جزء من رواية جومبا لاهيري الأخيرة "الأرض المنخفضة"
1
شرق نادي توللي، بعد تفرع طريق ديشبرن ساسمل لطريقين، هناك بالزاوية مسجد صغير. يؤدي المنعطف إلي مقاطعة هادئة، مكتظة بالأزقة الضيقة وبمنازل الطبقة المتوسطة البسيطة. يوما ما، تراكمت المياه مكونة مستنقعين مستطيلين متجاورين. تمتد خلفهما لعدة أفدنة أرض منخفضة. بعد الرياح الموسمية، ارتفع مستوي المياه بالمستنقعين، ولم يعد الجسر بينهما مرئيًا. كما امتلأت الأرض المنخفضة بمياه الأمطار، بعمق ثلاث أو أربع أقدام. بقيت المياه فترة طويلة حتي جفت. غطي ورد النهر الذي نما عشوائيا الأرض المنبسطة المغمورة بالمياه، وجعلت أوراقه السطح الخارجي يبدو متماسكا وصلبا. سطح أخضر في مقابل زرقة السماء. تقف الكهوف الفقيرة متراصة بمحاذاة المستنقعين. يجتازهما الفقراء ليجمعوا ما كان صالحا للطعام. في الخريف، وصلت طيور البلشون. اتسخ ريشها الأبيض من سخام المدينة، متربصة بهدوء في انتظار صيدها. في الطقس الرطب ل كلكتا، كان التبخير بطيئا. لكن في النهاية بخرت الشمس معظم المياه، كاشفة عن الأرض الرطبة مرة أخري. عبر سباشوأودين الأرض المنخفضة عدة مرات. إنها طريق مختصرة إلي الملعب بضواحي الحي، حيث يذهبان ليلعبا كرة القدم. يعبران حصائر ورد النهر الباقية بالمكان ليتجنبا التعثر في الوحل. يتنفسان الهواء الرطب. بعض الطيور تضع بيضها القادر علي تحمل الموسم الجاف. أما الآخرون فينجون بدفن أنفسهم في الطين، متظاهرين بالموت، في انتظار عودة الأمطار.
2
لم تطأ أقدامهما أبدا نادي توللي مثل معظم سكان المقاطعة الذين مروا بجانب البوابة الخشبية والجدران المبنية بالطوب مئات المرات. اعتاد والدهما مشاهدة سباقات الخيل حول ميدان السباق من خلف الجدران حتي منتصف الأربعينات. كان يشاهدها من الشارع واقفا بين المراهنين والمشاهدين غير القادرين علي دفع ثمن التذكرة، أو دخول النادي. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي ولد به سباش وأودين تقريبا، ارتفعت الجدران لذلك لم يعد العامة قادرون علي مشاهدة السباقات مرة أخري. كان جارهما بسم الله يعمل مساعد لاعب جولف بالنادي. كان مسلٌمًا بقي في توليجانش بعد تقسيم الهند. باعهما كرات الجولف الضائعة أو المتروكة في الملعب مقابل بيزات قليلة. بعضها به قطع يكشف عن الحشو المطاطي الوردي مثل جرح في الجلد. في البداية ضربا الكرة المدملة جيئة وذهابا بالعصيان. ثم باعهما بسم الله أيضا مضربًا ذا رأس معدني ملتويًا قليلا. أتلفه لاعب خاسر، ضربه بقوة في الشجرة.
علمهما بسم الله كيف ينحنيان للأمام، وأين يضعان أيديهما. فحفرا الحفر في الوحل، لتحديد أهداف لعبهما بحرية تامة، وحاولا إدخال الكرات بها. وبرغم أنهما كانا في حاجة لمضرب حديدي مختلف لضرب الكرات لمسافات أبعد، لكنهما استخدما نفس المضرب علي أي حال. لكن الجولف لم يكن مثل كرة القدم أو الكروكيه. ليس رياضة يستطيع الأخوان أن يرتجلاها بشكل يرضيهما. في طين الملعب، حفر بسم الله بأظافره خريطة لنادي توللي ثم محاها. أخبرهما أن بالقرب من المبني هناك حمام سباحة، اسطبلات، وملعب تنس. كذلك مطاعم، حيث يسكب الشاي من أباريق فضية، وحجرات بلياردو وألعاب الورق. الموسيقي تتصاعد من الفونجرافات. الجرسونات في سترات بيضاء يعدون عصائر تسمي السيدة الوردية وجن فيز. قامت مؤخرا إدارة النادي ببناء المزيد من الجدران الفاصلة، لتبعد المتطفلين. لكن بسم الله قال إن هناك بعض أجزاء من أسلاك السياج يمكن لأي شخص الدخول منها، بطول الجانب الغربي. انتظرا حتي حلول الغروب. الوقت الذي يتوقف فيه لاعبو الجولف عن اللعب ليتجنبوا البعوض ويعودون إلي مبني النادي ليحتسوا العصائر. احتفظا بالخطة لأنفسهما ولم يخبرا جيرانهما. مشيا حتي المسجد بملتقي الشارعين، حيث مأذنة مميزة باللونين الأحمر والأبيض من بين المباني المحيطة. ثم انعطفا للطريق الرئيسي حاملين المضرب الحديدي وصفيحتي كيروسين.
