Wednesday, April 8, 2015

وجه العنزة


عرض لكتاب بعد الجنازة، لديانا آتهيل، فبراير ١٩٨٦
د. أهداف سويف
 اللندن ريفيو أوف بوكس في ٣ يوليو ١٩٨٦

النص بالعربية: أهداف سويف وأميمة صبحي

في عام ١٩٦٤، قامت دار أندريه دويتش بنشر رواية وجيه غالي الرائعة "بيرة في نادي البلياردو، فجذبت الاهتمام ونالت نقدا وعروضا متحمسة. وهذا ما حدث أيضا عند صدور طبعتها الثانية في سلسلة Penguin New Writers في عام ١٩٦٨. وفي مساء ٢٦ ديسمبر من العام نفسه كتب غالي في يومياته:
"سأنتحر الليلة. لقد آن الأوان. أنا بالطبع ثمل. لو لم أكن لكان القرار صعبا جدا جدا.(أعترف بأن هذه كتابة ثملة). ولكن ماذا بوسعي أن أفعل يا أعزائي؟ يا من أحبهم؟ لا شيء، فعلا لا شيء.  

ابتلع ٢٦ قرصا منوما اختلسها من علبة دواء أحد الأصدقاء:
واللحظة الأكثر درامية في حياتي  اللحظة الحقيقية الوحيدة  لا ترقى إلى ما توقعت. لقد ابتلعت موتي بالفعل، ويمكنني تقيؤه إن أردت. ولكن، وبكل الصدق والإخلاص: حقيقة لا أريد. هذا من دواعي سروري. لا أقوم بهذا الفعل بحزن أو تعاسة، بل بالعكس، في سعادة وحتى في (حالة وكلمة طالما أحببتهما) سكينة، نعم في سكينة.

كان من حق وجيه غالي تماما أن يحب السكينة التي راوغته طوال الأربعين عاما التي عاشها. وُلِد غالي مسيحيا  في مصر ذات الأغلبية المسلمة، وفي طبقة اجتماعية ثرية في زمن ثورة اشتراكية، وتعلم في مدرسة إنجليزية في وقت صحوة قومية - أضف إلى ذلك أنه كان الفرد الوحيد المعدم في أسرة شديدة الثراء.

رام، البطل في رواية "بيرة في نادي البلياردو"، يشارك مؤلفه في خلفيته وسيرته الذاتية. شخصية مليئة بالتناقضات: شاب فقير يعيش حياة مرفهة على حساب عائلته:“كون خالاتي ميسورات الحال جداً وأمي ليست كذلك لم يخطر لي على بال. كنت أطفو على سطح ذلك التيار الثري، أرتدي ملابس فاخرة مثل بقية الأطفال وأذهب إلى نفس المدرسة. منغمس في الثقافة الإنجليزية ويشارك في أنشطة معادية لبريطانيا. يتظاهر ضد الاحتلال  أهتف الجلاء! الجلاء! مع الجموع، دون أن أفهم بدقة أهمية الجلاء"– وتتطور المظاهرات إلى رحلات للسويس للإشتباك مع القوات البريطانية المتمركزة هناك. يعتمد مادياً على أسرته ويمقت الوسائل التي كونوا بها ثروتهم، يجيب، مثلا، على صديقة قديمة للأسرة تسأله إن كان قد دخل عالم الأعمال بأنه اكتشف طريقة مبتكرة لاستغلال الفلاح؛ كل ما أحتاج إليه الآن هو رأس المال. تحذره السيدة: “لا تمزح في هذه الأمور يا حبيبي، وهو بالفعل لا يستطيع التمادي في المزاح لأن الأسرة والتربية غرستا فيه إدمان الحياة المرفهة بما فيها من ملابس ماهرة التفصيل، ونبيذ جيد، وبعض المقامرة. ومع ذلك حين تأتي الثورة في ١٩٥٢ يندمج فيها بكل قلبي وبتلقائية تامة، بدون أي تعصب ولا هدف منظور .. الإشتراكية، الحرية، الديمقراطية.. نعم، هذا ما كانته الثورة المصرية. كل ما نأمله من خير ستقوم به الثورة". وفي نفس الوقت، كان تعليمه في إحدى المدارس الإنجليزية بالقاهرة، وقراءاته الواسعة (وهنا يكمن اختلافه الأساسي عن طبقته الاجتماعية) يؤديان لشعوره بعدم الاستقرار، بالرغبة في الحركة.

كان عالم الشتويات ذات الثلج والجليد، عالم الأسقف الحمراء المائلة، قد بدأ ينادينا. عالم المثقفين وقطارات الأنفاق والشوارع المرصوفة بالبلاط والريف الأخضر، ذلك العالم الذي لم نكن قد رأيناه بعد كان يشير لنا أن نأتي. العالم الذي يسكن فيه الطلاب في غرف ذات طابع ومسميات خاصة، ويتصادقون على فتيات الآلات الكاتبة ويشربون البيرة في أكواب ضخمة وينشدون الأغاني كان يصيح لنا أن تعالوا. عالم تخيُّلي كامل. مزيج من كل مدن أوروبا؛ تتداخل فيه حانات بريطانيا ببارات باريس ويؤدي شارع بيكاديللي فيه إلى الشانزليزيه؛ فيه عمال المناجم شيوعيون ورجال البوليس فاشيون؛ فيه شئ إسمه البرجوازية وشخص يُطلق عليه صاحبة البيت؛ فيه فنادق الـجراند هوتيلومصانع سيارات الفيات ومصارعة الثيران؛ فيه تعرف الأمريكي من شكله المختلف والأناركيون يطلقون لحاهم وتجد شيئا إسمه اليسار؛ وفيه تعيش أسرة كريستوفر إشروود الألمانية ويحظى المواطن السويدي بأعلى مستوى معيشي ويسكن الشعراء في غرف فوق الأسطح وتوجد حمامات سباحة بداخل البيوت والمباني”.

هذا العالم الذي يصفه رام هو العالم الذي تخيلته أعداد كبيرة من المثقفين المصريين أصحاب التعليم الأجنبي، فتاقت إليه وبحثت عنه منذ بدء القرن العشرين وحتى عام ١٩٥٦. 

لم تكن حرب السويس وحدها هي ما نزع الغمامة عن عيني رام، هي في الواقع أكملت ما بدأته ساعات الانتظار في وزارة الداخلية البريطانية: 
كنا نقول هذا ليس كريكيت (أى ليس من أخلاق الرياضة)، ولا ندخن ونحن نرتدي زي المدرسة لأننا وَعَدنا ألا نفعل. زرعوا فينا توقع النزاهة من الإنجليز، وكانت هذه ظاهرة غريبة فينا، أن نتوقع النزاهة من الإنجليز في الوقت الذي بَعُدَت فيه تصرفاتهم تماما عن النزاهة. وربما - في احتجاجاتنا اللاحقة ضدهم - كان يكمن الاعتقاد بأنهم لو علموا أن ما يفعلونه ليس من أخلاق الرياضة في شئ لكفوا عنه. فبالرغم من كل الكتب التي قرأناها، والتي تبين - المرة تلو المرة - خبث وقسوة السياسة الخارجية لبريطانيا، كانت تجربة حرب السويس هي التي أقنعتنا في النهاية. وبالطبع فشعوب إفريقيا وآسيا مرت بخبرات السويس الخاصة بها من قبلنا، وأكثر من مرة. 

