كانت الكتب وقصصها هم الشيء الوحيد الذي شعرت بإمكانية تملكه حين كنت طفلة.
ومع ذلك لم تك ملكية بالمعنى الحرفي؛ فلقد كان والدي أمين مكتبة. ربما لأنه آمن
بالملكية العامة أو ربما لأن والداي اعتبرا شراء الكتب ما هو إلا تبذير، أو ربما
لأن الناس بشكل عام كانوا يكسبون بشكل أقل مما يفعلون الآن، لهذه الأسباب لم أك
أملك الكتب. اتذكر شعوري بالشغف، عندما سُمح لي أخيرا بإمتلاك كتاب لأول مرة. كنت
حينها في الخامسة أو السادسة من عمري. كان كتابا مصغرا، حوالي أربع بوصات على هيئة
مربع، وكان عنوانه "لن تحتاج أبدا للبحث عن أصدقاء". كان مختبئا بين
الحلوى الصغيرة والأوراق اللاصقة الملونة بالمتجر القديم عبر الشارع، بجوار منزلنا
القديم في رود ايلاند. كانت حبكته تافهة، عبارة عن بطاقات ترحيب ممتدة أكثر منها
قصة. ولكني مازلت أتذكر حماسي عندما اشترته أمي من أجلي وجلبته معها للمنزل. داخل
الغلاف الأمامي، كان هناك خط أسفل الإعلان "هذا الكتاب خصيصا إلى"
لكتابة إسم الشخص المهدى إليه الكتاب. كتبت أمي إسمي عليه، ووقعت في النهاية بكلمة
"والدتك" ليكون إهداء منها إليَ، على الرغم من إني لا اناديها بوالدتي
بل ماما. كانت كلمة "والدة"
كأنها نائب لولي أمري. ولايزال ذلك الكتاب، الذي جائني منذ ما يقرب من 40 عام،
موجود في خزانة الكتب في غرفة طفولتي.
لم يك منزلنا يخلو من ما يمكن قرائته، ولكن العروض كانت شحيحة، وكانت غير
مهمة لي. كان هناك كتب عن الصين وروسيا التي قرأها أبي أثناء دراسته بالعلوم
السياسية. بعض أعداد مجلة تايم التي يقرأها في أوقات الاسترخاء. أما أمي فكانت
تحتفظ بالروايات ومجموعات القصص القصيرة وكومات من مجلة داش الأدبية، ولكنهم كانوا
باللغة البنغالية، حتى عناوينهم كانت عصية عليَ. كانت تحتفظ بهم على أرفف معدنية
بالدور السفلي، أو بجانب سريرها. أذكر المجلد الأصفر للشاعر نذر الإسلام، والذي
بدت أشعاره ككتاب مقدس بالنسبة لها، والقاموس الضخم المهتريء ذو الغلاف الكستنائي
الذي تستخدمه في ألعاب الكلمات المتقاطعة. في مرحلة ما، اشترينا المجلدات الأولى
القليلة من مجموعة موسوعات حيث كان أحد المتاجر يروج لهم، ولكننا لم نكمل المجموعة
أبدا. كان شرائنا للكتب يتم بشكل عششوائي وغير منظم، كما كان الحال في بعض جوانب
حياتنا المادية. وكنت أرغب في النقيض: منزل به كتب ذات حضور قوي، متراكمة فوق كل
شئ ومنظمة بمرح فوق الجدران. في بعض الأحيان، كانت جهود أسرتي لملأ منزلنا بالكتب
محبطة؛ كان هذا عندما بدأ أبي بتركيب القضبان والأقواس لعقد مجموعة من الأرفف
الزيتية اللون. وفي غضون أيام قليلة، تهشمت الأرفف لأن جدران المنزل القائمة منذ
فترة الإستعمار بالسبعينات، مصنوعة من الجص ولم تستطع تحملهم.
كل ما كنت أبح عنه هو طريق أفضل وأكثر تمييزا لحياة والداي الفكرية، مثل
دليل مطبوع وموثق لما يقرأون، ما يلهمهم ويشكل عقولهم. شئ يمثل اتصال بيني وبينهم
من خلال الكتب. ولكنهم لم يهتموا بالقراءة لي أو حتى بقصص القصص. لم يك أبي يقرأ
الأدب، والقصص التي ربما أثارت خيال أمي حين كانت طفلة بكلكتا، لم تورثها لي.