عبرا الجانب الآخر من استوديو الفنانين. اتجها نحو حقول الأرز حيث جري نهر "أدي غانجا" في يوم ما. مصب نهر الغانجا المتفرع من الجنوب الشرقي حتي خليج بنجلاديش. كان راكدًا حينها، محاطًا بمستوطنات الهندوس الهاربين من دكا، وراجشاهي، وشيتاغونغ. قطاع من السكان المشرد الذي استضافته كلكتا ثم تجاهلته. منذ عقد، بعد تقسيم الهند، انتشروا بأجزاء من تولليجانج من ناحية الطريق المؤدي للأرض المنخفضة والذي حجبته الأمطار الموسمية. استلم بعض موظفي الحكومة منازل في برنامج التبادل. لكن الأغلبية كانت من اللاجئين، توافدوا في مجموعات، مطرودين من أرض أسلافهم. بدأ الأمر بموجات قصيرة ثم تكاثرت الأعداد كفيضان. تذكرههما سباش وأودين. مسيرة متجهمة. سرب بشري. الرضع مطوقون حول صدور آبائهم، القليل منهم فوق رؤوسهم.
بنوا عششًا للاجئين، سقوفها من الكتان أو القش، وجدرانها من الخيزران المربوط بإحكام. عاشوا بدون نظام صحي وبدون كهرباء. عشش قذرة بجانب كومات الزبالة، في أي مساحة صالحة للبناء. إنهم السبب في أن يكون أدي جانجا قناة مجاري لجنوب غرب كلكتا، حيث يوجد نادي توللي حاليا. كما أنهم السبب في بناء إدارة النادي المزيد من الجدران.
لم يجد سباش وأودين سياجًا شائكًا، فتوقفا عند جدار منخفض يسمح لهما بالتسلق. كانا يرتديان سراويل قصيرة. جيوبهما محشوة بكرات الجولف. قال بسم الله إنهما سيجدان الكثير منها بالنادي، حيث الكرات علي الأرض، بجانب القرون الذابلة الساقطة من أشجار التمر الهندي.
قذف أودين بالمضرب الحديدي عبر الجدران ثم واحدة من علب الكيروسين. فالوقوف علي علبة الكيروسين الباقية سيعطي سباش الطول المناسب ليتخطي الجدار. لكن أودين حينها كان أقصر ببوصات. قال ل سباش:
- اعقد أصابعك.
شبك سباش يديه. شعر بثقل قدميّ أخيه، النعل البالي لصندله، ثم جسده كله. ضغط نفسه لأسفل للحظة، ثم رفع جسده بسرعة عاليا وامتطي الجدار. سأله سباش:
- هل أبقي لحراسة هذا الجانب حتي تستكشف المكان؟ هل المكان جميل؟ ماذا تري يا أودين
- اقفز لتري بنفسك.
دفع سباش علبة الكيروسين بالقرب من الحائط. صعد فوقها، وأحس بالعلبة المجوفة ترتعش تحت ثقل جسده. حثه أودين:
- اسرع يا سباش.
عدل من جلسته وحرك جسده للجانب الآخر ولم يعد يظهر منه سوي أطراف أصابعه. ثم أفلت يديه وسقط. كان سباش يسمع لهاثه. سأله:
- أنت بخير
- بالطبع. الآن دورك.
قبض سباش علي الجدار بيديه، متشبثا به بصدره، ومكوما ركبتيه. كالمعتاد لم يكن متأكدا إذا كان محبطا أكثر بسبب جسارة أودين أم بسبب افتقاده إياها. كان سباش في الثالثة عشر، يسبق أخيه بخمسة عشر شهرا. لكنه لا يشعر بأهميته بدون أودين. كل ذكريات طفولته، في كل خطوة، كان أخيه موجودا. فجأة لم يعودا موجودين ب تولليجانج. في إمكانهما سماع حركة السير مستمرة في الشارع ولكنه لم يعد في مجال رؤيتهما. كانا محاطين بأشجار الجوز والكافور والأشجار المزهرة.
لم ير سباش أبدا عشبًا مستويًا كسجادة مثل هذا، ممتدًا علي منحدرات الأرض المائلة. متموجًا مثل كثبان الرمال بصحراء، أو مثل موجات بحر هادئة. كان مقصوصا بعناية حول حفر الجولف، ملمسه كطحلب عند الضغط عليه. بدت الأرض ملساء كفروة رأس تنعكس الأضواء عليها.
لم ير أبدا هذا العدد الكبير من طائر البلشون في مكان واحد، تحلق بعيدا كلما اقترب منها. تمتد ظلال الأشجار علي العشب الأخضر. يتخيل ابتعاد فروعها الرقيقة كلما نظر ناحيتها، مثل أعضاء حميمية لامرأة.
كانا يشعران بالإثارة لدخولهما النادي، لخوفهما من أن يراهما أحد. لكنهما لم يريا أي حارس، سواء مرتجلا أو ممتطيا حصانًا، أو بستاني ليمسك بهما. بدآ في الاسترخاء والبحث عن الأعلام المغروسة بطول الملعب. تشير الحفر التي كانت مثل سرات في الأرض إلي حيث يجب أن تذهب كرات الجولف. هناك حفر ضحلة من الرمال منثورة هنا وهناك. البرك حول الحفر لها شكل غريب، مثل القطرات تحت الميكروسكوب.
بقيا بعيدا عن المدخل الرئيسي. لم يغامرا بالاقتراب من مبني إدارة النادي، حيث الأجانب المحبين يتنزهون وأذرعهم متشابكة، أو يجلسون علي كراسي الخيزران تحت الأشجار. أخبرهما بسم الله أنهم يقيمون أحيانا حفل عيد ميلاد لأطفال إنجليز مازالوا يعيشوا بالهند. يتناولون المثلجات ويركبون المهور، ويلتفون حول تورتة بها شموع مشتعلة. رغم أن نهرو كان رئيس الوزراء حينها، لكن كانت صورة الملكة إليزابيث الثانية تتصدر حجرة الاستقبال.
في ركنهما المهمل، بصحبة الجاموس الذي ضل طريقه للداخل، تمايل أودين بقوة رافعا ذراعيه فوق رأسه، متظاهرا باللعب وملوحا بالمضرب الحديدي مثل سيف. خرب العشب البكر، وقذف ببعض كرات الجولف في برك الماء. استقرت هناك في انتظار المضارب.
