعمار بالسبعينات، مصنوعة من الجص ولم تستطع تحملهم.
كل ما كنت أبح عنه هو طريق أفضل وأكثر تمييزا لحياة والداي الفكرية، مثل دليل مطبوع وموثق لما يقرأون، ما يلهمهم ويشكل عقولهم. شئ يمثل اتصال بيني وبينهم من خلال الكتب. ولكنهم لم يهتموا بالقراءة لي أو حتى بقصص القصص. لم يك أبي يقرأ الأدب، والقصص التي ربما أثارت خيال أمي حين كانت طفلة بكلكتا، لم تورثها لي. تجربتي الأولى في سماع الحكايات جهارا، كانت في المرة الوحيدة التي قابلت فيها جدي لأمي، حينها كنت في الثانية من عمري، خلال زيارتي الأولى للهند. كان مستلقي على فراشه. وضعني على صدره وبدأ في اختراع القصص. ما عرفته فيما بعد إننا بقينا ساهرين بمفردنا بعد نوم الجميع، وتوسع هو في الحكايات لأني صممت إنها بلا نهاية.
كانت البنغالية لغتي الأولى، كنت أتحدثها وأسمعها بالمنزل. لكن الكتب أثناء طفولتي كانت بالإنجليزية، وكانت موضوعاتها على الأغلب عن الحياة الإنجليزية أو الأمريكية. كنت واعية بمشاعر الخطيئة، كنت مدركة أني لا انتمي لهذان العالمان اللذان أقرا عنهما. فحياة أسرتي كانت مختلفة، طعام مختلف على مائدتنا، وأجازات مختلفة نحتفل بها. كان والداي حريصان ومرتبكان تجاه الأشياء المختلفة عن مجتمعهما. ولكن عندما أمسك كتاب بيدي وأقرأه، أتماهى معه. أدخل في علاقة صافية مع القصة وشخصياتها. حينها، استقبلت العالم الأدبي كما لو كان عالما ماديا، سكنت به بشكل كامل، مغمورة وغير مرئية في آن.
كفتاة صغيرة، كنت أخاف من المشاركة في الحياة الإجتماعية. كنت قلقة من تصرف الأخرين معي وأتساءل كيف سيرونني. لكن عندما قرأت، تحررت من ذلك القلق. لقد علمت الكثير عن أصدقائي الخياليين، مااذا يأكلوا أو يرتدوا وكيف يتحدثوا. عن الدمى المتناثرة بحجراتهم، وكيف يجلسوا بجانب المدفأة في الليالي الباردة ليحتسوا أكواب الشيكولاتة الساخنة. كما عرفت مواعيد أجازاتهم، ونوع التوت الذي يلتقطونه، ومربى الفاكهة التي تقلبها أمهاتهم فوق الموقد. بالنسبة لي، كان فعل القراءة وسيلة لاكتشاف الغرائز الأساسية – واكتشاف الثقافة التي كانت غريبة بالنسبة لوالدي. وبدأت في تحديهم بهذه الطريقة، بدأت أفهم الأشياء التي لا يعرفونها من خلال الكتب. كانت كل الكتب التي اشتريها على حسابي الخاص ملكية تامة لي. وهكذا شعرت إني لم أك على خطيئة فحسب، ولكن بشكل ما، شعرت إني أخون الشخصين اللذين ربياني.
كانت الكتابة بمثابة وسيلة اتصال عندما بدأت في تكوين الصداقات. كانت الكتابة في البداية مثل القراءة، محاولة للتواصل مع الآخرين أكثر من كونها سعي انفرادي. لم أك أكتب بمفردي، ولكن بصحبة تلميذ آخر بنفس صفي الدراسي بالمدرسة. كنا نجلس سويا، نحلم بالشخصيات الوهمية والحبكات، ونتبادل الأدوار في كتابة مقاطع من القصة، ونمرر الورق ذهابا وإيابا بيننا.  كانت الكتابة باليد هي الشيء الوحيد الذي يفصلنا، الطريقة الوحيدة التي تحدد لمن هذا المقطع. كنت دائما أفضل الأيام الممطرة أكثر من المشرقة، فيمكننا أن نجلس بالداخل كمخبأ، في الرواق مثلا، ونشحذ تركيزنا. ولكن حتى في الأيام الجميلة، كنت دوما أجد مكان ما لأجلس تحت شجرة أو على حافة صندوق الرمال مع هذا الصديق. في بعض الأحيان أجلس مع عدد آخر من الأصدقاء، لنكمل كتابة قصصنا. كانت تلك القصص تكرار صريح لما كنت اقرأه في ذلك الوقت: عائلات تعيش في المراعي، فتيات يتيمات يرسلن إلى مدارس داخلية أو تقوم المربيات القاسيات بتعليمهن، وأطفال يتمتعوا بقوى خفية، أو لديهم القدرة على الإنزلاق من خلال الخزانات إلى عوالم بديلة. كانت قراءاتي هي مرآتي، ولم أر أي جوانب أخرى من نفسي.
قادني حبي للكاتبة إلى السرقة في تلك المرحلة المبكرة من العمر. كانت الدفاتر الفارغة في الخزانة الخاصة بمعلمي مثل الألماس بمتحف. دفاتر مرصوصة في صفوف أنيقة. خططت وكسرت القواعد  للحصول عليها، رغم إنها وزعت علينا لنكتب بها الجمل أو التمارين رياضية. كانت تلك الدفاتر قليلة الورق، متشابكة معا، غير مميزة، وألوانها إما أزرق فاتح أو متمازج بين البني والأصفر. كانت صفحاتها مسطرة، وأبعادها ليست ببالغة الصغر أو الكبر. أردت الحصول عليها لأدون بها قصصي، وشحذت جرأتي لأطلب من معلمي واحد أو أثنان. ولكني حين علمت أن خزانته لم تكن دائما مغلقة أو حتى مراقبة، بدأت في إعانة نفسي بإمدادات سرية.
في الصف الخامس، فزت بجائزة صغيرة عن قصة عنوانها "مغامرات ميزان"، كان الراوي يصف مجموعة مختلفة من الشخصيات والمخلوقات الأخرى التي تزور الميزان. وأخيرا يصف مدى ثقل وزن العالم، وتهشم مقياس الرسم، وإلقائه في النفايات. كانت القصة مزودة برسومات، في الحقيقة كانت كل قصصي كذلك، وكنت أجمعهم معا بالخيوط البرتقالية. عُرض الكتاب بشكل مختصر في مكتبة المدرسة، وزود ببطاقة فعلية وغلاف. لم يقم أحد باستعارته، ولكن لم يك هذا هاما. ففعالية البطاقة والغلاف كافيين بالنسبة لي. كانت الجائزة تتضمن تذكرة هدية للمكتبة المحلية، لأشتري كل ما أريد من الكتب، وأزعجتني حيرتي. لساعات، أو كما بدا لي، كنت أتجول بين الأرفف بالمكتبة.  وفي النهاية، اخترت كتاب لم أسمع عنه من قبل، هو "قصص روتباجا" للشاعر الأمريكي كارل ساندبيرج. أردت أن أحب مجموعته، لكن أسلوب سردها القديم وقف حيال ذلك. فاحتفظت به كتميمة، ربما كاعتراف أولي. كنت أشعر إنه يتحدث إليَ في صيغة أمر إلزامي مثل الرقعة التي اكتشفتها أليس فوق الكعك والزجاجات تحت الأرض؛ كان الصوت في عقلي يقول: "أفعلي هذا".