تجربتي الأولى في سماع الحكايات جهارا، كانت في المرة الوحيدة التي قابلت فيها جدي
لأمي، حينها كنت في الثانية من عمري، خلال زيارتي الأولى للهند. كان مستلقي على
فراشه. وضعني على صدره وبدأ في اختراع القصص. ما عرفته فيما بعد إننا بقينا ساهرين
بمفردنا بعد نوم الجميع، وتوسع هو في الحكايات لأني صممت إنها بلا نهاية.
كانت البنغالية لغتي الأولى، كنت أتحدثها وأسمعها بالمنزل. لكن الكتب أثناء
طفولتي كانت بالإنجليزية، وكانت موضوعاتها على الأغلب عن الحياة الإنجليزية أو الأمريكية.
كنت واعية بمشاعر الخطيئة، كنت مدركة أني لا انتمي لهذان العالمان اللذان أقرا
عنهما. فحياة أسرتي كانت مختلفة، طعام مختلف على مائدتنا، وأجازات مختلفة نحتفل
بها. كان والداي حريصان ومرتبكان تجاه الأشياء المختلفة عن مجتمعهما. ولكن عندما
أمسك كتاب بيدي وأقرأه، أتماهى معه. أدخل في علاقة صافية مع القصة وشخصياتها. حينها،
استقبلت العالم الأدبي كما لو كان عالما ماديا، سكنت به بشكل كامل، مغمورة وغير
مرئية في آن.
كفتاة صغيرة، كنت أخاف من المشاركة في الحياة الإجتماعية. كنت قلقة من تصرف
الأخرين معي وأتساءل كيف سيرونني. لكن عندما قرأت، تحررت من ذلك القلق. لقد علمت
الكثير عن أصدقائي الخياليين، مااذا يأكلوا أو يرتدوا وكيف يتحدثوا. عن الدمى
المتناثرة بحجراتهم، وكيف يجلسوا بجانب المدفأة في الليالي الباردة ليحتسوا أكواب
الشيكولاتة الساخنة. كما عرفت مواعيد أجازاتهم، ونوع التوت الذي يلتقطونه، ومربى
الفاكهة التي تقلبها أمهاتهم فوق الموقد. بالنسبة لي، كان فعل القراءة وسيلة
لاكتشاف الغرائز الأساسية – واكتشاف الثقافة التي كانت غريبة بالنسبة لوالدي. وبدأت
في تحديهم بهذه الطريقة، بدأت أفهم الأشياء التي لا يعرفونها من خلال الكتب. كانت
كل الكتب التي اشتريها على حسابي الخاص ملكية تامة لي. وهكذا شعرت إني لم أك على
خطيئة فحسب، ولكن بشكل ما، شعرت إني أخون الشخصين اللذين ربياني.
كانت الكتابة بمثابة وسيلة اتصال عندما بدأت في تكوين الصداقات. كانت
الكتابة في البداية مثل القراءة، محاولة للتواصل مع الآخرين أكثر من كونها سعي
انفرادي. لم أك أكتب بمفردي، ولكن بصحبة تلميذ آخر بنفس صفي الدراسي بالمدرسة. كنا
نجلس سويا، نحلم بالشخصيات الوهمية والحبكات، ونتبادل الأدوار في كتابة مقاطع من
القصة، ونمرر الورق ذهابا وإيابا بيننا. كانت
الكتابة باليد هي الشيء الوحيد الذي يفصلنا، الطريقة الوحيدة التي تحدد لمن هذا
المقطع. كنت دائما أفضل الأيام الممطرة أكثر من المشرقة، فيمكننا أن نجلس بالداخل
كمخبأ، في الرواق مثلا، ونشحذ تركيزنا. ولكن حتى في الأيام الجميلة، كنت دوما أجد
مكان ما لأجلس تحت شجرة أو على حافة صندوق الرمال مع هذا الصديق. في بعض الأحيان أجلس
مع عدد آخر من الأصدقاء، لنكمل كتابة قصصنا. كانت تلك القصص تكرار صريح لما كنت
اقرأه في ذلك الوقت: عائلات تعيش في المراعي، فتيات يتيمات يرسلن إلى مدارس داخلية
أو تقوم المربيات القاسيات بتعليمهن، وأطفال يتمتعوا بقوى خفية، أو لديهم القدرة
على الإنزلاق من خلال الخزانات إلى عوالم بديلة. كانت قراءاتي هي مرآتي، ولم أر أي
جوانب أخرى من نفسي.