كان سباش حذرا، يسترق السمع لحوافر الأحصنة القريبة علي المسارات الحمراء الترابية العريضة. سمع صوت نقر عصافير. وصوت ضربات منجل بعيد، حيث يتم قص العشب في مكان ما بالنادي باليد.
قطعان من بنات آوي تجلس منتصبة في مجموعات، جلودها ذات اللون الأسمر المصفر أصبحت مبرقشة بالرمادي. حين انحصر الضوء، نهض القليل منها للبحث عن طعام. انتصبت هيئتها الهزيلة سريعا باستقامة. يتردد عواؤها الهائج في أنحاء النادي، في إشارة لتأخر الوقت، وحتمية عودة الأخوين إلي المنزل.
تركا علبتي الكيروسين، واحدة في كل جانب، ليميزا المكان. وتأكدا أنهما أخفيا العلبة التي وراء السور خلف بعض الشجيرات.
في الزيارات التالية، جمع سباش الريش واللوز. ورأي النسور تسبح في البرك، ثم تبسط أجنحتها لتجف.
ذات مرة، وجد بيضة سليمة وقعت من عش أحد الطيور. حملها بحرص شديد لمنزله. وضعها في وعاء طيني اشتراه من متجر حلوي، ثم غطاه بفروع أشجار صغيرة. وعندما لم تفقس، حفر حفرة من أجلها في الحديقة خلف المنزل، أسفل شجرة المانجو.
ذات أمسية، ألقيا المضرب الحديدي من أعلي الجدار، وقفزا للجانب الآخر، لكنهما لم يعثرا علي علبة الكيروسين. قال أودين:
- شخص ما وجدها وأخذها.
وبدأ في البحث عنها. كان الضوء ضعيف.
- هل هذا ما تبحثا عنه أيها الأولاد؟
كان شرطيًا ظهر فجأة، يقوم بدورية حراسة حول النادي. كان في استطاعتهما تمييز شموخه وزيه. كان ممسكا بعلبة الكيروسين بيديه. خطي بعض الخطي في اتجاههما، ونظر للمضرب الحديدي علي الأرض، ثم التقطه وفحصه. جلس فوق علبة الكيروسين وأضاء مصباحا يدويا ثم أداره نحو وجه كل منهما، نزولا لأجسامهما. سأل:
- أنتما أخوان؟
- أومأ سباش.
- ماذا بجيوبكما؟
أخرجا كرات الجولف وأعطياها له. شاهدا الشرطي يضعها في جيوبه. أبقي واحدة فحسب بيديه، يرفعها في الهواء ثم يلتقطها.
- كيف جئتما لهنا؟
لم يتكلما.
- هل دعاكما أحدهم اليوم لتلعبا الجولف بالنادي؟
هزا رأسيهما نفيا.
- أنتما لستما في حاجة لأخبركما أن هذه الأراضي خاصة.
أراح مقبض المضرب الحديدي قليلا فوق ذراع سباش. وسأله:
- هل هذه زيارتك الأولي؟
أجاب سباش::
- لا.
- هل كانت فكرتك؟ أليس أنت كبير بشكل كاف لتعرف أكثر؟
قال أودين:
- كانت فكرتي أنا.
قال الشرطي لسباش:
- لك أخ مخلص. يريد أن يحميك. ويرغب في العقاب بدلا منك.
ثم أكمل حديثه:
- سأقدم لكما خدمة, لن أذكر ما حدث لإدارة النادي. طالما لن تحاولا العودة مرة اخري.
قال سباش::
- لن نعود مرة أخري.
- جيد. هل أرافقكما إلي المنزل أم من الأفضل إنهاء محادثتنا هنا؟
- هنا.
- إذن، استدر. أنت فقط.
أدار سباش وجهه للجدار. فقال له الشرطي:
- اخطو خطوة للأمام.
ثم شعر بالمقبض الحديدي يضرب فخذيه، وقدميه. الضربة القوية الثانية كانت علي يديه وركبتيه. أخذت التورمات عدة أيام حتي اختفت.
لم يضربهما والداهما أبدا. لم يشعر بشئ في البداية، فقط بعض الخدر. ثم احساس مؤلم مثل ماء مغلي ينطلق في شرارات من مقلاة علي جلده.
صاح أودين بالشرطي:
- توقف.
وانحني بجانب سباش، ملقيا ذراعه علي كتفيه، محاولا أن يغطيه. ضغطا جسديهما معا، وحميا نفسيهما. كانت رأسهما منحنيين، وعيونهما مغلقة، بينما يترنح سباش من الألم. لم يحدث شئ آخر. سمعا صوت ارتطام المضرب الحديدي بالجدار، سقط لمرة أخيرة فوق أراضي النادي. ثم انسحب الشرطي، الذي لم يرد شيئًا آخر منهما.
3
منذ طفولته، كان سباش هادئا. لم تضطر أمه أبدا للركض وراءه. كان يبقي بصحبتها، يراقبها وهي تطهو علي فحم الموقد، أو تطرز ثياب الساري والقمصان بتكليف من خياط السيدات بالحي. يساعد والده في زراعة زهور الداليا التي يزرعها في أصص في فناء المنزل. الزهور المتوردة تتلون بالبنفسجي والبرتقالي والقرنفلي، وتميل في بعض الأحيان للأبيض. كانت ألوانها الزاهية تترك أثرًا بجانب جدران الفناء الباهتة. كان ينتظر انتهاء ألعاب الفوضي وسكون الصيحات ليستمتع بالهدوء. وقته المفضل دوما عندما يكون بمفرده. مستلقيا بالفراش في الصباح، يراقب أشعة الشمس الوامضة كطائر قلق علي الجدار.