كلما كبرت أثناء مراهقتي وما بعدها، تقلصت كتاباتي. كأنها تناسب عكسي مع سنوات حياتي. رغم أن الإلزام بكتابة القصص قد بقى، لكن أضعفته الشكوك الذاتية. لذلك قضيت النص الثاني من طفولتي أشعر بتسرب المساحة الآمنة التي كنت أعرفها. تحول النشاط الغزيري السابق وهو الكتابة إلى شيء شائك لا أستطيع لمسه. أقنعت نفسي أن الكُتاب المبدعون هم الآخرون، وإني لست منهم. وأنتهى الأمر أن ما أحببته عندما كنت في السابعة، أصبح في السابعة عشر أكثر ما يرعبني. بدأت أفضل العزف الموسيقي والتمثيل المسرحي، أتعلم النوتة الموسيقية أو اتذكر خطوط مخطوطة ما. استمر العمل بالكتابة، لكني وجهت طاقتي للمقالات، وأردت أن أكون صحفية. في الجامعة، حيث درست الأدب، قررت أن أكون أستاذ في اللغة الإنجليزية. في الواحدة والعشرين أصبحت الكاتبة التي احتجزها بداخلي قلقة كذبابة بالغرفة، كنت على قيد الحياة ولكني أشعر بالدونية وإني بلا هدف. كان دائما هناك شيء ما يكدر صفوي، كلما نضجت كلما كنت أكثر وعيا به، وجعلني كل هذا أشعر بالوحدة. لم أك على المسرح حتى أقلق من رفض الآخرين لي. كان عدم الإستقرار هو السائد، وكنت على ثقة إني رفضت نفسي بالفعل قبل أن يأخذ أي شخص آخر هذه الفرصة.
قي أوقات كثيرة من حياتي وددت لو أكون أشخاص آخرين؛ وهنا المأزق الرئيسي والسبب وراء ركودي الإبداعي أو هكذا أعتقد. كنت دائما لا أُشبع تطلعات الناس حولي: والداي المهاجران، أقاربي الهنود، زملائي الأمريكان، وفوق كل هذا أنا. وأرادت الكاتبة التي بداخلي أن تصحح مساري. لو فقط زاد أو قل شئ من هذا، لاختفت تلك العلامة النجمية التي تصاحبني. لطالما أردت أن تكون نشأتي، تلك التوليفة المختلفة والمعقدة لنصفي الكرة الأرضية، تقليدية وقابلة للإحتواء. أردت أن أكون مجهولة وغير مميزة، حتى أبدو مثل الآخرين، لأسلك مسلكهم. لأتوقع مستقبل بديل، وأحصل على انطلاقة من ماض مختلف. كان هذا إغواء للارتياح من فكرة محو هويتي واعتماد هوية أخرى. كيف أمكنني التمني أن أصبح كاتبة، أقول ما يختلج بداخلي، بينما أتطلع لأكون شخص آخر غيري؟
لم أك على طبيعتي لأكون حاسمة. لقد اعتدت أن انتظر الاخرين لتوجيهي، ليأثروا بي، وأحيانا لتلقي الإشارات الأساسية للحياة. في رأيي أن كتابة القصص هي من أكثر الأفعال الحاسمة التي يمكن لشخص فعله. فالأدب هو فعل التعمد، جهد مدروس لإعادة التخيل، وإعادة الترتيب، لإعادة تشكيل اللاشيء من واقع الحياة نفسها. حتى بين أكثر الكُتاب ترددا وريبة، لابد لذلك التعمد أن يظهر. فكونك كاتب يعني أن تقفز من فعل الاستماع إلى قول لمن أمامك: "استمع إليَ".
كان هذا عندما تلعثمت، كنت أفضل الاستماع أكثر من التحدث، لأرى بدلا من أكون مرئية. كنت خائفة من سماع نفسي أو من النظر إلى حياتي.
افترضت أسرتي إني سأحصل على شهادة الدكتوراه. لكن بعد تخرجي من الجامعة، والتوقف عن كوني طالبة لأول مرة، وترك الكيان والنظام الذي لطالما عرفته ورائي، انتقلت إلى بوسطن. تلك المدينة التي لا أعرفها جيدا. هناك عشت في حجرة بمنزل به أشخاص لا يربطني بهم شيء، من كان يهتم لأمري هو من يتلقى الإيجار. وجدت عمل بمكتبة، حيث أقوم بفتح الشحنات وأدير السجل النقدي. صادقت فتاة تعمل هناك. كانت أبنة شاعر يُدعى بيل كوربت. وبدأت في التردد على منزل كوربت، الممتليء بالكتب والفنون. شعر مؤطر للشاعر شيموس هيني، ورسومات للرسام فيليب جاستون، ولوحة لضريح عزرا باوند. ورأيت المكتب حيث يكتب بيل، مغمور بالمخطوطات الكتابية، الخطابات والمطبوعات، في منتصف حجرة المعيشة. رأيت أن العمل الذي يجري على هذا المكتب كان إلزاميا ولكن ليس لأحد، وليس على اتصال بمؤسسة ما. كان المكتب كجزيرة، وبيل يعمل بها لصالحه. قضيت فترة الصيف في هذه المنزل، قرأت به أعداد من مجلة باريس ريفيو. وعندما اختليت بنفسي في الحجرة الساطعة بالدور العلوي، نقرت المخطوطات والمقطوعات على الآلة الكاتبة.
بدأت أرغب في أن أكون كاتبة. في البداية، بدلت الصفحات مع شخص آخر سرا. كانت لقائتنا المجدولة تجبرني على الجلوس وكتابة شيء ما. كنت اتسلل إلى المكتب حيث أعمل في الأجازات الأسبوعية والليل، لأكتب القصص على جهاز الكمبيوترـ تلك الآلة التي لم تك بحوزتي في ذلك الوقت. ابتعت نسخة من "سوق الكاتب" وأرسلت قصصي إلى مجلات صغيرة كانت تعيد إرسالها إلي. في العام التالي، التحقت بالجامعة، ليس ككاتبة ولكن لأدرس الأدب الإنجليزي. لكن وراء هدفي العلمي المعلن غرض مختلف. تعودت أن أمر كل يوم على المكتبة في طريقي للقطار. كانت واجهة المتجر تعرض العشرات من عناوين الكتب التي دائما أقف لأراهم. كان بينهم كتب لليزلي ابستين، ذلك الكاتب الذي لم أقرأ له بعد ولكني سمعت إسمه، وهو مدير برنامج الكتابة بجامعة بوسطن. ويوم ما، على سبيل المزاح، دخلت إلى قسم الكتابة الإبداعية وطلبت الإذن أن أحضر الصف.
كان تهور مني، تقريبا ما يعادل سرقة الدفاتر من خزانة معلمي قبل عقدين. فُتح الصف للطلاب الكُتاب فحسب، لذلك لم انتظر استثناء من ابستين. بعدها عملت بجد لأحصل على مكان رسمي في برنامج الكتابة الإبداعية بالعام اللاحق. عندما أخبرت والدي إن تم قبولي، بمنحة جامعية، لم يدعمونني أو يثبطون عزيمتي. مثل الكثير من جوانب حياتي الأمريكية، ففكرة الحصول على شهادة في الكتابة الإبداعية، الذي يمكن أن يكون طريق قانوني للدراسة، ربما بدا لهم أمرا تافهة. ومع ذلك، فإن الشهادة تظل شهادة، لذلك كان رد فعلهم إزاء قراري هو البقاء على الحياد. رغم إني صححت لأمي، في البداية، عندما أشارت إليه ببرنامج الكتابة النقدية. أما والدي، فخمنت إنه يأمل أن يكون هذا مفيدا لشهادة الدكتوراه.