لم يحزم رام أمتعته ويعود إلى الوطن كما فعل الكثيرون، ظل في لندن وانضم إلى الحزب الشيوعي: إذا قرأ شخص كمية ضخمة من الأدب .. وكان شخصاً منصفاً وحنوناً ويهمه أمر البشر من جميع الأجناس، ولديه الوقت الكافي للتأمل، كما أنه صادق ومخلص، فإن هناك أمران ممكن أن يحدثا له: ينضم إلى الحزب الشيوعي ثم يتركه ويظل يشكو من نواقصه، أو يُجَنّ. ترك رام الحزب، ولم يشكُ من نواقصه، وعاد إلى مصر آملا أنه يستطيع أن يشارك بعمل مفيد. أن أقوم بالتدريس أو شيء مشابه، أو حتى أساعد بشكل ما في القرى". لكنه يجد أن الحياة هنا لم تتغير بالمرة .. أعني كيف أذهب للعمل في الظروف الصعبة للقرى بينما هو يتنقل في يخت فاروق الذي تتكلف صيانته فقط الملايين؟ وكل عمليات التأميم هذه مثيرة للضحك .. فالمال يذهب لذلك الجيش عديم الفائدة. حتى سد أسوان، عندما يتم بناؤه سيكون عددنا قد ازداد عشرة ملايين".

ينضم رام إلى منظمة سرية. مهمته أن يحصل على صور لضحايا التعذيب من معسكرات الإعتقال ويرسلها إلى الصحف القومية. الصحف، خاضعة للرقابة، لا تنشر الصور أبدا، ويمر رام بلحظة تنوير مرعبة يدرك فيها أن "بعض الصور لن تكون بهذه الوحشية لو لم نكن ندفع فيها مالا

في عام ١٩٥٨ يستسلم رام ويتزوج الشابة الجميلة الثرية، ديدي نخلة، التي كانت دائما تحبه. ومعها يجد "الطمأنينة التي بالكاد يصادفها أحد مثلي أو حتى يعرف بوجودها. يريدها، يقول، أن تضفي على بيتهم السكينة.

وفي عام ١٩٥٨، غادر مؤلف رام مصر للمرة الثانية، وفي الأغلب أن عائلته، بوضعها الاجتماعي وصِلاتها، تلقت معلومات أنه على وشك أن يُقبض عليه بسبب نشاطه السياسي. جاء إلى انجلترا التي - بالرغم من تحفظاته السياسية - ظلت البلد الوحيد، إلى جانب مصر - الذي يتصور الحياة فيه، البلد الوحيد التي تصور أنه يمكنه أن يشعر فيه بالانتماء. لكنه - حين انتهت صلاحية جواز سفره - وجد نفسه في ورطة، فقد رفضت السلطات المصرية  كما تفعل في مثل هذه الحالات  أن تجدد له الجواز وأعطوهكارنيها يصلح فقط للعودة إلى مصر، وفي مصر كان على الأرجح سيعتقل.

اختار غالي ألا يعود، ورفضت السلطات البريطانية  كما تفعل أيضا في مثل هذه الحالات  أن تسمح له بالبقاء في بريطانيا. أما الألمان، الذين كانوا في أوج برنامج إعادة إعمار بلادهم بعد الحرب، فلم يدققوا. وجد غالي عملا في ميناء هامبرج وبدأ في كتابة روايته. لكنه لم يرتح في التعامل مع الألمان؛ لم يجد مكانا للـقفش والسخرية المصرية، ولا للفهلوة والابتكار، ولا لمفهوم الجدعنة: "في الشتاء الذي أنهى فيه روايته كان يعيش في غرفة بدروم بلا تدفئة، إلى أن اكتشف وسيلة تمكنه من مد سلك كهرباء من المنزل المجاور إلى غرفته .. والمدفاة التي ارتجلها - وكان يفتخر بها - كانت لفة عنكبوتية من السلك ممدودة بين تكوينين بسيطين من الطوب. وبعد أن نجح في بيع روايته دق الباب على جيرانه وأخبرهم بما فعل وعرض عليهم أن يدفع ثمن الكهرباء فاستدعوا الشرطة". في عام ١٩٦١، دخل في مراسلات مع دار أندريه دويتش للنشر. ستصبح ديانا آتهيل المحررة المسؤولة عن روايته في الدار، وسيستكمل كتابها "بعد الجنازة" قصة وجيه غالي بدءا من حضوره حفلا في بيتها في عام ١٩٦٣ حيث كان في زيارة قصيرة إلى لندن.

أسلوب ونغمة آتهيل واضحان من الصفحة الأولى: تنظر للمؤلف من عليّ من قبل أن تلتقيه: صديقٌ ألماني وصفه بأنه كائن متواضع ورقيق كالغزال .. كنت منحازة للأجانب المضطهدين، وبالتالي فإن أجنبي مضطهد يشبه الغزال، ويتغاضى عن المعاناة ليرى الأمور بسخرية وفطنة كما ظهر في كتابه، سيعجبني طبعا.. سيكون صديقا. وسرعان ما نجد آتهيل تناظر نفسها حول ما إذا كانت ستقع في هوى هذا الصديق الجديد أم لا: بالطبع لن أحب وجه العنزة الصغير هذا أكثر من حبي للوك"  حبيبها القاطن معها  لكن الوقوع في الغرام لا علاقة له بالحب". المناظرة تنتهي على يد وجه العنزة الصغير الذي استجاب بدفئ لصداقتي .. وأوضح بما لا لبس فيه أنه لا يريد أكثر من ذلك".   

خلال العامين التاليين زادت حالة غالي النفسية واستقراره العاطفي اضطرابا وهشاشة، وكان مقتنعا أن هذا بسبب حياته بألمانيا، وأنه إذا "استطعت أن أبقى في لندن لثلاثة أو أربعة أشهر فبالتأكيد سأجد طريقة ما للتعامل مع موضوع تصريح العمل. سأجد عملا وسأكون بخير. هذا المكان يقتلني". تحصل له آتهيل على تأشيرة دخول وتسجل بدقة إنها ورطت نفسها "أكثر مما كنت أتوقع، لكني اعترف أنني أنا التي ورطت نفسي. فـديدي - الإسم الذي أطلقته على غالي  حين شعر أنه يستطيع أن يثق بي، أخذ بشغف ما عرضته، هو لم يطالبني بشيء، فقط قَبِل ما أردت أن أعطيه". لم تتضمن تأشيرة الدخول حق العمل، فاضطر غالي أن يقنع بـأعمال متناثرة   مرة في الترجمة، ومرة في النقاشة، ومرة كجليس أطفال”- أعمال يؤجر عليها بدون علم الحكومة

وبالطبع يجد هذا النوع من الوظائف محبطة وصعبة، وأجرها لا يكفي ليعيش عليه، وبالطبع لا يكفي للشراب والمقامرة اللذان صارا لزاما. لم يمض وقت طويل حتى أصبح مدينا يشعر بالعار. أن يعيش المرء على حساب الأسرة والأصدقاء كان سهلا نسبيا  في مصر: تخلف فاتورة في جروبي أو في النادي ويسدد أحدهم الحساب بهدوء لاحقا. أما هنا، في انجلترا، فكان من الضروري أن تطلب المال صراحة، والكل يعرف أن لا أمل حقيقي في إعادته. ما بقي من احترام غالي لنفسه كان في تدني مستمر. إحساسه الحاد بوضعه المالي المهين، ورغبته - حتى النهاية - في أن يكون الـجنتلمان الحقيقي الذي تربى على صورته يظهران بوضوح في الحسابات الدقيقة التي ظل يدونها، وفي الرغبة الأخيرة التي صرح بها: أن أي مبلغ مالي تأتي به كتاباته بعد موته يستعمل لتسوية ديونه. وكون هذه الديون لم تصل إلى الألف جنيه يزيد من مأساوية وضعه. 