يضع الحشرات تحت الشاشة المقببة ليفحصها. عندما تغسل أمه الأطباق علي أطراف المستنقع بالحي إذا لم تأت الخادمة، يقعر يديه في الماء العكر ليبحث عن الضفادع. يعيش في عالمه الخاص. حتي أن الأقارب في التجمعات الكبيرة كانوا غير قادرين علي استخراج رد فعل منه، أحيانا كان يتحدث معهم.
بينما يجلس سباش في وضع مرئي، كان أودين يختفي: حتي في حجرتهما الخاصة حين كان صبيا، كان يختبيء بشكل لا إرادي تحت الفراش، خلف الأبواب، في الصندوق حيث ألحفة الشتاء المخزنة.
يلعب تلك اللعبة بدون الاعلان عنها. يختفي بعفوية، يتسلل للحديقة الخلفية، يتسلق شجرة، ويجبر أمه عندما تنادي عليه ولا تتلقي إجابة، أن تتوقف عما تفعله. وبينما تبحث عنه، بينما تلاطفه وتصيح باسمه، يري سباش طيف هلع خاطف علي وجهها، خوفا من اختفائه للأبد. عندما كبرا بشكل كاف، سُمح لهما بالخروج بمفردهما. كانت التعليمات ألا يغيب أحدهما عن نظر الآخر. تجولا معا في الحارات المتعرجة للمقاطعة، خلف المستنقعين وعبر الأرض المنخفضة، وصولا للملاعب حيث يقابلا أحيانا الأولاد الآخرين. كانا يذهبا للمسجد في الزاوية ليجلسا علي أدراجه الرخامية الباردة، ويستمعان أحيانا لمباراة كرة قدم في راديو أحدهم. لم يكن حارس المسجد يكترث لهما.
أخيرا حصلا علي إذن بالخروج من المقاطعة والذهاب إلي المدينة الكبيرة. هناك ابتعدا قدر إمكانهما، وركبا الترام والأوتوبيسات بنفسهما. وبقي المسجد بالزاوية، مكان عبادة أصحاب الديانة الأخري، واجهة لذهابهما وقدومهما.
في مرحلة ما، بدآ التسكع حول ستوديو الفنانين، لأن أودين اقترح ذلك. حيث كان المخرج ساتياجيت راي يصور فيلم "أغنية الطريق القصير"، وحيث يقضي نجوم السينما البنغالية وقتهم. كانا يعرفان أحد العاملين بالتصوير، ساعدهما علي الدخول وسط كومة من الأسلاك والكابلات والأضواء الساطعة. بعد دعوة السكوت والكلاكيت، رأيا المخرج وطاقمه يصورون ويعيدون تصوير مشهد واحد عدة مرات لإتمام عدد قليل من أسطر السيناريو. يوم كامل من العمل مكرس لدقيقة من الرفاهية. خطف أبصارهما ممثلات جميلات يخرجن من غرف الملابس، مختبئات وراء نظاراتهن الشمسية، ثم دخلن سيارات في انتظارهن. كان أودين جريئا بشكل كاف ليطلب منهن توقيعًا. كان عاجزًا عن كبح عواطفه، مثل حيوان جامح. لكن سباش جاهد ليقلص وجوده، مثل الحيوانات الخجولة.
رغم اختلافهما لكن الخلط بينهما سهل. لذلك عندما يُنادي علي أحدهما، كانا كلاهما يستعد للإجابة. وأحيانا كان من الصعب معرفة من الذي أجاب، لتطابق صوتيهما. يجلسان حول رقعة الشطرنج كمرآه وانعكاسها: قدم مطوية والأخري ممدودة، والذقن مسنودة علي الركبة. كانا متشابهين في بنيتهما بشكل كاف ليجعلهما يرتديان نفس الملابس. لهما نفس اللون النحاسي الفاتح الموروث من والدهما. كانا متجانسين. مفاصل أصابعهما، وملامحهما الحادة، وشعرهما المتموج.
تخوف سباش من طبيعته الهادئة وتساءل إذا رأي والديه أنها تعني نقص في الابتكار، ربما رأيا أنها خيبة. لم يكن علي والديه أن يقلقا عليه، لم يقوما بتمييزه. أصبحت مهمته طاعتهما، لم يكن من الممكن أن يفاجئهما أو يترك بصمته الخاصة لأن هذا من اختصاص أودين.
بالفناء الخلفي لمنزل العائلة، هناك أكبر قدر من ميراث أودين من الأخطاء التي لا تمحي. أثر طبعة قدمه. طبعها في اليوم الذي رصف فيه السطح الترابي. ذلك اليوم الذي تلقوا فيه تعليمات بعدم الخروج حتي يجف الأسمنت.
طوال اليوم كانا يراقبان البناء أثناء اعداده الأسمنت في عربة يد، ثم يفرده ويصقله بأدواته. حذرهم البناء قبل رحيله ألا يخطو فوقه لأربعة وعشرين ساعة.
أطاعه سباش. كان يشاهد من النافذة ولم يخرج للفناء. لكن بمجرد انشغال أمهما عنهما، جري أودينفوق اللوح الخشبي الطويل الذي وضع مؤقتا ليصل المنزل بالشارع. فقد توازنه في منتصف اللوح الخشبي تاركا دليل مروره بطبع باطن قدمه، مثل ساعة رملية بالمنتصف، ثم أصابع قدميه المنفصلة عن باطن القدم.