كانت أمي أحيانا تكتب قصائد شعرية. كتبتهم في البنغال ونشرتهم بين الحين والآخر في المجلات الأدبية بنيوانجلاند أو كلكتا. كانت تبدو فخورة بمجهوداتها، ولكنها لم تدعي أبدا إنها شاعرة. وكلا من والدها وأخيها الصغير، كانا فنانان تشكيليان.  وكانا مشهوران بأعمالهما الإبداعية، كما وصفتهما لي. كانت أمي تتحدث معهما بوقار. حكت لي عن اليوم الذي اضطر به والدها إلى حضور امتحانه النهائي بالجامعة الحكومية للفنون بكلكتا، وكان حينها مصاب بحمى وحرارته مرتفعة. لم يك قادرا سوى على إتمام جانب من بورتريه كان مطلوبا منه أن يرسمه بالكامل. رسم الفم والذقن فقط ولكنه فعل ذلك بحرفية مكنته من التخرج مع مرتبة الشرف. جلبنا ألوانه المائية من الهند، وضعنها في إطار، ونعرضها على الزوار. مازلت إلى اليوم احتفظ بأحدى ميدالياته في صندوق مجوهراتي، واعتبره منذ الطفولة تميمة تجلب لي الحظ السعيد.
قبل زيارتنا لكلكتا، كانت أمي تقوم بجولات خاصة لمتجر فني لتشتري فرش وورق وأقلام واطارات لوحات طلبهم أخيها منها. كانا جدي وخالي يكسبان رزقهما عن طريق الفن التجاري. كانت لوحاتهم لا تجلب سوى القليل من الأموال. توفي جدي عندما كنت في الخامسة من عمري، ولكن لدي ذكريات قوية مع خالي. كان يعمل على طاولته في الركن في شقته الصغيرة المؤجرة حيث ترعرعت أمي. يعد التصميمات لعملائه الذين يأتوا للمنزل ليناقشوا أفكاره. كان يجلس طوال الليل حتى يتم عمله. واستنتجت أن جدي لم يكن ميسور الحال أبدا، كما أن عمل خالي كان كذلك غير مستقر. أن تكون فنان، بالرغم من إنه أمر نبيل ورومانسي، ولكنه لم يكن شيء عملي أو جاد لتقوم به.
الميزان والساحرات والأيتام المهملة: كانوا جميعا مواضيع كتابتي أثناء الطفولة. كطفلة، كنت أكتب حتى أتواصل مع نظرائي. لكن عندما بدأت في كتابة القصص مرة أخرى، في العشرينات، كانا والداي هما من أناضل كي أصل إليهما. في عام 1992، قبل بدء برنامج الكتابة بجامعة بوسطن مباشرة، ذهبت إلى كلكتا مع عائلتي. عندما عدنا إلى أمريكا بنهاية فصل الصيف، استلقيت في فراشي، وشرعت فورا في كتابة أول قصة وسلمتها في ذلك العام لورشة الكتابة. كانت أحداثها تدور في المبنى الذي ولدت به أمي، والذي قضيت به معظم وقتي عندما كنت في الهند. في إمكاني الآن أن أرى دوافعي لكتابة هذه القصة، وعدة قصص مشابهة تبعتها، كانوا لإثبات شيء ما لوالدي: أن في إمكاني فهم العالم الذي أتوا منه، بطريقتي الخاصة، وبكلماتي الخاصة المحدودة لكنها دقيقة. لقد ربياني، وعاشا معي يوما بعد يوم، لكني أدركت إني غريبة بالنسبة لهم، كنت طفلة أمريكية. بالرغم من مدى قربنا، خشيت أن أكون كائن فضائي. كان هذا قلق مسيطر علي، عانيت منه أثناء نضجي.
كنت الطفلة الأولى لوالدي. وعندما كنت في السابعة من عمري، أصبحت أمي حبلى مرة أخرى، وأنجبت أختي في نوفمبر عام 1974. وبعدها بعدة أشهر، أخبرتها صديقة بنغالية من أقرب صديقاتها، إنها تنتظر مولودا كذلك. يعمل زوج المرأة، مثل أبي، بالجامعة. وبناء على توصيات أمي، ذهبت صديقتها إلى نفس الطبيب وخططت للولادة في نفس المشفى حيث وُلدت اختي. وفي إحدى الليالي الممطرة، تلقى والداي مكالمة من المشفى. كانت المرأة تبكي على الجانب الآخر من الهاتف وتخبر أمي إن طفلها ولد ميتا. ولا يعرفون سبب ذلك. وأن هذا الأمر حدث ببساطة، كما يحدث أي شيء. أتذكر الأسابيع التالية، كانت أمي تطهو الطعام وتذهب به إلى الزوجين الصديقين، واتذكر الحزن الذي ملأ منزلهما بدلا من الطفل. إذا كانت الكتابة هي رد فعل على الظلم أو البحث عن المعنى عندما يغيب، فلقد كانت هذه تجربتي الاستباقية. أتذكر تخيلي أن هذا كان من الممكن حدوثه لوالدي ليس لأصدقائهما، وأتذكر احساس الخجل لأن هذا لم يحدث لنا أيضا، كانت أختي حينها بلغت العام الأول من عمرها. ولكن على الأغلب، شعرت بغياب العدل – وإحباط توقعات الزوجين التي لم تتحقق.
وانتقلنا لمنزل جديد أشرفنا على بنائه في حي مختلف. لاحقا، انتقل الزوجان الصديقان لنفس الحي. واستخدما نفس المقاول لبناء منزل مجاور لمنزلنا، وبنوا منزلهما بنفس المواد ونفس التخطيط، لذلك أصبحا المنزلين متطابقين تماما. وأشار الأطفال الآخرين بالحي الذين يطوفون في الشوارع فوق درجاتهم وأحذية التزلج، إلى التطابق بين المنزلين ووجدوه أمرا مضحكا. وتسائلوا إذا كان كل الهنود يعيشوا في بيوت متطابقة. كنت أشعر بالامتعاض حيالهم، لأنهم لا يعرفون ما أعرفه انا حول خسارة الزوجين. وفي نفس الوقت شعرت بالحنق تجاه الزوجين، لأنهم بنوا منزلهما بنفس طرازنا، وادعائهما أن حيواتنا مماثلة بينما هذا غير صحيح. بعد سنوات قليلة، تم بيع المنزل، وانتقل الزوجان الصديقان لمدينة أخرى، وبدلت عائلة أمريكية واجهته لذلك لم يصبح مماثل لمنزلنا بعد ذلك الوقت. ونسى أطفال الحي التطابق الهزلي بين منزلي الأسرتين البنغاليتين في روود ايلاند. ولكن أرواحنا لم تكن متطابقة. لم أستطع نسيان ذلك أبدا.
عندما أصبحت في الثلاثين من عمري، كنت متعمقة في التركيبة المفككة لقصة جديدة، كتبت قصة عن أول شئ مأساوي استطعت تذكره وعنونتها بـ "أمر مؤقت". ليست قصة ما حدث بالظبط للزوجين، كما إنها ليست ما حدث لي أيضا. لكنها كانت انطلاقة من طفولتي، جزء مني يعود ببطء إلى أكثر ما أحببته عندما كنت صغيرة. كانت هذه أول قصة أكتبها كبالغة.