بعد حرب ١٩٦٧يقرر غالي زيارة اسرائيل. لا توضح مذكراته سوى أنه اتخذ القرار و- يا للعجب - مُنِح تأشيرة الدخول، وهناك عاصفة من علامات التعجب بعد هذا الخبر، وشرح موجز: ستكون تقليعة ذكية: مصري يجري أحاديث صحفية مع إسرئيليين". باع فكرته لجريدة التايمز، فتكفلت بمصاريف الرحلة كمبلغ مقدم من أجر المقالات التي سيكتبها. كانت المقالات (وكانوا مقالين) التي كتبها عقلانية ومتوازنة، بل كانت أكثر توازنا من أن ترضى أياً من الطرفين، وأُغلِق الباب إلى الأبد أمام أي إمكانية للعودة إلى الوطن؛ فزيارة اسرائيل - أو حتى دخول سفارتها في أي مكان بالعالم - خيانة وفقا لقانون وقت الحرب المصري، وتستوجب عقوبة الإعدام. كما أنها عمل مضاد تماما لمشاعر الناس في بلد يعاني آثار هزيمة كارثية. هذه الزيارة هي الشيء الوحيد الذي بقى من وجيه غالي في ذاكرة المصريين القليلين جدا الذين لا زالوا يذكرونه.

وجد غالي صعوبة بالغة في كتابة المقالين. ولا بد أنه رأى أنه لن يكمل روايته الثانية، ولن يحصل على تصريح عمل، ولن يستطيع أن يكسب قوت يومه. سيغرق أكثر وأكثر في الديون. سيبقى في حالة ذُل وهزيمة، ولن يستطيع أبدا العودة إلى الوطن. هو الآن في عامه الأربعين ولا يرى لنفسه طريقا.  

عندما قرأت "بعد الجنازة" تحيرت: لماذا كتبت ديانا آتهيل هذا الكتاب؟ حسب ما نراه هنا، فإن ديدي ببساطة لا يستحق أن يُكتَب عنه كتاب - حتى وإن كان كتابا سيئا. تعرض الكاتبة أمامنا سكيراً زنّانا، أنانياً يعيش على حساب من حوله، يجرحهم ويهينهم، ويضجرهم ويضجرنا بلا حدود. والشيء الأكثر بؤسا في هذا الكتاب البائس هو أنه، وبالرغم من إصرار آتهيل على سحر غالي وذكائه وكياسته وخفة دمه ويقظته، لا يُظهِر هذه الصفات أبدا. فإن حاولنا تقييم حياته القصيرة وجب علينا أن نشيح بوجوهنا عن شخصية ديدي وننظر إلى رام - الصورة الشخصية التي رسمها غالي في روايته (التي لن تجدها في الأسواق اليوم) بيرة في نادي البلياردو.

لماذا اختارت آتهيل إخفاء هوية صديقها؟ ولماذا اختارت إسم الدلع ديدي  إسم الفتاة الثرية التي يتزوجها رام بنهاية الرواية  ليكون إسمه المستعار؟ أرى في هذا استصغارا له. هي لم تأخذ الرجل بجدية أبدا، ونرى هذا في تكرار جُمَل مثل "ديدي الصغير المسكين"، وهذا الكائن الصغير المسكين المخبول"، وكان يستحق أن أضربه على مؤخرته، ولا بد أنه خبر هذا الاستصغار خلال سنواته معها. ربما كان لكل هذا علاقة بغريزة الأمومة المحبطة التي تسهب آتهيل في تحليلها - والتي لا بد أن غالي وجدها تضعفه أكثر وأكثر. تتبنى آتهيل حالته فيسكن في غرفة للإيجار في بيتها. يريد أن يدفع إيجارا لكنه لا يستطيع فتضاف قيمة الإيجار إلى قائمة مديونياته. لم يطمئن أبدا لزوال تهديدها بأن تقع في غرامه، لكن آتهيل كانت قد رضيت بدور الأم. 

لا نستطيع أن نلوم عليها رصانتها/ثباتها الإنجليزي البرجوازي، لكننا نستطيع أن نرى تأثير تصرفاتها واستجاباتها على ذلك الشرقي المتقلب المضطرب الموحود الذي وضعه حظه تحت رعايتها. حين تطلب آتهيل من ديدي، بعد سنتين، أن يرحل (فستستأجر له غرفة في بيت آخر) تتضح حقيقة الموقف وتتحصل على الاعتراف الذي طالما انتظرته: "وقف وأشاح بوجهه بعيدا، ورفع ذقنه عاليا، وعيناه محجوبتان  لحظة انتزعها بعنف من نفسه ليُبدي تماسكا متكبرا حاد العاطفية، ثم، وبدون إنذار، جرى متخبطاً عبر الغرفة ورمى بذراعيه حولي وبرأسه على كتفي وأخذ ينشج .. كان طفلاً في الثامنة يبكي في حضني. ظهرت حقيقة الموقف. وتتعامل آتهيل مع هذا بأن تتجه إلى المطبخ لتعمل لهما فنجانين من الشاي بينما ينتظر هو في ألفة واستسلام، وقد انهارت خطوط دفاعه تماما.

من المحتمل بالطبع أن يكون التزام ديدي بالعواطف هو الذي دفع راعيته أكثر وأكثر إلى ذلك الإتزان المتبلد. عائلة ديدي ناس يعبرون عن عواطفهم بقوة .. فالمشاعر القوية تبَرَر بقوتها. أدركت آتهيل تدريجيا أن تحكمه في مشاعره ما هو إلا تحايل من أجل الاتزان. هو يُقَدِّر التحكم في النفس، لكنه كثيرا ما يترك نفسه لقوة الجاذبية في ارتياح متحدّي. ولكن، ألم يكن هذا جزءاً مما جذبها إليه أصلاً؟ بالرغم من محبتها في نفسه (في رسالته الأخيرة لها قال إنها الشخص الذي يحبه أكثر”)، لنا أن نتصور كم عانى غالي مما استشعره من ثقل في شخصية آتهيل. وبما أنه - كما تؤكد هي - كان يجدها مُنَفِّرَة جسدياً، لنا أن نتصور أيضا كم استبشع تلك الضبابية العكرة في مشاعرها الأمومية: بما أنني لم أنجب أبداً فلست متأكدة إلى أي مدى قد تُلَوِّن المشاعر الجنسية الأمومة، ولكن، وبما أنني أرى الآن مدى تداخل مشاعر الأمومة في علاقاتي الجنسية مع أى شاب أنجذب إليه، فأعتقد أنها كانت لتؤثر فيها بقوة  أى أنني كان عندي الاستعداد لأكون جوكاستا حقيقية لو سنحت لي الفرصة. 

وقد سنحت الفرصة أخيرا: وجد ديدي الثمل طريقه لمخدع ديانا الثملة. وتحملته بغيرية لاهية، كريمة ومسيطرة، أُمٌ إلى النهاية: حَجَّم السُكْر نطاق وعيي، لكنه لم يفقدني إياه. وحين وَسَّعَت الممارسة تدريجيا نطاق ما أدركه، كنت أنا التي أدرك، وعرفت أنه سيكون من الخسارة أن نُفسِد ما يحدث بأن نتركه يستمر طويلاً. الحنان سيطفؤه ضجر جسدي الغير مستثار، فعليّ الآن إنهاء وصلة ممارسة الحب هذه بتصنع بلوغ قمة اللذه ومساعدة ديدي في الوصول إلى ذروته". لم تتكرر الواقعة أبدا. ولكن - لماذا حدثت؟ ولماذا انتهى ديدي في فراش راعيته بعد أن تجنبه بأدب لمدة أربعة سنوات؟ وما هو موقع هذا الفعل في عملية مسيرة الذات التي مشى فيها؟ لا تتعامل آتهيل مع هذه الأسئلة، بالرغم من أنها قرأت تلك الفقرات في مذكراته التي يصف فيها نفورة الجسدي منها فقرات تعرضها علينا بحماس:

لقد بدأت أكرهها. أجدها لا تطاق .. ردود أفعالي ناحية ديانا يشعلها نفوري الجسدي من ديانا. أجد من شبه المستحيل أن أعيش في بيت واحد مع شخص وجوده الجسدي يدفع بجسدي للإنكماش نفوراً، ولذلك أجدني أبغض كل ما تفعله أو تقوله أو تكتبه. أحاول جاهدا أن أفهم بشاعة هذا الموقف الذي أتخذه، وفي الحقيقة لا أستطيع تفسيره إلا بقبول حقيقة أني مريض، مُعتَل، غير سوي.