في اليوم التالي، بعث والدهما في طلب البناء مرة أخري. كان السطح قد جف، والأثر الذي تركه أودين أصبح دائما. كان الحل الوحيد لإصلاح ما حدث هو وضع طبقه أخري من الأسمنت. تساءل سباش إذا كان أخوه أخطأ خطأ كبير في هذه المرة. لكن البناء قال لوالديهما:
أتركه كما هو -
ليس للتكلفة أو للمجهود المضاعف، لكن بسبب اعتقاده أن من الخطأ محو خطوات اتخذها ولده. بذلك صار هذا الخلل علامة تميز منزلهما. علامة يلاحظها الزائرون. وأول طرفة تحكيها الأسرة.
كان من المحتمل ذهاب سباش إلي المدرسة قبل أخيه بعام. لكن لتحر الوقت المناسب وأيضا بسبب اعتراض أودين علي فكرة ذهاب سباش إلي المدرسة بدونه تأجل ذهابه للعام التالي. ذهبا سويا إلي نفس الفصل الدراسي بمدرسة بنغالية متوسطة للأولاد من العائلات المتوسطة، وراء محطة الترام، مرورا بالمقابر المسيحية.
في دفترين متطابقين، لخصا تاريخ الهند وتأسيس كلكتا. رسما الخرائط ليتعلما جغرافيا العالم. درسا أن تولليجانج قد بُنيت علي أرض محتلة. وأن مجري الخليج البنغالي عندما كان قويا منذ قرون مضت، كان ممتلئًا بأشجار القرم. المستنقعان وحقول الأرز والأرض المنخفضة بقايا كل هذا.
رسما صور لأشجار القرم كجزء من دروس العلوم. جذورها المتشابكة علي سطح الماء، مسامها الإضافية للحصول علي الهواء. شجيراتها الممتدة تسمي براعم منفصلة، تشبه السيجار.
تعلما إذا سقطت تلك البراعم في وقت انحسار الجذر تتكاثر بجانب آبائها، تغرز نفسها بالمستنقع المالح. لكن في المد المرتفع، تنجرف من منبتها، لمدة تزيد علي عام، قبل أن تنمو في بيئة ملائمة.
أزال الإنجليز الغابة المغمورة بالمياه، ورسموا وخططوا الشوارع. في عام 1770، أسسوا ضاحية وراء الحدود الجنوبية لكلكتا، كان سكانها الأوائل من الأوروبيين. ضاحية حيث يمكن للغزال التجول، وللطائر الرفراف التحليق في الأفق.
شق الرائد ويليام توللي، الذي سميت المنطقة تيمنا باسمه، فرعا من نهر أدي غانجا، وعرف باسم توللي نولا، جاعلا التجارة الملاحية ممكنة بين كلكتا وشرق بنجلاديش.
تعود أراضي نادي توللي في الأصل إلي ريتشارد جونسن، مدير البنك العام الهندي. في عام 1785 بني فيلا علي طراز بالاديو، واستورد أشجارا إلي تولليجانج من كل أنحاء البلاد والجزر شبه الاستوائية.
في بداية القرن التاسع عشر، احتجزت شركة الهند الشرقية الإنجليزية أرملة السلطان تيبو وأبناءه في ممتلكات جونسون، بعد مقتل تيبو حاكم سلطنة مايسور الهندية في حرب الأنجلو مايسور الرابعة.
نُقلت الأسرة المعزولة من سيرنجاباتم بأقصي جنوب غرب الهند. وبعد إطلاق سراحهم، مُنحوا أراض في تولليجانج ليعيشوا بها. وفي الوقت الذي انتقل فيه الإنجليز إلي وسط كلكتا، أصبحت تولليجانج مدينة ذات غالبية إسلامية. بالرغم من أن التقسيم حوّلهم إلي أقلية مرة أخري، لكن بقي الكثير من أسماء الشوارع إرث سلالة تيبو النازحة: شارع سلطان علام، شارع الأمير بختيار شاه، شارع الأمير جولام محمد شاه وزقاق الأمير رحيم الدين.
بني جولام محمد المسجد الكبير في دارمات الله في ذكري وفاة والده. ولفترة سُمح له بالإقامة في فيلا جونسون. لكن بحلول عام 1895، عندما أخطأ الاسكتلندي ويليام كروكشانك طريقه ممتطيا حصانه إلي داخل الفيلا الضخمة باحثا عن كلبه المفقود، وجد الفيلا مهجورة، يعيش بها قطط الزباد وتغطي النباتات المتسلقة جدرانها.
رمم كروكشانك الفيلا من جديد وحولها إلي النادي الريفي. أصبح أول مدير له. في بداية الثلاثينات، مد خط الترام حتي الجنوب من أجل الإنجليز. كان هذا لتسهيل رحلتهم إلي نادي توللي الذي يقصدونه هروبا من فوضي المدينة، وليكونوا في أملاكهم.
في المدرسة الثانوية درسا الأخوان علم البصريات، الأعداد الذرية للعناصر، خصائص الضوء والصوت. درسا اكتشاف هرتز للموجات الكهرومغناطيسية، وتجارب ماركوني مع الإرسال اللاسلكي. أوضح جاديش شاندرا بوس، العالم البنغالي، في تجربة بقاعة مدينة كلكتا، أن الموجات الكهرومغناطيسية قد تشعل البارود، وقد تجعل الجرس يرن من علي بعد.
كل ليلة، علي جانبي طاولة المذاكرة المعدن، يجلسا أمام كتبهما، دفاترهما، أقلامهما الرصاص والممحاة، وفي نفس الوقت معهما لعبة الشطرنج.
يسهران لوقت متأخر ليعملا علي المعادلات والقوانين الرياضية. كان الليل هادئا لدرجة تمكنهما من سماع عواء أبناء آوي بنادي توللي. في بعض الأحيان يظلان ساهرين حتي تبدأ الغربان في العراك في انسجام، في إشارة إلي بداية يوم آخر.