والدي الذي شارف الثمانين عام، لايزال يعمل أربعون ساعة بالأسبوع بالجامعة بروود ايلاند. كان دائما يبحث عن الأمان والاستقرار في وظيفته. لم يك راتبه أبدا ضخم، ولكن دعم أسرته التي لم تتطلع لشيء. كطفلة، لم أك أعي حينها المعنى الدقيق لـ "التثبيت في العمل"، ولكن عندما ناله أبي استشعرت ما يعنيه ذلك بالنسبة له. خططت لأمشي على خطاه، وأن أسعى لمهنة تمدني بأمان واستقرار مشابه. لكن في اللحظة الأخيرة ابتعدت خطواتي، لأني أردت أن أصبح كاتبة بدلا من ذلك. كان من الضروري الخطو بعيدا، وما كان أيضا محفوفا. حتى بعد استلامي جائزة البوليتزر، ذكرني أبي أن كتابة القصص ليست العمل الذي نعتمد عليه، وأن لابد دائما أن أخطط لكسب عيشي بطريقة أخرى مختلفة. سمعته ولكني لم أنصت، لقد تعلمت أن أهيم على وجهي حتى الحافة ثم أقفز. وهكذا، بالرغم من أن وظيفة الكاتب أن ينظر ويستمع، حتى يصبح كاتب، إلا إنني علي أن أكون صماء وعمياء.

أرى الآن أن والدي بكل تطبيقاته العملية، انجذب نحو حافته الخاصة جدا أيضا. فلقد ترك وطنه وعائلته، وجرد نفسه من طمأنينة الشعور بالانتماء. في رد فعل، لمعظم حياتي، أردت أن أنتمي إلى مكان ما، سواء المكان الذي أتى منه والداي أو أمريكا. وعندما أصبحت كاتبة، أصبحت طاولتي هي وطني؛ ولست في حاجة إلى هوية أخرى. فكل قصة هي أرض غريبة، احتلها أثناء عملية الكتابة ثم انبذها. أنا انتمي لعملي، لشخوصي، وحتى أخلق آخرين أترك القدامى ورائي. أحاول بالكتابة أن اجتاز رفض والداي الذهاب أو الانتماء لأي مكان في قلب كينونتي. أما رفضي الخاص فهو إني ولدت من رحم عجزي عن الانتماء.

عن ذا نيويوركر
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015

Wednesday, April 8, 2015

علاج بيبي هالدار




من المجموعة القصصية "مترجم الأوجاع"

للكاتبة: جومبا لاهيري
ت: أميمة صبحي

جومبا لاهيري، كاتبة أمريكية من أصل هندي. حصلت على جائزة البوليتزر عام 2000 عن مجموعتها القصصية "مترجم الأوجاع". رشحت لجائزة الأورانج للآداب عام 2004. وصلت لقائمة البوكر القصيرة عام 2013 عن روايتها الأخيرة "الأرض المنخفضة". تم تحويل روايتها "السمي" لفيلم يحمل نفس الإسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عانت بيبي هالدار طوال سنوات عمرها التاسعة والعشرين من اعتلال أربك عائلتها، أصدقائها، الكهنة، العرافات، العوانس، خبراء المعالجة بالأحجار الكريمة، المؤمنيين، وحتى الحمقى أثناء محاولات علاجها. أحضر الجيران المكترثين لأمرها الماء المقدس من الأنهار السبعة المقدسة من أجلها.
حين نسمع صراخها ونوباتها في الليل، حين يقيدوا رسغيها بالحبال ويضعوا اللبخات فوقها، كنا نذكرها في صلواتنا. قام الحكماء بدعك صدغيها بدهان الكافور. بخروا وجهها ببخار السوائل العشبية. لتقوية إيمانها، اُصطحبت ذات مرة بالقطار لتُقبل مقابر القديسين والشهداء. وضعوا تعاويذ حارسة من عين الشيطان حول ذراعيها ورقبتها. كما زينت الأحجار المبشرة أصابعها. العلاج الذي قدمه الأطباء جعل الأمر أسوأ. الطب البديل، الطب التجانسي، الطب البديل الهندي. بمرور الوقت قاموا بإستشارة كل فروع الطب. كانت النصائح لا نهائية.
بعد الأشعة السينية، الفحوصات السريرية، الحقن، نصح بعضهم بيبي أن تزيد وزنها، وبعضهم بخسارة وزنها. إذا منعها أحدهم من النوم بعد الفجر، يصر أخر على بقائها بفراشها حتى الظهيرة. نصحوها بممارسة الوقوف على اليدين، كما نصحوها بترتيل أيات من الفيدا في أوقات معينة من اليوم. اقترح أحدهم:
-          خذوها إلى كلكتا للعلاج بالتنويم المغناطيسي.
رحلات مكوكية من اختصاصي لأخر، تلقت خلالها بيبي نصائح بتجنب الثوم، احتساء كميات كبيرة من خمر المر، ممارسة التأمل، شرب سائل جوز الهند الأخضر، ابتلاع بيض البط الصافي مخفوق بالحليب.
في وقت قصير أصبحت حياة بيبي محاولات علاج فاشلة محاولة تلو الأخرى. طبيعة مرضها والنوبات المفاجئة جعلت عالمها مقتصر على المبنى الباهت ذو الطوابق الأربعة الخاص بعائلتها. استأجر ابن عمها الكبير وزوجته شقة بالطابق الثاني به. لم يكن مسموح لبيبي عبور الشارع أو ركوب الترام بمفردها لأنها معرضة في أي لحظة لفقدان الوعي والدخول في هذيان مخز. شغلها اليومي كان الجلوس في المخزن على سطح المبنى الخاص بنا. مكان صغير بالكاد يمكنك الجلوس به. يضم مرحاض مجاور، باب مزين بالستائر، نافذة واحدة بدون قضبان معدنية، أرفف مصنوعة من ألواح أبواب قديمة. هناك، تجلس القرفصاء فوق سجادة مربعة من القنب الهندي. تعد قائمة جرد لمتجر مستحضرات التجميل الذي يملكه هالدار ابن عمها ويديره في مدخل الفناء. لم تتلق بيبي أجر لقاء عملها ذلك. كان أجرها وجبات غذائية ومؤن وأمتار وفيرة من القطن تتلقها في اجازة أكتوبر من كل عام لملأ خزانة ملابسها بثياب يصنعها لها ترزي رخيص. وفي الليل، تنام على سرير نقال خاص بالمعسكرات قابل للطي في الطابق الأسفل من شقة ابن عمها.
في الصباح وصلت بيبي إلى المخزن مرتدية خف بلاستيكي مشقوق وثوب يصل لأسفل ركبتيها ببوصات قليلة، الطول الذي توقفنا عن ارتدائه منذ كنا في الخامسة عشر من عمرنا. كانت قدميها غير مشعرة، مغطاة بعدد هائل من الكلف الشاحب.
ترثى لحالها وتنعي حظها بينما ننشر نحن الثياب وننظف الموازين من السمك. لم تكن جميلة. كانت شفتاها العليا رفيعة، وأسنانها صغيرة للغاية. تبرز لثتها أثناء الحديث. تقول:
-          اتساءل هل من العدل الجلوس هكذا طوال عمري؟ أرى سنوات شبابي تمر بإهمال، أدون الأصناف والأسعار بدون وعد بأي مستقبل؟
صوتها عال أكثر من الضروري، كما لو إنها تتحدث إلى شخص أصم.