أجلس في غرفتي أشاهد برنامجا غبيا في التلفزيون، غاضب على نفسي لأني لا أطفؤه وأجلس للعمل .. ومن غرفتها أسمع الآلة الكاتبة: تك تك تك تك تك، أقول في نفسي ها هي تطقطق تلك الزبالة التي لا قيمة لها - تغرف جملة غبية مملة بعد جملة غبية مملة، وتفكر - لا، تتظاهر - بأن هذه كتابة. ويمسك بي مزاج ردئ.  

ثم أتذكر كل ما فعلته ولا تزال تفعله من أجلي، فأدق بابها: فنجان من الشاي يا صديقتي؟ هي مستغرقة تماما (تتظاهر) فبالكاد تسمعني. تنهي جملة، تنظر إليَ  هيلا تعي تماما ما حولها لأنها غارقة تماما في فنها. ثم: نعم، فنجان من الشاي ياصديقي‘. بعدها أعود إلى غرفتي. أنا فعلا وغد، أهمس مكررا، أنا فعلا وغد.

ربما كان وغداً، لكنه كان كاتباً. وكان على حق في تقديره السلبي لأسلوب كتابة محررته ديانا آتهيل. ربما كان في كل هذه القصة ما يستحق المعاناة لو أن التركيز على جنوح ديدي أنتج كتابا جيدا. ولكن، وبالرغم من الفحص الذاتي الجارح (سطحيا)، وبالرغم من الإصرار على تراكم التفاصيل، فإن "بعد الجنازة" يمكن أن يصنف كتدريب على كيف لا تكتب السرد: "بعد أن جلسنا لتناول وجبتنا بفترة قليلة قال أحدهم شيئا مثيرا للانتباه، له علاقة مباشرة بخبرة المتحدث، وتغير وجه العنزة المتهكم في الحال. بدت عيناه وكأنها فعلا أضيئت. حلت الحيوية محل الاكتئاب. بدأ يصف شيئا تناغم مع ما قيل، وكان فكاهيا فأضحكنا”. تقرأ الكتاب فتجد تلخيصا مليئا بالكليشيهات، تلخيص يبسط الأحداث والمشاعر. وضع  ديدي في الخارج يعَرَّف بخفة سريعة بأنعبد الناصر قام بنفيه وهذا بمثابة إسدال ساتر على عالم من من الخداع والمواربات. تتلخص كل مشاكل  ديدي في احتياجه لحنان الأم، وفي هذا تجاهل للشق الأكبر من شخصيته وتاريخه، وفيه أيضا عذر لرغبة آتهيل في إمداده بكميات من الحنان المشبوه. هي تقول أنها كتبت هذه الوثيقة من أجله ولأولئك الذين ينوون إنجاب الأطفال". كان العمل الأفيد - والذي سيرضى هو عنه - أن تنشر مذكراته.

*****

نُشر في أخبار الأدب - فبراير2015



د. جلين جوردن: لا أريد أن أكون خبيرا ثقافيا

ولد جلين جوردن بولاية كاليفورنيا. وكان ناشط في حركات الدراسات السود والأمريكان من أصل أفريقي في نهاية الستينات وبداية سبعينات القرن الماضي. درس بجامعة ستانفورد حيث كان باحث مساعد لبروفسيور سانت كلير دراك، الشخصية المفتاحية في تطور دراسات الشتات الأفريقي. ثم أكمل دراسته بجامعة إلينوي حيث عمل مع البروفيسور ستيورات هول، الذي اطلقت عليه مجلة The Observer البريطانية "واحد من رواد النظريات الثقافية في بريطانيا".
ثم انتقل إلى كارديف بمقاطعة ويلز منذ عام 1987. ويعمل الآن كمحاضر للدراسات الثقافية والفوتوغرافيا بجامعة جلمورجان. ساهم في تأسيس مركز بيوتون للتاريخ والفن، وهو مركز يسمح للسكان المحليين من الجنسيات المختلفة بوصف وتقديم تاريخهم الخاص عن طريق التصوير الفوتوغرافي وحكي قصص حياتهم في كل من ويلز وايرلندا. بدأ المركز نشاطه عام 1988 وبحلول عام 2000 كان قد حصل على عدة مئات من الساعات المسجلة كتاريخ شفهي للسكان المحليين، وتم نشر عدة كتب في المجالات الثقافية والسياسية والتعليمية. كما عقد عدة معارض في بريطانيا والولايات المتحدة والدول الأوربية لعرض الصور الفوتوغرافية 
المصاحبة لقصص من حياتهم.


في البداية حدثنا عن طفولتك.
لقد وُلدت عام 1952 وانتهت العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية بإقرار الدستور الثالث عشر عام 1865. وهكذا وُلد جدودي في نهاية القرن التاسع عشر بعد إقرار الحرية ولكن هناك العديد من عائلتي كانوا بالطبع عبيد. أما أمي فإنها تنحدر من نسل الهنود الحُمر. رحلت جدتي قبل مولدي ولكن والدتها كانت لاتزال على قيد الحياة، كانت هندية، مازلت أتذكرها. كانت قصيرة مائلة للبدانة ولديها شعر طويل أحمر. لقد كانت جميلة. في النهاية كانت عائلتي تعتبر من الأقليات في ولاية كاليفورنيا.

صرحت لجريدة الجارديان البريطانية: "لقد كافحنا كثيرا للحصول على معلميين من السود، ولنمنع المعلميين من ذوي البشرة البيضاء من منادتنا بألقاب مثل نيجرو أو الأسود". بجانب إنك كنت ضمن الجيل الأسود الأول الذي استطاع أن يدرس بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا. كيف كانت تلك الفترة بداية لدراساتك في شؤون الشتات الأفريقي؟
  لقد وُلدت كما ذكرت من قبل عام 1952 وهذا يعني إني أصبحت مراهقا في نهاية الستينيات وهو الوقت الذي ألتحقت فيه بالجامعة. وبالطبع كانت فترة مليئة بالحروب والجدالات المستمرة وانتشر الهيبز ودعاة السلام وحركات الدفاع عن السود والدراسات الأفريقية. وبالمصادفة كنت الشاب المراهق في وسط هذه الأحداث الهامة في الولايات المتحدة.
فعندما كنت في الخامسة عشر من عمري، اندلعت حرب فيتنام، وكطفل في ذلك الحين، كنت ضد الإشتراك في هذه الحروب. وهكذا بدأت أفكر بشكل جدي أن أترك الولايات المتحدة الأمريكية.
عندما ذهبت إلى جامعة ستانفورد عام 1970، كنت بالفعل جزء من أول جيل أسود استطاع أن يدرس بالجامعة. فبعد اغتيال مارتن لوثر كينج في أبريل عام 1968، قررت الجامعات الكبيرة مثل يال وهارفارد وستانفورد السماح للطلاب السود بالانضمام إليها كما لم يحدث من قبل. فقبل ذهابي للجامعة كان عدد الطلاب السود لا يتجاوز 30 طالب، ولكن في جيلي كان عددهم يتجاوز 500 طالب أسود، ولذلك فأنا اعتبر نفسي محظوظ وكنت من ضمن الجيل الذي شهد التغيير الحقيقي.
في بداية دخولي إلى الجامعة، درست الكيمياء، أردت بشدة ان أصبح مهندس كيميائي. ولكن اتجهت اهتمامتي إلى دراسة التاريخ الأفريقي، ودراسة الأمريكان من أصل أفريقي. ولم أستطع التوقف بعدها. ولم أعود بالطبع لدراسة الكيمياء.