قادني حبي للكاتبة إلى السرقة في تلك المرحلة المبكرة من العمر. كانت
الدفاتر الفارغة في الخزانة الخاصة بمعلمي مثل الألماس بمتحف. دفاتر مرصوصة في
صفوف أنيقة. خططت وكسرت القواعد للحصول
عليها، رغم إنها وزعت علينا لنكتب بها الجمل أو التمارين رياضية. كانت تلك الدفاتر
قليلة الورق، متشابكة معا، غير مميزة، وألوانها إما أزرق فاتح أو متمازج بين البني
والأصفر. كانت صفحاتها مسطرة، وأبعادها ليست ببالغة الصغر أو الكبر. أردت الحصول
عليها لأدون بها قصصي، وشحذت جرأتي لأطلب من معلمي واحد أو أثنان. ولكني حين علمت
أن خزانته لم تكن دائما مغلقة أو حتى مراقبة، بدأت في إعانة نفسي بإمدادات سرية.
في الصف الخامس، فزت بجائزة صغيرة عن قصة عنوانها "مغامرات ميزان"،
كان الراوي يصف مجموعة مختلفة من الشخصيات والمخلوقات الأخرى التي تزور الميزان.
وأخيرا يصف مدى ثقل وزن العالم، وتهشم مقياس الرسم، وإلقائه في النفايات. كانت القصة
مزودة برسومات، في الحقيقة كانت كل قصصي كذلك، وكنت أجمعهم معا بالخيوط
البرتقالية. عُرض الكتاب بشكل مختصر في مكتبة المدرسة، وزود ببطاقة فعلية وغلاف. لم
يقم أحد باستعارته، ولكن لم يك هذا هاما. ففعالية البطاقة والغلاف كافيين بالنسبة
لي. كانت الجائزة تتضمن تذكرة هدية للمكتبة المحلية، لأشتري كل ما أريد من الكتب،
وأزعجتني حيرتي. لساعات، أو كما بدا لي، كنت أتجول بين الأرفف بالمكتبة. وفي النهاية، اخترت كتاب لم أسمع عنه من قبل،
هو "قصص روتباجا" للشاعر الأمريكي كارل ساندبيرج. أردت أن أحب مجموعته،
لكن أسلوب سردها القديم وقف حيال ذلك. فاحتفظت به كتميمة، ربما كاعتراف أولي. كنت
أشعر إنه يتحدث إليَ في صيغة أمر إلزامي مثل الرقعة التي اكتشفتها أليس فوق الكعك
والزجاجات تحت الأرض؛ كان الصوت في عقلي يقول: "أفعلي هذا".
كلما كبرت أثناء مراهقتي وما بعدها، تقلصت كتاباتي. كأنها تناسب عكسي مع سنوات
حياتي. رغم أن الإلزام بكتابة القصص قد بقى، لكن أضعفته الشكوك الذاتية. لذلك قضيت
النص الثاني من طفولتي أشعر بتسرب المساحة الآمنة التي كنت أعرفها. تحول النشاط
الغزيري السابق وهو الكتابة إلى شيء شائك لا أستطيع لمسه. أقنعت نفسي أن الكُتاب
المبدعون هم الآخرون، وإني لست منهم. وأنتهى الأمر أن ما أحببته عندما كنت في
السابعة، أصبح في السابعة عشر أكثر ما يرعبني. بدأت أفضل العزف الموسيقي والتمثيل
المسرحي، أتعلم النوتة الموسيقية أو اتذكر خطوط مخطوطة ما. استمر العمل بالكتابة، لكني
وجهت طاقتي للمقالات، وأردت أن أكون صحفية. في الجامعة، حيث درست الأدب، قررت أن أكون
أستاذ في اللغة الإنجليزية. في الواحدة والعشرين أصبحت الكاتبة التي احتجزها
بداخلي قلقة كذبابة بالغرفة، كنت على قيد الحياة ولكني أشعر بالدونية وإني بلا
هدف. كان دائما هناك شيء ما يكدر صفوي، كلما نضجت كلما كنت أكثر وعيا به، وجعلني
كل هذا أشعر بالوحدة. لم أك على المسرح حتى أقلق من رفض الآخرين لي. كان عدم
الإستقرار هو السائد، وكنت على ثقة إني رفضت نفسي بالفعل قبل أن يأخذ أي شخص آخر
هذه الفرصة.