-          هل من الخطأ أن أحسدكم ، أحسد كل العرائس والأمهات المشغولات بحياتهن ورعايتهن؟ هل رغبتي في تزيين عيوني بالمساحيق الملونة أو تعطير شعري خطأ؟ تربية طفل وتعليمه تمييز الحلو من الحامض، والخير من الشر؟
كانت تشكو حرمانها الهائل كل يوم، حتى أصبح من الواضح إنها في حاجة إلى رجل في حياتها. تريد رجل يتحدث إليها، يحميها، يقرر لها مصيرها في الحياة. إنها مثل معظمنا، تريد إعداد وجبات العشاء، توبيخ الخادمات، ادخار جزء من أموالها في خزانة ملابسها لتنظيف حاجبيها كل ثلاث أسابيع في المركز الصيني للتجميل. رغت كثيرا حول تفاصيل حفلات عرسنا: المجوهرات، الدعوات، رائحة نبات المسك المربوط فوق فراش الزفاف. بعد إلحاحها نريها أحيانا صور زفافنا المزينة بالفراشات. تتأمل اللقطات التي سجلت المراسم: سكب الزيت على النار، تبديل الأكاليل، السمكة المطلية بالبرتقالي المائل للحمرة، صواني الأصداف والعملات المعدنية. تلقي ملاحظاتها:
-          عدد هائل من المدعويين.
تلمس بأصابعها الوجوه المحيطة بنا في فوضى. تقول:
-          عندما أتزوج سأدعوكم جميعا.
عذبتها تطلعاتها بضراوة. ففكرة الزوج التي علقت عليها كل آمالها كانت تهددها بنوبات جديدة. وسط علب وصناديق دبابيس الشعر تتكور على الأرض وتتحدث في تذمر بجمل غير مترابطة:
-          لن أضع قدمي في اللبن أبدا. لن يضعوا على وجهي قناع الصندل. من سيمسد جسدي بالزعفران الهندي؟ لن يُطبع اسمي باللون القرمزي أبدا على بطاقة دعوة.
كان مونولوجها مثير للغثيان. عواطفها جياشة. قلقها يتقاطر مثل حمى من مسامها. وحين كان يصل سخطها لذروته، كنا نقوم بتغطيتها بشالات، ونغسل وجهها بماء من صنبور الحوض، ونشتري كوب من الزبادي وزجاجة ماء الورد من أجلها.
أما في الأوقات الأقل بؤسا، كنا نشجعها لتصحبنا إلى الترزي لتكمل بلوزاتها وتنوراتها، لتخرج قليلا من سجنها. ولأننا فكرنا أن هذا قد يزيد احتماليات الزواج المنتظر، أخبرناها:
-          لايوجد رجل يرغب في امرأة ترتدي مثل غسالة الأواني.
تنهدت باستياء وتجهم. قالت محتجة:
-          هل أترك كل هذه الأقمشة إلى العث؟ أين أذهب؟ من سأرتدي له؟ من سيأخذني للسينما، إلى حديقة الحيوان، من سيشتري لي صودا الليمون والكاجو؟ عليَ الاعتراف أن هذه هي مخاوفي؟ لن أشفى أبدا، أو أتزوج!.
بعدها وصف علاج جديد لبيبي. كان أسوأهم. في إحدى الأمسيات بطريقها للعشاء، سقطت على منبسط درج الدور الثالث. أصابت كفيها وقدميها إصابة بالغة. تصببت عرقا.
تردد أنينها في الدرج. هرولنا مسرعين خارج شققنا لتهدئتها. معنا مراوح اليد ومكعبات الثلج وأكواب من الماء البارد لسكبها على رأسها. إلتصق أطفالنا بالدرابزين وشهدوا نوبتها المفاجئة. أرسلنا الخادمات لإستدعاء ابن عمها. مر عشر دقائق قبل ظهور هالدار من متجره، غير مبال رغم إحمرار وجهه. أخبرنا أن نكف عن القلق. ودون أي محاولات ليخفي ازدراءه، كومها في الريكاشة واتجه إلى العيادة. هناك بعد إتمام سلسلة من تحاليل الدم، غضب الطبيب المعالج لحالة بيبي وأنهى حديثه قائلا علاجها هو الزواج.

انتشرت الأخبار بين قضبان نوافذنا، عبر حبال غسيلنا، فوق فضلات الحمام التي تلتصق على درابزين أسطح منازلنا. بحلول صباح اليوم التالي، ثلاث قارئات كف قرأن كف بيبي وأكدن بدون شك أن دليل اقترانها برجل ما محفور على يدها. سرت همهمات فظة حول مواعيد دورتها الشهرية وراجعت الجدات التقاويم ليحددن الوقت المواتي للزواج. امتدت همساتنا لأيام تالية في الطريق بأطفالنا إلى مدارسهم، أثناء تنظيف منازلنا، وفي طابور المؤن الغذائية. كان واضحا أن ما تفتقده الفتاة المسكينة هو بعض الحيوية. للمرة الأولى نتخيل وجود بروز أنثوية تحت ثوبها المنزلي. حاولنا تقييم اللذة التي قد تقدمها لرجل. للمرة الأولى نلاحظ صفاء بشرتها، طول وتراخ رموش عينيها، أناقة يديها الملحوظة. تقول:
-          لقد قالوا إنه الأمل الوحيد. حالة من الإثارة الكامل.
هنا صمتنا خجلا. أكملت:
-          قالوا أن العلاقة الجنسية ستهدأ دمي.
ليس من الضروري ذكر سعادة بيبي بهذا التشخيص، حيث بدأت فورا الاستعداد لحياتها الزوجية. طلت أظافرها ودهنت الكوعين ليكونا أكثر ليونة ببعض السلع التالفة من متجر هالدار.
أهملت السلع الجديدة التي وصلت للمخزن. كما بدأت في مطاردتنا من أجل وصفات الطعام، بودينج الشعيرية ويخنة البابايا. ودونتهم بحروف ملتوية في صفحات دفتر الجرد. أعدت قائمات المدعوين، قائمة الحلويات، قائمة الأماكن التي تنوي قضاء شهر العسل بها. وضعت الجلسرين لنعومة شفتاها. قاومت الحلوى لتقلل من وزنها. في مرة طلبت من أحدنا اصطحابها للترزي الذي فصل لها سلوار قميص جديد فضفاض مثل المظلة، كما كانت الموضة وقتها. في الشوارع كانت تسحبنا إلى كل دكاكين المجوهرات. تحدق في الخزانات الزجاجية. تطلب أراءنا في تصاميم الأكاليل والقلادات المرصعة. وفي محلات الساري، أشارت على ساري حرير أرجواني، وأخر تركواز، ثم ساري كان قطيفة كالزهور المخملية. تقول:
-          في الجزء الأول من المراسم سأرتدي هذا، ثم هذا، ثم ذلك.
لكن لهالدار وزوجته رأي أخر. في مأمن من أهوائها، غير مبالين بمخاوفنا، مارسا أعمالهما كالمعتاد. محشوران معا في متجر مستحضرات التجميل الذي لا يفرق كثيرا عن مجرد مخزن. ازدحمت جدرانه الثلاث بالحنة وزيوت الشعر وأحجار الخفاف ودهانات الجمال. كان هالدار يجيب على من يتطرق لصحة بيبي قائلا:
-          ليس لدينا وقت للاقتراحات البذيئة. ما لم يتم معالجته لابد من احتماله. لقد سببت بيبي قلق كاف، زادت من النفقات بشكل كاف ولطخت سمعة العائلة بشكل كاف.
زوجته تجلس بجانبه وراء المنضدة الزجاجية الصغيرة. جلد صدرها مبرقش وتومئ بالإيجاب. كانت امرأة سمينة. تضع بودرة شاحبة لا تلائم لون بشرتها. تلطخ طويات رقبتها.