كيف أثر العمل مع البروفيسور دراك والبروفيسور ستوارت هول على أفكارك ومشاريعك؟
لقد قابلت سانت كلير دراك في بداية السبعينات وكنت مساعد له لمدة 5 سنوات، وهو من الشخصيات الفعالة في الدراسات الأفريقية بالولايات المتحدة في ذلك الوقت. وقد انتشرت هذه الدراسات حينها في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية والكاريبي. وبالطبع جذبني هذا أكثر للتعمق في حركات الدفاع عن السود ودراسة الشتات الأفريقي.
ثم جاء ستوارت هول بعد ذلك في بداية الثمانينات، كان يلقي سلسلة محاضرات في الدراسات الثقافية بجامعة إلينوي بالدروس الصيفية، واستمرت المحاضرات لمدة 6 أسابيع. ثم أصبح هو المشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة بي، ومن هنا أصبحنا أصدقاء مقربين.

لم تتعلم التصوير الفوتوغرافي، ولكنك الآن مصور محترف. في رأيك كيف أفادتك دراستك للأنثربولوجي والسيكولوجي في هذه المجال؟
لم أدرس التصوير الفوتوغرافي بالفعل أبدا، ولكني أمضيت العديد من السنوات في قراءة الكتب والعمل مع مصوريين آخريين. وتعلمت بنفسي كيفية التعامل مع آلات التصوير المحترفة. لم أتعلم استخدام آلات التصوير الخاصة بصناعة الأفلام، استخدم دائما الكاميرات الديجيتال وهي أسهل كثيرا.
أما دراستي لمجالات علوم الإنسان وعلم النفس، فإن علوم الإنسان تهتم في المقام الأول بدراسة الثقافات الأخرى وهذا بالطبع أثار اهتمامي ولكني لست مهتما بدراسة نفس الثقافة لسنوات عديدة، وهذا ما يقوم به الأنثروبولوجي عادة حتى تصبح خبير في ثقافة ما. أنا لا أريد أن أكون خبير ثقافي، بل أريد أن أدرس العديد من الثقافات والحوار معها والإنتقال بين ثقافات متعددة.

هل هذا هو ما لفت نظرك تجاه ويلز؟
نعم بالطبع، فتعدد الأعراق في ويلز وفي كارديف بشكل خاص هو ما أبقاني بها واعطاني فكرة مركز بيوتون للتاريخ والفن.
من مؤلفاتك كتابين أحداهما عن الشيوخ الصوماليين والآخر حول المجتمع اليهودي بويلز. بالكتابين العديد من الصور ذات الحجم الكبير لشخصيات تحكي تاريخها الشخصي أثناء اقامتها هناك. ظهرت تلك الشخصيات بأريحية شديدة أمام عدسات تصويرك.

أخبرنا عن وسائلك في التصوير وكيف تجعلهم يبدو طبيعيين هكذا؟
أنا رجل أسود ومتقدم في العمر وأعيش في كارديف منذ ما يقرب من 20 عام، وربما جعلني هذا محل ثقة لكثير من أهل ويلز حتى الوافدين الجدد منهم. في البداية أجلس مع الشخص المراد تصويره لعدة دقائق ومعي الباحث الذي يسجل القصة، ثم أبدأ في إلتقاط العديد من الصور له أثناء الحديث وأنا جالس أمام الشخص مباشرة. وبذلك يظهروا في الصور بنظرات وابتسامات طبيعية.

لقد ساهمت في إنشاء مركز بوتون للتاريخ والفن، هل يمكننا القول إنه امتداد لعمل بروفيسور دراك؟
لا أخذ الأمر بهذه المحمل، ولكنه نعم بطريقة ما. لقد ذهب البروفيسور دراك إلى ويلز عام 1947 وأجرى بعض الدراسات على عائلات البحارة الأفارقة، ولكن الأمر لم يكتمل. ثم ذهبت أنا إلى هناك ومشيت على خطاه. وما كان يتطلب 20 عام، أخذ مني فقط عامين وهو إنشاء المركز والبدء في العمل به.

هل فكرت في إنشاء مراكز أخرى في دول مختلفة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي؟
لا أعرف، ربما أفعل ذلك يوما ما. أعتقد أن لابد أن يدعوني أحد. الأمر بالطبع سيكون صعبا. فأنا لا أعرف طبيعة المجتعات وقد يستغرق الأمر مني طويلا حتى أحققه. ولكني فكرت في السودان.

لماذا السودان تحديدا؟
لدي العديد من الأصدقاء السودانيين الذين يعيشون في كادريف كلاجئين ومنهم من سافر لهولاندا وألمانيا. كما لدي زوجة ويلزية لصديق سوداني، تعمل معي في المركز، بحثت معها أمر إنشاء مركز آخر في دارفور لتسجيل وحفظ التاريخ الشخصي للسكان المحليين لهذا الأقليم.
لقد ذهبت إلى معسكر لاجئيين بدارفور من قبل بصحبة آلات التصوير، وحاولت أن ألتقط العديد من الصور وأن أجري بعض الأحاديث لأسجل الحكايات. ولكني لم أستطع سوى إلتقاط القليل من الصور فقط لسوء الأوضاع هناك. وقلت لنفسي إذا عرفتهم بشكل أقرب واستطعت أن أبقى لعدة أسابيع فربما يمكنني التصوير ولكني لم أستطع حينها. لذلك اعتقد إن الأمر قد يستغرق الكثير من الوقت.

ما رأيك إذا قام أحدهم بإنشاء مركز، يسير على نفس نهج مركز بيوتون ومستخدما نفس أساليب العمل، في بلده.

لا يوجد مشكلة أن يتعاون معنا أحد من بلد آخر وأعتقد إننا سندعم هذا، ولكن لابد ان أعرفه جيدا وأثق به أو بها. 