قي أوقات كثيرة من حياتي وددت لو أكون أشخاص آخرين؛ وهنا المأزق الرئيسي والسبب
وراء ركودي الإبداعي أو هكذا أعتقد. كنت دائما لا أُشبع تطلعات الناس حولي: والداي
المهاجران، أقاربي الهنود، زملائي الأمريكان، وفوق كل هذا أنا. وأرادت الكاتبة
التي بداخلي أن تصحح مساري. لو فقط زاد أو قل شئ من هذا، لاختفت تلك العلامة
النجمية التي تصاحبني. لطالما أردت أن تكون نشأتي، تلك التوليفة المختلفة والمعقدة
لنصفي الكرة الأرضية، تقليدية وقابلة للإحتواء. أردت أن أكون مجهولة وغير مميزة،
حتى أبدو مثل الآخرين، لأسلك مسلكهم. لأتوقع مستقبل بديل، وأحصل على انطلاقة من
ماض مختلف. كان هذا إغواء للارتياح من فكرة محو هويتي واعتماد هوية أخرى. كيف
أمكنني التمني أن أصبح كاتبة، أقول ما يختلج بداخلي، بينما أتطلع لأكون شخص آخر
غيري؟
لم أك على طبيعتي لأكون حاسمة. لقد اعتدت أن انتظر الاخرين لتوجيهي،
ليأثروا بي، وأحيانا لتلقي الإشارات الأساسية للحياة. في رأيي أن كتابة القصص هي
من أكثر الأفعال الحاسمة التي يمكن لشخص فعله. فالأدب هو فعل التعمد، جهد مدروس
لإعادة التخيل، وإعادة الترتيب، لإعادة تشكيل اللاشيء من واقع الحياة نفسها. حتى
بين أكثر الكُتاب ترددا وريبة، لابد لذلك التعمد أن يظهر. فكونك كاتب يعني أن تقفز
من فعل الاستماع إلى قول لمن أمامك: "استمع إليَ".
كان هذا عندما تلعثمت، كنت أفضل الاستماع أكثر من التحدث، لأرى بدلا من
أكون مرئية. كنت خائفة من سماع نفسي أو من النظر إلى حياتي.
افترضت أسرتي إني سأحصل على شهادة الدكتوراه. لكن بعد تخرجي من الجامعة،
والتوقف عن كوني طالبة لأول مرة، وترك الكيان والنظام الذي لطالما عرفته ورائي،
انتقلت إلى بوسطن. تلك المدينة التي لا أعرفها جيدا. هناك عشت في حجرة بمنزل به
أشخاص لا يربطني بهم شيء، من كان يهتم لأمري هو من يتلقى الإيجار. وجدت عمل
بمكتبة، حيث أقوم بفتح الشحنات وأدير السجل النقدي. صادقت فتاة تعمل هناك. كانت
أبنة شاعر يُدعى بيل كوربت. وبدأت في التردد على منزل كوربت، الممتليء بالكتب
والفنون. شعر مؤطر للشاعر شيموس هيني، ورسومات للرسام فيليب جاستون، ولوحة لضريح
عزرا باوند. ورأيت المكتب حيث يكتب بيل، مغمور بالمخطوطات الكتابية، الخطابات
والمطبوعات، في منتصف حجرة المعيشة. رأيت أن العمل الذي يجري على هذا المكتب كان
إلزاميا ولكن ليس لأحد، وليس على اتصال بمؤسسة ما. كان المكتب كجزيرة، وبيل يعمل
بها لصالحه. قضيت فترة الصيف في هذه المنزل، قرأت به أعداد من مجلة باريس ريفيو.