-          كما من الذي سيتزوجها؟ الفتاة لا تعلم أي شئ عن الحياة. تتحدث كمعتوهة. بجانب إنها في عقدها الثالث وليس في إمكانها إشعال فحم الفرن أو سلق الأرز. لا تستطيع التفرقة بين حبوب الشمر والكمون. تخيل محاولاتها لإطعام رجل!
لديهم وجهة نظر. بيبي لم تتعلم قط أن تكون امرأة؛ تركها المرض ساذجة في أغلب الأمور الحياتية. زوجة هالدار واثقة أنها تحت سيطرة الشيطان نفسه. أبقتها بعيدا عن النار واللهب. لم تتعلم ارتداء الساري بدون شبكه بدبابيس في أربع مواضع مختلفة، ولا يمكنها تطريز المفارش أو عمل شالات من الكروشيه بمهارة فائقة. لم يكن مسموحا لها مشاهدة التلفزيون لاقتناع هالدار أن خصائص الإلكترونيات ستثير نوباتها، لذلك كانت تجهل الأحداث العالمية ووسائل الترفيهة. توقفت دراستها الأساسية بعد المستوى التاسع.
لكننا تناقشنا من أجلها. ومن أجل العثور على زوج. قلنا:
-          هذا ما أرادته بيبي طوال الوقت.
لكن من المستحيل مشاركة هالدار وزوجته في الحوار. كان حقدهما تجاه بيبي واضح على شفاهم، أكثر نحافة من الخيوط التي يعقدوا بها مشترياتنا. عندما أكدنا أن العلاج الجديد يستحق فرصة، قال هالدار مدعيا:
-          بيبي تملك قدر غير كاف من الاحترام والتحكم بالذات. إنها تبالغ في مرضها لتلفت الانتباه إليها. أفضل شئ هو إبقائها مشغولة، بعيدا عن المتاعب التي تختلقها.
-          لماذا لا تزوجها إذن؟ لن تكون مسئولا عنها على الأقل.
-          ونضيع مداخراتنا في الزفاف؟ نطعم المدعويين، ونشتري الأساور والسرير، ونجمع المهر؟
لكن تذمرات بيبي استمرت. في وقت متأخر من نهار أحد الأيام، ارتدت بيبي تحت إشرافنا ساري شيفون أرجواني وخف فضي عاكس كمرآه. أقرضناها أياه من أجل تلك المناسبة. أسرعت إلى متجر هالدار بخطى متفاوتة. أصرت على اصطحابها إلى ستوديو التصوير الفوتوغرافي لإلتقاط صورة مثل كل العرائس المنتظرات. ثم إرسال الصورة لمنازل الرجال المرشحين للزواج. كنا نراقبها من مصراع نوافذنا، كان العرق يترك أهلة سوداء تحت أبطيها. تقول بغضب:
-          بعيدا عن الأشعة السينية لم أتصور فوتوغرافيا أبدا. حمواي المرتقبين في حاجة لمعرفة كيف أبدو.
لكن هالدار رفض. قال أن من يرغب في رؤيتها عليه ملاحظتها من تلقاء نفسه، ويمكنه رؤية البكاء والعويل وصد العملاء. أخبرها إنها خراب لعمله، عائق وخسارة. مَن بالبلدة يريد صورة ليعرف هذا؟ في اليوم التالي توقفت بيبي عن تسجيل قائمة الجرد تماما وابهجتنا، عوضا عن ذلك، بتفاصيل متهورة عن هالدار وزوجته. قالت:
-          أيام الآحاد يقتلع الشعر من ذقنها. يحفظا أموالهما بالثلاجة المغلقة جيدا.
تبخترت فوق أسطح الجيران المتجاورة، وتحدثت بصوت مرتفع. لذلك ازداد جمهورها مع كل تصريح عنهما.
-          تضع دقيق الحمص على ذراعيها أثناء الإستحمام، لاعتقادها إنه سيجعلهما أكثر بياضا. الأصبع الثالث من قدمها اليمنى مفقود. السبب في طول قيلولتهما هكذا هو استحالة إرضائها.
لتهدئتها، نشر هالدار إعلان من سطر واحد في جريدة المدينة للعثور على عريس: "فتاة، غير مستقرة، طولها 152 سم، تبحث عن زوج".
شخصية العروس المرتقبة لم تكن سرا على أباء شبابنا، ولا يوجد أسرة ستحمل على عاتقها هذه المجازفة المزعجة. من في وسعه إلقاء اللوم عليهم؟ كانت هناك إشاعات أن بيبي تتحدث مع نفسها في طلاقة لكن بلغة مبهمة تماما، ونومها بلا أحلام. حتى الأرمل الوحيد ذو الأسنان القليلة الذي يصلح حقائبنا بالمتجر لن يقتنع بها ولن يتقدم لخطبتها. ورغم ذلك بدأنا في تدريبها لتكون زوجة لنصرف انتباهها. قلنا:
-          العبوس مثل وعاء أرز لن يصلك لشئ. الرجال يحتاجوا للملاطفة.
من ضمن تدريبات مقابلة العريس المحتمل، تشجيعها على الدخول في محادثات مع رجال محيطين. عندما وصل حامل الماء إليها بعد انتهاء جولته لملأ الجرة، جعلناها تقول:
-          كيف حالك؟
عندما قام بائع الفحم بإفراغ سلاله على السطح، كانت نصيحتنا أن تبتسم وتعلق على أحوال الطقس. حشدنا كل خبراتنا، وقمنا بإعدادها للمقابلة.


-         في الغالب يأتي العريس بصحبة أحد الوالدين، جدة وعم أو عمة. سيحدقوا بكِ، سيسألوا العديد من الأسئلة. يفحصوا باطن قدميك وكثافة ضفيرتك. سيسألونك عن إسم رئيس الوزراء، ويجعلونك تلقين شعر. تطعمين دستة من الرجال الجائعين نصف دستة من البيض.


عندما مر شهرين بدون أي رد على الإعلان، شعر هالدار وزوجته إنهم أبرياء.
-         الآن، أرأيتم إنها غير مؤهلة للزواج؟ أرأيتم إن لا يوجد رجل عاقل سيلمسها؟
لم تكن الأمور بهذا السوء مع بيبي قبل وفاة والدها. (لم تصمد الأم بعد ولادتها). في سنواته الأخيرة، صمم الرجل العجوز مدرس الرياضيات في مدرستنا الإبتدائية، على تقفي أثر مرض بيبي وكل أمله أن يجد منطق في حالتها. كان يجيبنا عندما نسأل عن ما وصل إليه:
-         كل مشكلة لها حل.
كان يطمئن بيبي. لفترة زمنية كان يطمئنا جميعا. كتب خطابات للأطباء في انجلترا. قضى لياليه يقرأ المراجع الطبية بالمكتبة. توقف عن تناول اللحم في أيام الجمع ليرضي إلهه المنزلي. وأخيرا توقف عن التدريس أيضا، وألقى الدروس في حجرته فقط. ليتمكن من متابعة بيبي طوال الوقت. برغم إنه حصل في شبابه على جائزة لقدرته على استنتاج الجذور التربيعية من الذاكرة إلا إنه لم يستطع حل لغز مرض بيبي. وكنتيجة لعمله، وصلته تسجيلاته إلى استنتاج ان نوبات بيبي تحدث بتكرار أكثر في الصيف أكثر من الشتاء، وإنها عانت تقريبا من 25 نوبة عظيمة. رسم جدول للأعراض التي تنتابها مع ارشادات لتهدئتها، ووزعه على الجيران، لكنهم فقدوا في النهاية. تحولوا إلى مراكب شراعية في أيدي اطفالنا. أو استخدمنها في حساب ميزانية البقالة على الجانب الأخر.