لم يكن أودين يخاف من معارضة معلميه حول الهيدروليات أو الصفائح التكتونية. كان يلوح بيديه ليفسر ما يقوله، ليؤكد آراءه. تبادل حركة يديه يشيرإلي أن الجزيئات والجسيمات في قبضة يديه. أحيانا كان يتم طرده من الفصل الدراسي. قيل إنه متأخر عن زملائه في حين إنه في الحقيقة كان متقدما عنهم.
في نهاية المرحلة الثانوية، عين والدهما مدرسا خصوصيا ليعدهما للعبور من اختبارات الجامعة. عملت أمهما ساعات إضافية لتغطي النفقات. كان رجلا جادا، له جفون مشلولة مفتوحة دوما ومشبك علي نظارته. يأتي كل ليلة للمنزل ليراجع ازدواجية موجة-جسيم، قوانين الانكسار والانعكاس. جعلهما يحفظنا عن ظهر قلب قاعدة فيرما: أقصر الأوقات لتعيين مسار الضوء بين نقطتين.
بعد دراسة أساسيات الدوائر الكهربائية، بدأ أودين اكتشاف النظام الكهربائي بمنزلهم بنفسه. حصل علي مجموعة من الأدوات، وبدأ في تصليح الكابلات العطلانة ومفاتيح الكهرباء وربط الأسلاك، وإزالة الصدأ الذي أصاب المروحة. أصاب أمه بالهلع حتي إنها كانت تغطي إصبعها باستمرار بقماش الساري لأنها كانت مذعورة من لمس مفتاح الكهرباء بأصبعها المجرد.
عندما احترق فيوز، ارتدي أودين خفا مطاطيا غير ناقل للكهرباء. فحص الدائرة الكهربائية وفك الفيوز، بينما سباش ممسكا المصباح اليدوي له. في أحد الأيام، جاء إلي المنزل معه سلك وقرر تركيب جرس لباب المنزل من أجل الزوار. ركب المحول في صندوق الفيوز والزر الأسود الخاص بالجرس في الباب الرئيسي. طرق بالمطرقة في الجدار محدثا حفرة ليدخل الأسلاك من خلالها. بمجرد تركيب الجرس، قال أودين:
- لابد من استخدامه لممارسة شفرة مورس.
حين وجد كتابًا عن التلغراف بالمكتبة، كتب أودين نسختين من النقط والخطوط الفاصلة تطابق الحروف الأبجدية، واحدة لكل منهما ليحفظاها.
رنين الخط الفاصل أطول من رنين النقطة بثلاثة أضعاف. وكل من النقطة والخط الفاصل يتبعه فترة سكون. كما أن هناك ثلاث نقط بين الحروف، وسبع نقاط بين الكلمات. عرفا أنفسهما بالحروف الأولي من أسمائهما. فالحرف s الخاص ببسباش الذي استقبله ماركوني عبر المحيط الأطلنطي، كان ثلاث نقاط سريعة. أما U الخاص بأودين فكان نقطتين وخط فاصل.
تبادلا الأدوار. وقف أحدهما بجانب الباب خارج المنزل، والآخر بداخله. يضغط من بالخارج الجرس للآخر الذي يحاول فك الشفرة. نجحا بشكل كاف في إرسال رسائل مشفرة لم يفهمها والداهما. اقترح أحدهما "سينما" لكن رد الآخر "لا، محطة الترام، سجائر".
ألفا سيناريوهات. تظاهرا بأنهما جنديان أو جاسوسان في مأزق. يحاولان التواصل خفية في ممر جبلي بالصين أو غابة روسية أو حقل قصب السكر بكوبا.
"مستعد"
"بوضوح"
"إحداثيات؟"
"مجهولة"
"الناجون"
"إثنان"
"الخسائر"
بالضغط علي الجرس، كانا يخبران بعضهما أنهما جائعان، وأنهما يجب أن يلعبا كرة القدم، وأن هناك فتاة جميلة تمر بجانب المنزل. كان الجرس أرجوحتهما الخاصة، الطريقة التي يقذف بها لاعبان الكرة بينهما بينما يتقدمان معا ليحرزا هدفًا. وإذا رأي أحدهما معلمهما قادمًا، يضغطان SOS. ثلاث نقاط، ثلاثة خطوط فاصلة، ثلاث نقاط.
دخل إثنان من أفضل الجامعات بالمدينة. التحق أودين بجامعة برزندنسي ليدرس الفيزياء. أما سباش فالتحق بجامعة جي يو لدراسة الهندسة الكيميائية. كانا الشابين الوحيدين من الحي، والطالبين الوحيدين من مدرستهما العليا غير المميزة، لقد أنجزا بشكل جيد.
من أجل الاحتفال، ذهب والدهما إلي المتجر واشتري كاجو وماء الورد لطهو أرز البيلاف، ونصف كيلو من أفخر أنواع الجمبري. بدأ عمله وهو في التاسعة عشر من عمره ليساعد عائلته. وكان عدم إلتحاقه بالجامعة أسفه الوحيد. عمل بمنصب كهنوتي بسكة حديد الهند، وعندما شاع نجاح ولديه في الحي، قال إنه لم يعد قادراعلي المشي خارج المنزل بدون أن يوقفه أحدهم ليهنئه.
أخبرهم ألا يقوموا بتهنئته هو. فالفضل يعود لولديه اللذين عملا بشكل جدي، وميزا نفسيهما. وما وصلا إليه، حققاه بنفسيهما. سألهما ماذا يريدان كهدية، اقترح سباش أن يجلب لهما شطرنج رخامي بدلا من الشطرنج الخشبي الرث. لكن أودين كان يريد راديو قصير الموجات. كان يريد معرفة أخبار عن العالم أكثر مما يقدمه لهما راديو والديهما القديم المغطي بخزانة خشبية، أو ما كانت تقدمه جريدة بنغالي اليومية الملفوفة كغصن شجرة رفيع لإلقائها من فوق جدار فناء المنزل في الصباح.