نُشر بأخبار الأدب - نوفمبر 2014

الجارديان تعتبر فوز موديانو فضيحة

إعلان جائزة نوبل في الآداب هي مناسبة سنوية للنظر إلى الأدباء والروائيين الأمريكيين وكأنهم هوامش في روايات رومانسية. حتى فيليب روث، ذلك العملاق ذو المكانة التي تجاوزت الخمسين عاما، أصبح أكثر المبتهجين المتحدثين عن خاسر العام.
بعد أن حسم السويديين المناقشات حول فوز الكاتبة الكندية أليس مونرو بأعلى جائزة أدبية في العالم في العام الماضي، واصلوا توزيع الآمال على الأسماء من كل العالم حتى صباح يوم الخميس، عندما منحوا الفرنسي باتريك موديانو مكالمة صباحية ذهبية.
هناك العديد من النظريات حول "تحييزات" نوبل، القليل منها يتضمن احتمالية فوز الروائيين من الدول الغير ناطقة بالإنجليزية، والذين لا يعرفهم الكثير من القراء في الغرب أو حتى سمعوا عن أسمائهم، وأن هذا ربما يكون أمرا تفضله الأكاديمية السويدية.
وقد أشار قضاة الأكاديمية الملكية السويدية أنفسهم إلى إنهم لا يستسيغوا تأثير برامج الكتابة الإبداعية على مشهد الكتابة في نيويورك. وبشكل أوسع، فإن نوبل تُعرف بإنها أفضل منصة تواجه هيمنة الثقافة الأمريكية؛ كما أن هناك فكرة قائلة أن قضاة نوبل المنتفخين الأوداج لا يحبون مكافأة الروائيين الذين يحققون المبيعات.
ويرى الناقد الأمريكي دوايت جارنر أن النقطة العمياء عند القضاة السويديين في الأدب هي الضحك. ولكن هناك احتمالية واحدة غامضة وهي أن القضاة في الحقيقة، مرحيين للغاية، حتى إن كان ذلك على الطريقة السويدية، ويرتكز اختيارهم حول استفزاز سنوي واحد هو منح فيليب روث شيء يقوله عن فشله الأبدي في الفوز.
لسنوات عديدة، تدور القصة كالتالي، يقوم روث برحلة إلى نيويورك وينتظر في مكتب وكيله المكالمة المنشودة، بينما لائحة الإعلان الخطير معدة للطباعة والتفعيل. وهناك يجلس، في حجرة الإجتماعات المجهزة بالمرطبات، طويلا، وفي نهاية اليوم يقوم برحلة طويلة، حزينة، عائدا إلى كونيتيكت. يمكن للمخرج تشارلي كافمان أن يحصل على فيلم رائع من وراء هذا.
ومن الأمور المحيرة التي تعتبر لغز، لماذا يلفت فشل روث الانتباه بهذا الشكل المتكرر، من بين حفنة من الروائيين الأمريكيين العظام الذين يتطلعون لنوبل كذلك؟. على سبيل المثال، فإن توماس بينشون ودونالد ريتشارد (دون ديليو) هما في المقام الأول للترشيحات. إلا إن فيليب روث يقدم نفسه كشخص عاجز بإبتهاج عن التوقف عن الإنتظار، فإذا سأله أحدهم عن نوبل، فإنه يجيب بكلمات غاضبة مضحكة حول استبعاد نوبل له. لقد فاز بكل الجوائز الأدبية المرموقة، حيث حصل على البوكر العالمية وجائزة بري مديسيس الفرنسية والبوليتزر وجائزة الكتاب الوطني. ولكن المهيمن على صورته، إنه تماشيا مع الصورة النمطية الأوروبية التي يتم تصورها حول وطنه بشكل عام، لا تترك له سوى الرغبة في المزيد من الجوائز.
المرأة الأمريكية الوحيدة التي رشحت لنيل نوبل هذا العام كانت جويس كارول أوتيس، مما خيب أمالنا لعدة أسباب، ماذا سنفعل، على سبيل المثال، بإنتاجها الإشتركي الطابع والغير مشوق/ مفتقد للسحر، كما أن الجوانب المتثاقلة تحتل جانب كبير من أعمالها. بالطبع أفضل مارلين روبنسون التي لا تكترث للأمور التجارية في الأدب. فقد عادت في روايتها الأخيرة (ليلى) للمرة الثالثة إلى المدينة التي كتبت عنها في روايتيها "البيت" و"جلعاد"، تلك المستعمرة الصغيرة في أيوا حيث العجوز ذو 76 عاما الذي يحكي عن حياته الفانية والروحية، وهذا بالطبع لن يجذب قضاة نوبل.
في الحقيقة، فإن روبنسون كاتبة ماكرة هزلية، تكتب عن مدينة صغيرة نشطة ومقروءة ولكنها أيضا تعتبر روائية جادة بشكل كاف للدرجة التي لا تحصى معها باختيارا شعبيا.
على أي حال، في النهاية، لقد فاز موديانو. تحية كبيرة له ولعشاقه حول العالم. والآن نطرح أهم تساؤلاتنا: من سيكون فيليب روث القادم، الروائي البطل الذي سيصبح خاسر العام ويمكننا جميعا أن نقف وراءه؟

هل يوجد أي شخص هناك، أبيض اللون، رجل روائي، على الجانب الآخر من تلقي التعليقات الحادة بشكل متكرر، ومفرط في استيعابه لنفسه ومتضخم الذات بشكل عام، والذي ربما، لمدة عشر سنوات من الآن، ينتظر توقعات الإحباط السنوي لفوزه بجائزة نوبل؟ 