بعيدا عن البقاء بصحبتها، بعيدا عن تخفيف ألام مصائبها، بعيدا عن إبقاء عين من حين لأخر عليها، كان هناك القليل لنفعله لتحسين الموقف. لم يكن احد منا قادر على فهم هذا الأسى. بعض الأيام، بعد القيلولة، مشطنا شعرها، ونتذكر من حين لأخر ان نغير تسريحة شعرها حتى لا يكبر الفرق كثيرا. وبناءا على طلبها كنا نضع لها البودرة أسفل شفتاها ورقبتها ونحدد حاجبيها بالقلم، ونتمشى معها حتى بركة السمك حيث يلعب أطفالنا الكروكيت بالظهيرة. كانت لا تزال مصممة على إغراء رجل. تقول:
-         بعيدا عن حالتي، لكن مازلت في تمام صحتي.
تجلس على مقعد على طول ممر حيث الرجال والنساء المتحبين يتجولوا بأيادي متشابكة.
-         لم أصاب يوما بالبرد او الأنفلونزا. لم أصاب باليرقان. لم أعاني أبدا من مغص أو سوء هضم.
أحيانا نشتري لها كوز ذرة مدخن مع عليه عصير ليمون، أو ندفع بيستين مقابل الكراميل. نقوم بمواساتها، عندما كانت مقتنعة أن رجل ما سيولها اهتمامه كنا نوافقها. لكنها لم تكن تحت مسئوليتنا، وفي أوقاتنا الخاصة كنا ممتنون لأجل هذا.
في نوفمبر، عرفنا أن زوجة هالدار حامل. في هذا النهار بالمخزن، بكت بيبي. قالت:
-         قالت إن مرض معد، مثل الجدري. قالت إني سأعدي الطفل.
كانت تتنفس بصعوبة، وعينيها مثبتة على بقعة مقشرة بالجدار.
-         ماذا سيحدث لي؟
لم يكن هناك رد بعد على الإعلان بالجريدة.
-         أليس هذا عقاب كاف أن أتحمل هذا الشقاء بمفردي؟ هل لابد أن أُوبخ على عدوى أخرى؟
زادت الاحتجاجات داخل أسرة هالدار. بدأت زوجته، المقتنعة أن وجود بيبي سيعدي الطفل، تلف الشالات الصوفية حول بطنها المنتفخ. وضعت لبيبي بالحمام صابون ومناشف منفصلة. قالت الخادم التي تساعد في غسيل الأطباق أن أطباق بيبي لا تغسل مع أطباق الأخرين. بعد ذلك في ذات ظهيرة، بدون انذار، حدثت نوبة أخرى. على ضفاف بركة السمك سقطت بيبي على الرصيف. ارتجفت. اهتزت. عضت شفاها. حاوطها مجموعة من الناس في الحال، متحمسون/متلهفون للمساعدة بأي طريقة ممكن. سمر/ثبت فاتح زجاجات الصودا أعضائها المهتزة بعنف. حاول بائع شرائح الخيار أن يفك أصابعها. قمت أحدنا بغمرها بماء من البركة. وأخرى بللت فمها بمنديل معطر. كما أمسك بائع الكاكايا برأسها التي قاومت حتى تحركها من جانب لأخر. والرجل الذي يعصر قصب السكر في العصارة اليدوية، قبض على مروحة يد يستخدمها عادة في طرد الذباب وحرك الهواء فوقها من كل زاوية ممكنة.
-         ألا يوجد طبيب في هذا الحشد؟
-         تأكد إنها لم تبتلع لسانها.
-         هل أخبر أي شخص هالدار؟
-         إن حرارتها مرتفعة أكثر من الفحم!
برغم جهودنا، استمرت النوبة. صارعت عدوها، عصفت بالكرب، صرت على أسنانها وارتعشت ركبتاها. مر أكثر من دقيقتين. كنا نراقبها في قلق. وتساءلنا ما العمل.
-         جلد!
صرخ أحدهم فجأة.
-         إنها في حاجة لشم الجلد.
وقتها تذكرنا؛ في المرة الأخيرة حدثت لها النوبة، وضعنا خف من جلد البقر تحت خياشيمها وهو ما حررها أخيرا من قبضة العذاب. سألناها عندما فتحت عينيها:
-         ماذا حدث يا بيبي؟ أخبرينا عما حدث؟
-         لقد شعرت بإرتفاع حرارتي، ثم ارتفعت أكثر. ومر دخان أمام عيني. تحول العالم للون الأسود. ألم تروه؟
رافقها مجموعة من أزواجنا إلى منزلها. تكاثف الظلام، ونفخ في أصداف المحارة، عبق الهواء ببخور المصليين. تمتمت بيبي وترنحت لكنها لم تقل شئ. كانت الكدمات بوجنتيها، والجروح في كل مكان. تلبد شعرها، وكسا كوعيها الوحل، وكسرت قطعة صغيرة من سنها الأمامي. كنا نتابعها خلفها، وافترضنا إننا على مسافة أمنة، ممسكين أطفالنا بأيدينا. كانت تحتاج بطانية، كمادة، ودواء مهدئ. تحتاج لصحبة أحدهم. لكن عندما وصلنا إلى ساحة دار هالدار وزوجته رفضا أن يستقبلوها. أصر هالدار قائلا:
-         هناك خطر طبي عظيم على المرأة الحامل التي تعيش بالقرب من شخص هستيري.
قضت بيبي ليلتها في المخزن.
ولدت إبنتهما على يد جراح في نهاية يونيو. حتى ذلك الوقت كانت بيبي تنام بالدور الأسفل مرة أخرى، أبقا سريرها في الرواق ولم يسمحا لها بلمس الطفلة مباشرة. كل يوم كانا يرسلاها إلى السطح لتدون الجرد حتى الغداء، ثم يحضر لها هالدار فواتير بيع فترة الصباح وصحن من البازلاء الصفراء المشقوقة لغدائها. وفي الليل تشرب اللبن وتأكل الخبز بمفردها على الدرج. انتابتها النوبات الواحدة تلو الأخرى بدون أن يفحصها الأطباء.
عندما عبرنا عن قلقنا، قال هالدار إنه ليس من شأننا، ورفض مناقشة الأمر معنا بحدة. ولنعبر عن استيائنا، بدانا في شراء احتياجتنا من متجر أخر: كان هذا انتقامنا الوحيد. بعد أسابيع تكاثرت الأتربة فوق أرفف بضائع هالدار. ذبلت/شحبت الملصقات وتحولت الكولونيا للرائحة عطنة. عندما نمر بالصدفة في الليل، نجد هالدار جالسا بمفرده، يضرب البعوض بنعل خفه بعنف. بالكاد كنا نرى زوجته. وفقا لخادمة غسيل الأطباق فإنها مازالت طريحة الفراش، كان جليا أن آلام مخاضها كانت قوية.