قاما بجمع أجزاء الراديو بأنفسهما، بحثا في متجر كلكتا الجديد ودكاكين الخردة، ووجدا أجزاء من فائض الجيش الهندي. اتبعا مجموعة من التعليمات المعقدة، ومخطط الدائرة الكهربائية المهترئ. وضعا القطع علي السرير: هيكل راديو معدني، المكثفات، المقاومات المختلفة، والسماعات. لحما الأسلاك، وعملا سويا لإتمام المهمة. عندما أتماها في النهاية وأغلقا هيكل الراديو، أصبح يشبه حقيبة سفر صغيرة، بمقبض مربع. مصنوع من المعدن، ولونه أسود.
كان الإرسال دوما أفضل في الشتاء عن الصيف. وبشكل عام أفضل أثناء الليل. كان هذا عندما تتوقف الفتونات الشمسية عن تفتيت الجزيئات في الغلاف الأيوني. عندما تنضم الجزيئات الإيجابية والسلبية معا بسرعة.
كانا يتبادلان الأدوار بجانب النافذة، والراديو بأيديهم في أوضاع مختلفة، يضبطان الهوائي ويتلاعبان بأزرار تلقي الموجات. يديران إبرة الردايو ببطء قدر استطاعتهما. لقد نشئا مطلعين علي نطاقات/خطوط التردد.
بحثا عن الإذاعات الأجنبية. نشرة أخبار من راديو موسكو، صوت أمريكا، راديو بكين، إذاعة بي بي سي. سمعا معلومات عشوائية آتية من علي بعد مئات الأميال، برزت من تداخلات متشابكة مهتاجة كأمواج محيط، ومرتعشة مثل رياح. حالة الطقس في وسط أوروبا، أغاني فولكورية من أثينا وخطاب لجمال عبد الناصر. تقارير من دول تمكنت من تخمين لغتها: فنلندي، تركي، كوري، برتغالي. كان هذا في عام 1964، معركة خليج تونكن سمحتلأمريكا بالتدخل العسكري في فيتنام، وهناك انقلاب عسكري في البرازيل.
في كلكتا، تم إطلاق فيلم "الزوجة الوحيدة" في السينما. حدوث موجة جديدة من الشغب بين المسلمينوالهندوس وقتل أكثر من مائة شخص بعد سرقة أثر مقدس من أحد المساجد في سرينجار. هناك انقسام بين الشيوعيين الهنود حول الصراع علي الحدود مع الصين الذي حدث منذ عامين. المجموعة المنشقة التي تعاطفت معالصين، تطلق علي نفسها الآن الحزب الشيوعي الهندي أو الماركسيين.
حزب الكونجرس الوطني الهندي لا يزال قيد الحكومة المركزية بدلهي. بعد رحيل "نهرو" أثر إصابته بأزمة قلبية في هذا الربيع، دخلت ابنته "انديرا" مجلس الوزراء. وفي خلال عامين ستصبح رئيسة الوزراء.
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015
1
شرق نادي توللي، بعد تفرع طريق ديشبرن ساسمل لطريقين، هناك بالزاوية مسجد صغير. يؤدي المنعطف إلي مقاطعة هادئة، مكتظة بالأزقة الضيقة وبمنازل الطبقة المتوسطة البسيطة. يوما ما، تراكمت المياه مكونة مستنقعين مستطيلين متجاورين. تمتد خلفهما لعدة أفدنة أرض منخفضة. بعد الرياح الموسمية، ارتفع مستوي المياه بالمستنقعين، ولم يعد الجسر بينهما مرئيًا. كما امتلأت الأرض المنخفضة بمياه الأمطار، بعمق ثلاث أو أربع أقدام. بقيت المياه فترة طويلة حتي جفت. غطي ورد النهر الذي نما عشوائيا الأرض المنبسطة المغمورة بالمياه، وجعلت أوراقه السطح الخارجي يبدو متماسكا وصلبا. سطح أخضر في مقابل زرقة السماء. تقف الكهوف الفقيرة متراصة بمحاذاة المستنقعين. يجتازهما الفقراء ليجمعوا ما كان صالحا للطعام. في الخريف، وصلت طيور البلشون. اتسخ ريشها الأبيض من سخام المدينة، متربصة بهدوء في انتظار صيدها. في الطقس الرطب ل كلكتا، كان التبخير بطيئا. لكن في النهاية بخرت الشمس معظم المياه، كاشفة عن الأرض الرطبة مرة أخري. عبر سباشوأودين الأرض المنخفضة عدة مرات. إنها طريق مختصرة إلي الملعب بضواحي الحي، حيث يذهبان ليلعبا كرة القدم. يعبران حصائر ورد النهر الباقية بالمكان ليتجنبا التعثر في الوحل. يتنفسان الهواء الرطب. بعض الطيور تضع بيضها القادر علي تحمل الموسم الجاف. أما الآخرون فينجون بدفن أنفسهم في الطين، متظاهرين بالموت، في انتظار عودة الأمطار.