نُشر بأخبار الأدب - أكتوبر 2014

"ستونر" لجون ويليامز

أعظم رواية أمريكية لم تسمع عنها من قبل!
في حوار بين الكاتبين الأمريكين ويليام جيرلدي وتشارلز ج. شيلدز عن جون ادوارد ويليامز، قال جيرلدي: "قيام جون ويليامز من المجهول لايزال أمرا مدهش. أرتاب دائما من الحركات الأدبية التي تحتفي بالأذواق الباهتة، ولكن إعادة إحياء ويليامز يعد شيء ممتع لأقصى درجة، مثل الشعور، أخيرا، بتحقيق عدالة لم يشهدها من قبل. وبمجرد دخولك في عالمه الروائي وخاصة رواية أغسطس، تجد بناء سردي لخبير محترف غير عابيء بالمواجهة مع آلام وخلاص الحياة البشرية".
وبادله شيلدز الرأي قائلا: "أتذكر ما حدث لملفي كمثال، لقد رحل وهو مجهول تماما حتى أن أكثر من صحيفة من نيويورك كتبت في نبأ وفاته "جيل القراء الحالي لن يكون مُطلع على إسم هرمان ملفي، ولكن مر وقت كانت أعمال الكاتب مشهورة على نطاق واسع". ولم تحدث إعادة إحياء لأعمال ملفي إلا بعد مرور 45 عام على وفاته. لم يكن ويليامز مجهول تماما عندما رحل عام 1994 ولكنه لم ير شيء خلال حياته مثل الإهتمام الحالي برواياته. ولقد استحضرت الصلة بين ويليامز وملفي الآن لسبب آخر؛ أنت ذكرت شيء عن البناء السردي لخبير محترف، لقد قمت، على سبيل التجريب، بتنظيم أقصر فصول موبي ديك في شعر حر وكم كان هذا رائعا. لقد كان ويليامز ضمن ذلك النوع من المحترفين أيضا. وأخبرتني الكاتبة الأمريكية روكسي مونرو تلك النكتة: في مساء ما أثناء تناولنا العشاء، سألت ويليامز: "كيف كان يومك، جون؟". وكانت إجابته: "كان يوما عظيما، لقد كتبت ثمان جمل مثالية". وهذا يلخص بطريقة ما سبب انعزال ويليامز بدلا من خوضه الحياة".
في واحدة من الحالات النادرة الشيقة لتحقيق العدالة الأدبية المتأخرة، أصبحت رواية ستونر للكاتب الأمريكي جون ويليامز في أعلى قائمة الأعلى مبيعا في أوروبا بعد أن قدمتها وقامت بترجمتها الكاتبة الفرنسية أنا جافلدا. وكذلك كتبت الناقدة موريس ديكستين مقال عنها في جريدة نيويورك تايمز ولكنها، رغم ذلك، لم تحظ بالإنتشار الواسع في الولايات المتحدة.
رواية ستونر بلا أدنى شك هي رواية عظيمة، ولكن يمكننا أن نتفهم لماذا هي ليست المفضلة لدى الأمريكين. يمكنك ببساطة وصفها على إنها المقابلة لجاتسبي. فرغم أوهام جاتسبي ونهايته السيئة إلا إننا جميعا نعتقد، بسرية، في جماله. لم يراه الأمريكان حقا كشخص مقابل للبطل أو كشخصية تراجيدية، ولكنهم رأوه كمجرم لديه كاريزما مثل الذين يشاهدونهم على شاشة التلفزيون. فقصة جاتسبي الناجحة تتلخص في إنه كون ثروته التي بلغت ملايين الدولارات وامتلك قصر وأقام به الحفلات الضخمة كما أستطاع أن يحصل على فتاة أحلامه ولو لفترة قصيرة. أما ستونر، بطل رواية ويليامز، غير وسيم، أكاديمي يعمل بكد ويسير زواجه بشكل سيء، وتم ابعاده عن طفلته، وكدح في حياة وظيفية بلا مستقبل ثم مات وتم نسيانه: إنه الفشل. إنها ليست رواية تقع في مدينة الأحلام ولكنها تقع في قلب العفن. كما إنها تبدو ظاهريا رواية أكاديمية، كيوميات تاريخية حصريا للأكاديميين. وذات قيم قديمة الطراز، مثل قيم ما قبل الحرب وتتمسك بالضمير كأعظم الفضائل والثواب في الحياة. أما نثرها، فبالمقارنة مع غنائية فيتزجيرالد، فإنه صارم ومنضبط ودقيق؛ حيث طلاءه أقل بهرجة، وتوهجه أكثر بقاءا من خشب صلب مصقول، فبنائها لا تشوبه شائبة مثل هذا النوع من المنازل الذين لا يعرفون كيف يبنون مثله مرة أخرى.
تستهل ستونر بمقدمة صغيرة تصف بإقتضاب حياة وموت أستاذ مساعد في اللغة الإنجليزية غير محبوب بإحدى الجامعات المحلية. والدليل الوحيد على وجوده هو مخطوطة من القرون الوسطى تبرع بها زملائه إلى المكتبة بإسمه. وتختتم المقدمة:
"قد يتساءل الطالب الغير نظامي، متفرجا، الذي صادف الإسم عن من كان ويليام ستونر، ولكنه نادرا ما اهتم بإتباع فضوله أبعد من مجرد سؤال عابر. زملاء ستونر الذين لم يمنحوه تقدير خاص أثناء حياته ، نادرا ما يتحدثون عنه الآن؛ كبار السن يرون إنه تذكير للنهاية التي تنتظرهم، أما الشباب فيعتبرونه فحسب صوت لا معنى له من الماضي، حتى إنه لا يمثل تلك الهوية التي تستحق ربط أنفسهم أو وظائفهم بها". 
وبهذا جعلنا ويليامز نتساءل عن ماذا سيكون الكتاب؟ فطموحه يتجلى في تواضع موضوعه: مثل رباعية الكاتب الأمريكي جون أبدايك "رابت"، إنها ليس شيء أقل أو أكثر من قصة حياة. كما إن هناك شيء ما في تلك الفقرات الأولى، نثر غير متعال، مثل الملاحظات الإفتتاحية الناعمة لفنان مبدع، وهذا يخبرنا إننا في صحبة كاتب عظيم أو أكثر، إنه شخص يعرف الحياة، أو بالأحرى يفهمها. إنه نفس الأمر الذي قد تستشعره من قرائتك لجميس سالتر: حضور الحكمة. والحكمة بالطبع ما هي إلا موضة قديمة.
وبالرغم من سهولة النص، إلا أن ستونر ليست رواية سهلة القراءة. ليس بسبب إنها مكثفة ومبهمة ولكن لإنها مؤلمة. فلقد نجح ويليامز في حرمان بطله بالقوة من السعادة في زواجه ومع ابنته ومع حبيبته وحتى في وظيفته. وكان هذا قسوة مفرطة مثل نزوة مهلكة للآلهة في أعمال المسرحي اليوناني يوربيديس.
تم تجاهل ستونر عند نشرها عام 1965، ولكن أبقاها المتحمسون على قيد الحياة بإعادة النشر كل عشر سنوات تقريبا في محاولة لإعادة اكتشافها، مثلما فعل الكاتب الأمريكي ارفينج هو في مجلة الجمهورية الجديدة عام 1966، والكاتب البريطاني تشالز برسي سنو في جريدة فاينانشال تايمز عام 1973، والكاتب الأمريكي دان واكفيلد بمجلة بلاوشيرز عام 1981 وستيف ألموند بمجلة تن هاوس عام 2003. وطالما تساءلوا لماذا لم يسمع أحد عن هذه الرواية من قبل؟ واستمر سنو في التساؤل لوقت طويل. والآن بجانب رواية ستونر، فإن روايته الثانية، تقاطع بوتشر التي نُشرت عام 1960، متوفرة كذلك في طبعة جديدة أنيقة نشرتها مجلة نيويورك ريفيو بوكس. كلا الرواتين تستحقان القراءة على نطاق واسع، ولكن ظلاميتهما ورؤيتهما الضبابية تثيران التساؤلات حول إذا كان من الممكن توقع هذا.
ولكن إلى أي مدى كان ويليامز مجهولا؟. عندما نشرت ستونر عام 1965، كالعادة تأرجحت بين مخاوف الروائي وآماله. حينها تم استعراضها بإحترام، لم تكن الأعلى مبيعا ولكنها باعت عدد معقول، ونفدت كل طبعاتها. وفي عام 1972 فازت روايته الرابعة أغسطس بنصف الجائزة الوطنية للكتاب (والنصف الآخر ذهب إلى رواية الوهم للكاتب جون بارت). وقد كان هذا الوقت من أكبر نجاحاته ومع ذلك لم يحضر حفل التكريم، ربما كان مرتابا، كما لو أن المدح الذي يعلن ما هو إلا استخفاف به. بعد ذلك التكريم بعشرين عام، بدون نشر أي أعمال أدبية أخرى له، نشرت نيويورك تايمز خبر موته ونعته كشاعر وكمعلم بجانب إنه روائي. ولكن نأتي للعامل الذي خافه ويليامز كثيرا وكتب عنه في خطاب لناشره، وهو الوقت. فبعد مرور الكثير من الوقت، بعد خمسين عام من تاريخ كتابة ويليامز لهذا الخطاب، أصبحت ستونر من أعلى الكتب مبيعا عبر أوروبا. وهذا ما لم يكن متوقعا أبدا، وهذا ما لا يفهمه الناشرون أنفسهم.
ولد ويليامز في شرق تكساس عام 1922 ووقع في غرام الأدب أثناء دراسته الثانوية. كان أجداده مزارعين، وكان زوج أمه يعمل حارس في مكتب البريد المحلي. عمل بأعمال كثيرة مختلفة بعد سقوطه بالجامعة، ثم خدم في الجيش الأمريكي في الهند وبورما بالحرب العالمية الثانية، وأثناء تلك الفترة كتب رواية مبتدئة في وقت فراغه. ثم سمح له برنامج حكومي، يقدم امتيازات للجنود الأمريكان العائدين من الحرب، أن يلتحق بالجامعة في دنفر والحصول على الدكتوراه من جامعة ميسوري حيث بدأ في كتابة روايته الثالثة ستونر. لقد كان عالم وشاعر بجانب كونه روائي، وأسس برنامج الكتابة بجامعة دنفر حيث درس هناك لأكثر من ثلاث عقود. وتقاعد عام 1985 ورحل عن الحياة 1994.
وبالتمعن في روايته الأشهر، نجد أن كثير من الأمور الجيدة حدثت في حياة ستونر ولكنها دائما تنتهي نهاية سيئة. فإنه يستمتع بتعليم الطلاب ولكن حياته المهنية في وضع حرج بسبب رئيس القسم الحاقد. كما إنه يقع في الحب ويتزوج ولكنه يعرف في غضون شهور إن تلك العلاقة فاشلة. ويحب ابنته بشدة ولكنها تتحول ضده. ثم يقع في حب جديد مفاجيء يمنحه حياة جديدة ولكن تعترضه أسباب خارجية. وعندما يصل لعمر 42 عام، عبر قائلا: "لا أجد شيء أمامي تمنيت الاستمتاع به، كما إني أرى خلفي القليل الذي حرصت أن أتذكره".
في واحد من الحوارات النادرة التي قام بها في حياته، قال ويليامز: "اعتقد إنه بطل حقيقي. الكثير من الناس الذين قرأوا ستونر، اعتقدوا أنه حظى بحياة حزينة وسيئة فحسب. أنا اعتقد إنه حظى بحياة جيدة جدا. حظى بحياة أفضل مما حظى بها الكثيرين، لقد كان لديه مشاعر تجاه ما كان يفعله.. كان الجزء الأهم في الرواية بالنسبة لي هو احساس ستونر بعمله وشعوره بالمسئولية.. فعمله أعطاه شكل خاص لهويته وشكل كيانه كما كان".

نُشر في أخبار الأدب - ديسمبر 2014

Thursday, October 23, 2014

عالم موديانو بعد الحرب العالمية الثانية


تصدر لجنة نوبل بيانات غامضة كتتويج للفائزين، ولا تختلف كثيرا عن اختيارتها المبهة في كثير من الأحيان. فتصل بتصريحاتها لأعلى مراتب اللغة الشعرية كما لو إنها مرتبة شرف تتمم كمال الكاتب. أما نحن، القراء العاديين، فنعكف على تلك التصريحات مثل 
حجاج يذهبون لملاقاة الآلهة في دلفي اليونانية القديمة لعلهم يلقوا علينا خبرا، ثم نعود بثروة بخسة.