وعندما اختليت بنفسي في الحجرة الساطعة بالدور العلوي، نقرت المخطوطات والمقطوعات
على الآلة الكاتبة.
بدأت أرغب في أن أكون كاتبة. في البداية، بدلت الصفحات مع شخص آخر سرا. كانت
لقائتنا المجدولة تجبرني على الجلوس وكتابة شيء ما. كنت اتسلل إلى المكتب حيث أعمل
في الأجازات الأسبوعية والليل، لأكتب القصص على جهاز الكمبيوترـ تلك الآلة التي لم
تك بحوزتي في ذلك الوقت. ابتعت نسخة من "سوق الكاتب" وأرسلت قصصي إلى
مجلات صغيرة كانت تعيد إرسالها إلي. في العام التالي، التحقت بالجامعة، ليس ككاتبة
ولكن لأدرس الأدب الإنجليزي. لكن وراء هدفي العلمي المعلن غرض مختلف. تعودت أن أمر
كل يوم على المكتبة في طريقي للقطار. كانت واجهة المتجر تعرض العشرات من عناوين
الكتب التي دائما أقف لأراهم. كان بينهم كتب لليزلي ابستين، ذلك الكاتب الذي لم
أقرأ له بعد ولكني سمعت إسمه، وهو مدير برنامج الكتابة بجامعة بوسطن. ويوم ما، على
سبيل المزاح، دخلت إلى قسم الكتابة الإبداعية وطلبت الإذن أن أحضر الصف.
كان تهور مني، تقريبا ما يعادل سرقة الدفاتر من خزانة معلمي قبل عقدين. فُتح
الصف للطلاب الكُتاب فحسب، لذلك لم انتظر استثناء من ابستين. بعدها عملت بجد لأحصل
على مكان رسمي في برنامج الكتابة الإبداعية بالعام اللاحق. عندما أخبرت والدي إن
تم قبولي، بمنحة جامعية، لم يدعمونني أو يثبطون عزيمتي. مثل الكثير من جوانب حياتي
الأمريكية، ففكرة الحصول على شهادة في الكتابة الإبداعية، الذي يمكن أن يكون طريق
قانوني للدراسة، ربما بدا لهم أمرا تافهة. ومع ذلك، فإن الشهادة تظل شهادة، لذلك
كان رد فعلهم إزاء قراري هو البقاء على الحياد. رغم إني صححت لأمي، في البداية، عندما
أشارت إليه ببرنامج الكتابة النقدية. أما والدي، فخمنت إنه يأمل أن يكون هذا مفيدا
لشهادة الدكتوراه.
كانت أمي أحيانا تكتب قصائد شعرية. كتبتهم في البنغال ونشرتهم بين الحين
والآخر في المجلات الأدبية بنيوانجلاند أو كلكتا. كانت تبدو فخورة بمجهوداتها،
ولكنها لم تدعي أبدا إنها شاعرة. وكلا من والدها وأخيها الصغير، كانا فنانان
تشكيليان. وكانا مشهوران بأعمالهما
الإبداعية، كما وصفتهما لي. كانت أمي تتحدث معهما بوقار. حكت لي عن اليوم الذي
اضطر به والدها إلى حضور امتحانه النهائي بالجامعة الحكومية للفنون بكلكتا، وكان
حينها مصاب بحمى وحرارته مرتفعة. لم يك قادرا سوى على إتمام جانب من بورتريه كان
مطلوبا منه أن يرسمه بالكامل. رسم الفم والذقن فقط ولكنه فعل ذلك بحرفية مكنته من
التخرج مع مرتبة الشرف. جلبنا ألوانه المائية من الهند، وضعنها في إطار، ونعرضها
على الزوار. مازلت إلى اليوم احتفظ بأحدى ميدالياته في صندوق مجوهراتي، واعتبره
منذ الطفولة تميمة تجلب لي الحظ السعيد.