جاء الخريف، اقترب موعد عطلات شهر أكتوبر، وانشغلت البلدة بالتسوق والتخطيط لهذه المناسبة. أغاني الأفلام التي انطلقت من مكبرات الصوت المعلقة بالأشجار. كانت المعارض والمتاجر تفتح أبوابها طوال اليوم. أبتعنا لأطفالنا البالونات والشرائط الملونة واشترينا الحلويات بالكيلو، مكالمات مدفوعة الأجر بسيارات الأجرة للأقارب التي لم نراهم خلال العام. أصبحت الأيام أقصر والليالي أكثر برودة. أغلقنا ستراتنا وسحبنا الجوارب لنرتديها. البرودة التي جاءت جعلت أثارت الحكة في حلوقنا. جعلنا أطفالنا يتغرغروا بماء مالح دافئ وقمنا بلف الكوفيات حول رقباتهم. لكن كانت إبنة هالدار هي من سقطت مريضة.
استدعي الطبيب في منتصف الليل وإستطاع السيطرة على الحمى/ساعد في تقليل الحمى. تضرعت له زوجة هالدار:
-         اشفيها.
ايقظنا بكاءها الحاد.
-         سنعطيك ما تريد، فقط عالجها.
كتب الطبيب على جلوكوز، أسبرين مطحون بالهاون، وأخبرهم أن يلفوا الطفلة بالألحفة والأغطية. لم تتزحزح الحمى رغم مرور خمسة أيام. انتحبت الزوجة قائلة:
-         بيبي هي السبب. هي من فعلتها، لقد عدت طفلتنا. لابد أن نمنعها من العودة للطابق الأسفل. لابد أن نمنعها من العودة لهذا المنزل.
وبدأت بيبي في قضاء لياليها بالمخزن مرة أخرى. تحت إلحاح زوجته، نقل هالدار سرير المخيم الخاص بها إلى الأعلى، ومعه صفيحة من القصدير بها أمتعتها. كان يترك وجباتها مغطاة بمصفاة في أعلى الدرج. تقول بيبي:
-         أنا لا أكترث. من الأفضل أن أعيش بعيدا عنهم، وأصمم منزلي بطريقتي.
أفرغت محتويات العلبة الصفيح. بعض الأثواب المنزلية، صورة مؤطرة لوالدها، أدوات خياطة، مجموعة من الأقمشة. رتبت أشيائها على الأرفف القليلة الفارغة. في الأجازة الأسبوعية، تعافت الطفلة، لكنهما لم يسمحا لبيبي بالعودة إلى الطابق الأسفل. قالت بيبي لنا لتهدئتنا:
-         لا تقلقوا. إن الأمر ليس كأنهم احتجزوني هنا. لقد بدأت حياتي من قاع الدرج، الآن أنا حرة في اكتشاف الحياة كما أرغب.
لكن في الحقيقة، توقفت عن الخروج تماما. عندما نسألها ان تخرج معنا لبركة الصيد أو لترى زخارف المعبد كانت ترفض. تدعي إنها تخيط ستارة جديدة لتعلقها على مدخل المخزن. بدت بشرتها شاحبة. تحتاج للهواءالمنعش. نقترح:
-         ماذا عن البحث عن زوج؟ كيف تتوقعين ان تسحري رجل وانتِ تجلسين هنا طوال اليوم؟
لكن لم يحركها شئ.

في منتصف ديسمبر، أزال هالدار كل البضائع التي لم تباع من فوق أرفف متجره، وينقلهم بصناديق إلى المخزن بالأعلى. نجحنا في زعزعة تجارته. قبل إنتهاء العام انتقلت الأسرة وتركت مظروف مغلق به ثلثمائة روبية تحت باب بيبي. لم نعرف عنهم أي أخبار بعد ذلك. كان بحوذة أحدنا عنوان لأحد أقارب بيبي في حيدر آباد، فكتبنا له خطاب نستفسر عن الوضع. عاد الخطاب إلينا دون أن يفتح، لم ستدل على العنوان. قبل حلول الأسابيع الأكثر برودة، اصلحنا قفل مصراع نافذة المخزن ووضعنا لوح من القصدير على إطار الباب، وبذلك يتوفر لها على الأقل بعض الخصوصية. تبرع أحدنا بمصباح كيروسين، وأعطاها أخر ناموسية قديمة وزوج من الجوارب بدون كعوب.
في كل فرصة نذكرها إننا حولها، وان عليها فقط ان تأتي إذا احتاجت لنصيحة أو أي مساعدة. لفترة كنا نرسل أطفالنا ليلعبوا على السطح في أوقات الظهيرة، وبذلك يحذرونا إذا انتابتها نوبة أخرى. لكن في الليل كنا نتركها بمفردها. مرت بضعة أشهر. انسحبت بيبي في صمت عميق وممتد. كنا نتبادل الأدوار في تقديم صحون من الأرز وأكواب من الشاي إليها. كانت تشرب القليل وتأكل أقل، بدأت في الاستسلام لتعبير لا يناسب عمرها. في الغروب تدور حول الدرابزين مرة او أثنين. لكنها لم تترك السطح أبدا. وفي المساء تبقى خلف لوح القصدير ولا تخرج لأي أسباب. لم نزعجها. تساءل بعضنا إذا كانت رحلت عن الحياة. استنتج الأخرون إنها فقدت عقلها.
في أحد صباحات شهر أبريل، عندما عاد الحر مرة أخرى ليجفف رقائق العدس على السطح، لاحظنا أن أحد ما تقيأ بجانب صنبور الحوض. كما وجدنا هذا في اليوم التالي أيضا، فطرقنا باب بيبي القصديري. ولما لم نجد أي استجابة، قمنا بفتحه بأنفسنا. حيث لا يوجد أقفال ليحكم إغلاقه. وجدناها ملقية على سرير المعسكرات. كانت حامل في الشهر الرابع تقريبا. قالت إنها لا تتذكر ما حدث. لك تخبرنا من فعل هذا. أعددنا لها السميد مع الزبيب المنقوع في اللبن الساخن، لكنها لم تكشف عن شخصية الرجل. عبثا بحثنا عن أثار للاعتداء، بعض ما يشير على اقتحام، لكن الحجرة كانت منظفة بعناية. على الأرض بجانب الفراش، دفتر قائمة الجرد، مفتوح على صفحات جديدة مدون بها قائمة من الأسماء. حملت الطفل التسع أشهر كاملة. وفي إحدى ليالي سبتمبر، ساعدناها في ميلاد الطفل. وضحنا لها كيف تطعمه، وكيف تهدئه لينام. اشترينا لها  مشمع وساعدناها في خياطة الملابس وأغطية للوسادات من الأقمشة التي حفظتها على مر السنين. في خلال شهر، استرددت بيبي عافيتها بعد الولادة، وطلت المخزن باللون الأبيض من النقود التي تركها لها هالدار، ووضعت أقفال على النافذة والأبواب. ثم نظفت الأتربة من على الأرفف ورتبت بقايا مستحضرات التجميل، وباعت منتجات هالدار القديمة بنصف الثمن. طلبت منا أن نذيع خبر فتح المتجر من جديد، وفعلنا. ابتاعنا منها الصابون والكحل، الأمشاط والبودرة. عندما باعت أخر بضائعها، ذهبت بتاكسي إلى متجر البيع بالجملة، استخدمت ربحها في شراء مستحضرات جديدة وإعادة ملأ الرفوف. وبهذه الطريقة ربت الطفل وعملت بتجارتها بالمخزن، وفعلنا ما بوسعنا لمساعدتها. لسنوات بعد ذلك، تساءلنا من ببلدتنا ألحق العار بها. استجوبنا بعض خدامنا، في أكشاك الشاي ومحطات الحافلات ناقشنا المشتبه بهم وطردناهم. لكن لم يكن هناك أهمية لمتابعة التحقيق. على حد معرفتنا، لقد شفيت تماما. 

نُشر في موقع داما - أبريل 2015