كان البيان الخاص بالشاعر الفرنسي لو كليزيو، الفائز بنوبل عام 2008، إنه "كاتب الإنطلاقات الجديدة، وصاحب المغامرة الشعرية والنشوى الحسية، ومستكشف الإنسانية فيما وراء الحضارة السائدة". وكوتزي الفائز عام 2003، فقد قيل عنه "إنه ذلك الرجل الذي استعرض وبطرق لا تحصى، المفاجآت التي يقدمها الآخر". أما هارولد بنتر الذي فاز بنوبل عام 2005، فعبرت عنه لجنة نوبل بأنه "يكشف في مسرحياته مدى الإنقياد لثرثرة الحياة اليومية ويقتحم مواطن الظلم الخفية". وكان من المريح أن نعلم أن بيان العام الماضي عن أليس مونرو كان موجزا وأفاد بأنها "سيدة القصة القصيرة المعاصرة".

هذا العام، ذهبت الجائزة إلى الروائي الفرنسي باتريك موديانو، وقال البيان "بسبب تمكنه من فن الذاكرة وانتاجه أعمالا تعالج المصائر البشرية العصية على الفهم وكشف العوالم الخفية للاحتلال". موديانو الذي يبلغ من العمر 69 عام، بدأ في نشر رواياته منذ عام 1968، وتعتبر روايته الأخيرة "حتى لا تضيع في الجوار" والتي صدرت الأسبوع الفائت، مقروءة في فرنسا، ولكن عمليا، لا نعرف عن موديانو شيئا. فلقد نشرت جامعة يال مجلد يضم ثلاث من قصصه، ولكن القسم الأكبر من أعماله مازال غير متاح بالإنجليزية.

ولكن من هو هذا الروائي؟ وما هي المصائر الخفية العصية على الفهم التي كشف عنها؟ ولد موديانو بالقرب من باريس في يوليو عام 1945، لأم بلجيكية وأب يهودي تعود جذوره إلى سالونيك. درس في مدرسة ليسيه هنري الرابع وهي من أرقى المدارس التمهيدية بفرنسا، ولكنه توقف عن الدراسة في عمر 17 عام. وبعد خمس سنوات من منحه شهادة الثانوية، بدأ في الكتابة كما صرح لمجلة Les Inrockuptibles عام 2012. ثم ابتعد عن عائلته وتجول في باريس، يبيع الكتب ليجني المال؛ كما تعلم أن ينسخ أعمال الكتاب المشهوريين مثل بول فاليري وأليان روب جريلي ويزيف إهداءات صفحة العنوان. يقول موديانو "لقد كانت فترة استثنائية ومشوشة". كانت الحرب الجزائرية الكارثية، التي استغرقت أفضل جزء من خمسينات القرن الماضي، قد انتهت للتو. وقد كان هذا، بالنسبة لموديانو، "فترة غير اعتيادية، واجهت بها كبار السن، الذين غرسوا في نفسي شعور دائم بالخطر".

مثل تصور رواية سلمان رشدي "أطفال منتصف الليل"، فإن الأوربيون من مواليد عام 1945 يتميزون بالحدية. فلقد هربوا من ساحة الحرب وظل العار يلاحقهم، ولدوا في وقت الحرية ولكن طاردتهم الاضطرابات؛ فلقد كبروا وهم يترقبوا في خوف. في عام 1969، قام الرسام والنحات الألماني، أنسيلم كيفير الذي ولد قبل موديانو بشهرين، بإنتاج ما أطلق عليه "الاحتلالات"، وهي عبارة عن مجموعة صور فوتوغرافية له، حيث يتظاهر برفع يده بالتحية النازية بأكثر من مكان في إيطاليا وسويسرا وفرنسا. قام كيفير بزيارة أماكن القصف النازي، في دعوة للشعب الألماني ألا ينسى جنون الرايخ الثالث. وقد كانت رواية موديانو الأولى، التي نشرت قبل مجموعة الاحتلالات بعام، تتضمن إسقاط مشابه للماضي الذي نجا بأعجوبة. ولقد نشرت في عام 1942 في باريس السيريالية (في وقت تألق كل من بروست، فرويد، هتلر ودرفيوس)، تحت إسم "ساحة النجمة". كإشارة للساحة الدائرية على رأس شارع الشانزلزيه التي تحيط قوس النصر، وأيضا تشير إلى النجمة الصفراء التي فرضها هتلر على اليهود أثناء الاحتلال.

ظهرت "ساحة النجمة" في الوقت الذي بدأ فيه انهيار صميم الهوية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، أو كما قالت الروائية الفرنسية كليمانس بولوك، عندما قمت بدعوتها لمناقشة فوز موديانو، "إنها ظهرت في الوقت الذي بدأت فرنسا، كأسطورة المعارضين، في السقوط". نشر الكتاب في مايو، 1968، في نفس الشهر الذي ثارت فيه احتجاجات الطلاب، وفر شارل ديجول، رئيس فرنسا حينها والبطل المحارب، إلى قاعدة عسكرية بألمانيا في انتظار انتهاء كل شيء. واقترب موديانو من الحقيقة القذرة عن كثب. فلقد رفض والده ارتداء النجمة ولم يخضع عندما اجبروا اليهود على الترحيل إلى معسكرات الإعتقال؛ بل قضى فترة الحرب في إدارة الأعمال بالسوق السوداء والتسكع مع الجستابو المرابطة في منطقة لرويستون.

أخبرتني بولوك، وهي زميل ما بعد الدكتوراه في الدراسات اليهودية بجامعة بنسلفانيا، إنها تعود بقراءة روايات موديانو لنفس الثيمات: تأثير الماضي، والتهديد بالتلاشي، وضبابية الحدود الأخلاقية، والجانب المظلم للروح. وقالت أن موديانو يعتقد أن "الروائي لديه واجب أخلاقي ليسجل آثار الذين غابوا، والذين تلاشوا". وبالطبع لا يغيب عن انتباه أعضاء لجنة نوبل أن فوز موديانو جاء في الوقت الذي زاد فيه معاداة السامية بفرنسا، كما ارتفع معدل هجرة اليهود الفرنسيين إلى اسرائيل، لخوفهم وعدم شعورهم بالأمان في وطنهم، حيث أن ثقافتهم ربما تكون في طريقها للاندثار، وهذا شيء واضح وحقيقي.

كتبت بولوك أطروحة الماجستير عن موديانو، وساعدها هو في وقت لاحق في نشر كتابها الأول. وتعتبر موديانو أعظم الروائيين الفرنسيين الذين على قيد الحياة. وقالت: "لقد قفزت عندما علمت بفوزه بنوبل، وبكيت من الفرحة".

وكان رد الفعل في فرنسا، احتفالي على نطاق واسع. وكما نعلم فإن فرنسا ليست بعيدة عن نوبل؛ فموديانو هو الفائز الفرنسي الخامس عشر. ولكن بعد فوز الشاعر لو كليزيو عام 2008، بدا فوز فرنسي آخر قريبا شيء بعيد المنال.

وصفت جوسيان سافنيو، محررة بمجلة لاموند الفرنسية، في إيميل إلكتروني، كتابات موديانو بأنها "مرهفة، بارعة ومكبوتة". وأشادت بالرجل نفسه قائلة إنه "حذر وسخي، وبمعزل عن وضعه الأدبي المتميز. في الحقيقة، إنه لم يبدع سيمفونيات أو أوبرات، ولكنه عازف بيانو ممتاز". ثم أضافت "ولكني ساخطة، كالمعتاد، لأنهم تجاهلوا فيليب روث".


عن The new yorker