قبل زيارتنا لكلكتا، كانت أمي تقوم بجولات خاصة لمتجر فني لتشتري فرش وورق
وأقلام واطارات لوحات طلبهم أخيها منها. كانا جدي وخالي يكسبان رزقهما عن طريق
الفن التجاري. كانت لوحاتهم لا تجلب سوى القليل من الأموال. توفي جدي عندما كنت في
الخامسة من عمري، ولكن لدي ذكريات قوية مع خالي. كان يعمل على طاولته في الركن في
شقته الصغيرة المؤجرة حيث ترعرعت أمي. يعد التصميمات لعملائه الذين يأتوا للمنزل
ليناقشوا أفكاره. كان يجلس طوال الليل حتى يتم عمله. واستنتجت أن جدي لم يكن ميسور
الحال أبدا، كما أن عمل خالي كان كذلك غير مستقر. أن تكون فنان، بالرغم من إنه أمر
نبيل ورومانسي، ولكنه لم يكن شيء عملي أو جاد لتقوم به.
الميزان والساحرات والأيتام المهملة: كانوا جميعا مواضيع كتابتي أثناء
الطفولة. كطفلة، كنت أكتب حتى أتواصل مع نظرائي. لكن عندما بدأت في كتابة القصص مرة
أخرى، في العشرينات، كانا والداي هما من أناضل كي أصل إليهما. في عام 1992، قبل
بدء برنامج الكتابة بجامعة بوسطن مباشرة، ذهبت إلى كلكتا مع عائلتي. عندما عدنا إلى
أمريكا بنهاية فصل الصيف، استلقيت في فراشي، وشرعت فورا في كتابة أول قصة وسلمتها
في ذلك العام لورشة الكتابة. كانت أحداثها تدور في المبنى الذي ولدت به أمي، والذي
قضيت به معظم وقتي عندما كنت في الهند. في إمكاني الآن أن أرى دوافعي لكتابة هذه
القصة، وعدة قصص مشابهة تبعتها، كانوا لإثبات شيء ما لوالدي: أن في إمكاني فهم
العالم الذي أتوا منه، بطريقتي الخاصة، وبكلماتي الخاصة المحدودة لكنها دقيقة. لقد
ربياني، وعاشا معي يوما بعد يوم، لكني أدركت إني غريبة بالنسبة لهم، كنت طفلة
أمريكية. بالرغم من مدى قربنا، خشيت أن أكون كائن فضائي. كان هذا قلق مسيطر علي،
عانيت منه أثناء نضجي.
كنت الطفلة الأولى لوالدي. وعندما كنت في السابعة من عمري، أصبحت أمي حبلى
مرة أخرى، وأنجبت أختي في نوفمبر عام 1974. وبعدها بعدة أشهر، أخبرتها صديقة
بنغالية من أقرب صديقاتها، إنها تنتظر مولودا كذلك. يعمل زوج المرأة، مثل أبي،
بالجامعة. وبناء على توصيات أمي، ذهبت صديقتها إلى نفس الطبيب وخططت للولادة في
نفس المشفى حيث وُلدت اختي. وفي إحدى الليالي الممطرة، تلقى والداي مكالمة من
المشفى. كانت المرأة تبكي على الجانب الآخر من الهاتف وتخبر أمي إن طفلها ولد
ميتا. ولا يعرفون سبب ذلك. وأن هذا الأمر حدث ببساطة، كما يحدث أي شيء. أتذكر
الأسابيع التالية، كانت أمي تطهو الطعام وتذهب به إلى الزوجين الصديقين، واتذكر
الحزن الذي ملأ منزلهما بدلا من الطفل. إذا كانت الكتابة هي رد فعل على الظلم أو
البحث عن المعنى عندما يغيب، فلقد كانت هذه تجربتي الاستباقية. أتذكر تخيلي أن هذا
كان من الممكن حدوثه لوالدي ليس لأصدقائهما، وأتذكر احساس الخجل لأن هذا لم يحدث
لنا أيضا، كانت أختي حينها بلغت العام الأول من عمرها. ولكن على الأغلب، شعرت
بغياب العدل – وإحباط توقعات الزوجين التي لم تتحقق.
وانتقلنا لمنزل جديد أشرفنا على بنائه في حي مختلف. لاحقا، انتقل الزوجان
الصديقان لنفس الحي. واستخدما نفس المقاول لبناء منزل مجاور لمنزلنا، وبنوا
منزلهما بنفس المواد ونفس التخطيط، لذلك أصبحا المنزلين متطابقين تماما. وأشار
الأطفال الآخرين بالحي الذين يطوفون في الشوارع فوق درجاتهم وأحذية التزلج، إلى
التطابق بين المنزلين ووجدوه أمرا مضحكا. وتسائلوا إذا كان كل الهنود يعيشوا في
بيوت متطابقة. كنت أشعر بالامتعاض حيالهم، لأنهم لا يعرفون ما أعرفه انا حول خسارة
الزوجين. وفي نفس الوقت شعرت بالحنق تجاه الزوجين، لأنهم بنوا منزلهما بنفس
طرازنا، وادعائهما أن حيواتنا مماثلة بينما هذا غير صحيح. بعد سنوات قليلة، تم بيع
المنزل، وانتقل الزوجان الصديقان لمدينة أخرى، وبدلت عائلة أمريكية واجهته لذلك لم
يصبح مماثل لمنزلنا بعد ذلك الوقت. ونسى أطفال الحي التطابق الهزلي بين منزلي
الأسرتين البنغاليتين في روود ايلاند. ولكن أرواحنا لم تكن متطابقة. لم أستطع
نسيان ذلك أبدا.
عندما أصبحت في الثلاثين من عمري، كنت متعمقة في التركيبة المفككة لقصة
جديدة، كتبت قصة عن أول شئ مأساوي استطعت تذكره وعنونتها بـ "أمر مؤقت".
ليست قصة ما حدث بالظبط للزوجين، كما إنها ليست ما حدث لي أيضا. لكنها كانت انطلاقة
من طفولتي، جزء مني يعود ببطء إلى أكثر ما أحببته عندما كنت صغيرة. كانت هذه أول
قصة أكتبها كبالغة.
والدي الذي شارف الثمانين عام، لايزال يعمل أربعون ساعة بالأسبوع بالجامعة
بروود ايلاند. كان دائما يبحث عن الأمان والاستقرار في وظيفته. لم يك راتبه أبدا
ضخم، ولكن دعم أسرته التي لم تتطلع لشيء. كطفلة، لم أك أعي حينها المعنى الدقيق لـ
"التثبيت في العمل"، ولكن عندما ناله أبي استشعرت ما يعنيه ذلك بالنسبة
له. خططت لأمشي على خطاه، وأن أسعى لمهنة تمدني بأمان واستقرار مشابه. لكن في
اللحظة الأخيرة ابتعدت خطواتي، لأني أردت أن أصبح كاتبة بدلا من ذلك. كان من
الضروري الخطو بعيدا، وما كان أيضا محفوفا. حتى بعد استلامي جائزة البوليتزر،
ذكرني أبي أن كتابة القصص ليست العمل الذي نعتمد عليه، وأن لابد دائما أن أخطط
لكسب عيشي بطريقة أخرى مختلفة. سمعته ولكني لم أنصت، لقد تعلمت أن أهيم على وجهي
حتى الحافة ثم أقفز. وهكذا، بالرغم من أن وظيفة الكاتب أن ينظر ويستمع، حتى يصبح
كاتب، إلا إنني علي أن أكون صماء وعمياء.
أرى الآن أن والدي بكل تطبيقاته العملية، انجذب نحو حافته الخاصة جدا أيضا.
فلقد ترك وطنه وعائلته، وجرد نفسه من طمأنينة الشعور بالانتماء. في رد فعل، لمعظم
حياتي، أردت أن أنتمي إلى مكان ما، سواء المكان الذي أتى منه والداي أو أمريكا. وعندما
أصبحت كاتبة، أصبحت طاولتي هي وطني؛ ولست في حاجة إلى هوية أخرى. فكل قصة هي أرض
غريبة، احتلها أثناء عملية الكتابة ثم انبذها. أنا انتمي لعملي، لشخوصي، وحتى أخلق
آخرين أترك القدامى ورائي. أحاول بالكتابة أن اجتاز رفض والداي الذهاب أو الانتماء
لأي مكان في قلب كينونتي. أما رفضي الخاص فهو إني ولدت من رحم عجزي عن الانتماء.
عن ذا نيويوركر
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015
عن ذا نيويوركر
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015
No comments:
Post a Comment