2
لم تطأ أقدامهما أبدا نادي توللي مثل معظم سكان المقاطعة الذين مروا بجانب البوابة الخشبية والجدران المبنية بالطوب مئات المرات. اعتاد والدهما مشاهدة سباقات الخيل حول ميدان السباق من خلف الجدران حتي منتصف الأربعينات. كان يشاهدها من الشارع واقفا بين المراهنين والمشاهدين غير القادرين علي دفع ثمن التذكرة، أو دخول النادي. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي ولد به سباش وأودين تقريبا، ارتفعت الجدران لذلك لم يعد العامة قادرون علي مشاهدة السباقات مرة أخري. كان جارهما بسم الله يعمل مساعد لاعب جولف بالنادي. كان مسلٌمًا بقي في توليجانش بعد تقسيم الهند. باعهما كرات الجولف الضائعة أو المتروكة في الملعب مقابل بيزات قليلة. بعضها به قطع يكشف عن الحشو المطاطي الوردي مثل جرح في الجلد. في البداية ضربا الكرة المدملة جيئة وذهابا بالعصيان. ثم باعهما بسم الله أيضا مضربًا ذا رأس معدني ملتويًا قليلا. أتلفه لاعب خاسر، ضربه بقوة في الشجرة.
علمهما بسم الله كيف ينحنيان للأمام، وأين يضعان أيديهما. فحفرا الحفر في الوحل، لتحديد أهداف لعبهما بحرية تامة، وحاولا إدخال الكرات بها. وبرغم أنهما كانا في حاجة لمضرب حديدي مختلف لضرب الكرات لمسافات أبعد، لكنهما استخدما نفس المضرب علي أي حال. لكن الجولف لم يكن مثل كرة القدم أو الكروكيه. ليس رياضة يستطيع الأخوان أن يرتجلاها بشكل يرضيهما. في طين الملعب، حفر بسم الله بأظافره خريطة لنادي توللي ثم محاها. أخبرهما أن بالقرب من المبني هناك حمام سباحة، اسطبلات، وملعب تنس. كذلك مطاعم، حيث يسكب الشاي من أباريق فضية، وحجرات بلياردو وألعاب الورق. الموسيقي تتصاعد من الفونجرافات. الجرسونات في سترات بيضاء يعدون عصائر تسمي السيدة الوردية وجن فيز. قامت مؤخرا إدارة النادي ببناء المزيد من الجدران الفاصلة، لتبعد المتطفلين. لكن بسم الله قال إن هناك بعض أجزاء من أسلاك السياج يمكن لأي شخص الدخول منها، بطول الجانب الغربي. انتظرا حتي حلول الغروب. الوقت الذي يتوقف فيه لاعبو الجولف عن اللعب ليتجنبوا البعوض ويعودون إلي مبني النادي ليحتسوا العصائر. احتفظا بالخطة لأنفسهما ولم يخبرا جيرانهما. مشيا حتي المسجد بملتقي الشارعين، حيث مأذنة مميزة باللونين الأحمر والأبيض من بين المباني المحيطة. ثم انعطفا للطريق الرئيسي حاملين المضرب الحديدي وصفيحتي كيروسين.
عبرا الجانب الآخر من استوديو الفنانين. اتجها نحو حقول الأرز حيث جري نهر "أدي غانجا" في يوم ما. مصب نهر الغانجا المتفرع من الجنوب الشرقي حتي خليج بنجلاديش. كان راكدًا حينها، محاطًا بمستوطنات الهندوس الهاربين من دكا، وراجشاهي، وشيتاغونغ. قطاع من السكان المشرد الذي استضافته كلكتا ثم تجاهلته. منذ عقد، بعد تقسيم الهند، انتشروا بأجزاء من تولليجانج من ناحية الطريق المؤدي للأرض المنخفضة والذي حجبته الأمطار الموسمية. استلم بعض موظفي الحكومة منازل في برنامج التبادل. لكن الأغلبية كانت من اللاجئين، توافدوا في مجموعات، مطرودين من أرض أسلافهم. بدأ الأمر بموجات قصيرة ثم تكاثرت الأعداد كفيضان. تذكرههما سباش وأودين. مسيرة متجهمة. سرب بشري. الرضع مطوقون حول صدور آبائهم، القليل منهم فوق رؤوسهم.
بنوا عششًا للاجئين، سقوفها من الكتان أو القش، وجدرانها من الخيزران المربوط بإحكام. عاشوا بدون نظام صحي وبدون كهرباء. عشش قذرة بجانب كومات الزبالة، في أي مساحة صالحة للبناء. إنهم السبب في أن يكون أدي جانجا قناة مجاري لجنوب غرب كلكتا، حيث يوجد نادي توللي حاليا. كما أنهم السبب في بناء إدارة النادي المزيد من الجدران.
لم يجد سباش وأودين سياجًا شائكًا، فتوقفا عند جدار منخفض يسمح لهما بالتسلق. كانا يرتديان سراويل قصيرة. جيوبهما محشوة بكرات الجولف. قال بسم الله إنهما سيجدان الكثير منها بالنادي، حيث الكرات علي الأرض، بجانب القرون الذابلة الساقطة من أشجار التمر الهندي.
قذف أودين بالمضرب الحديدي عبر الجدران ثم واحدة من علب الكيروسين. فالوقوف علي علبة الكيروسين الباقية سيعطي سباش الطول المناسب ليتخطي الجدار. لكن أودين حينها كان أقصر ببوصات. قال ل سباش:
- اعقد أصابعك.
شبك سباش يديه. شعر بثقل قدميّ أخيه، النعل البالي لصندله، ثم جسده كله. ضغط نفسه لأسفل للحظة، ثم رفع جسده بسرعة عاليا وامتطي الجدار. سأله سباش:
- هل أبقي لحراسة هذا الجانب حتي تستكشف المكان؟ هل المكان جميل؟ ماذا تري يا أودين
- اقفز لتري بنفسك.
دفع سباش علبة الكيروسين بالقرب من الحائط. صعد فوقها، وأحس بالعلبة المجوفة ترتعش تحت ثقل جسده. حثه أودين:
- اسرع يا سباش.
عدل من جلسته وحرك جسده للجانب الآخر ولم يعد يظهر منه سوي أطراف أصابعه. ثم أفلت يديه وسقط. كان سباش يسمع لهاثه. سأله:
- أنت بخير
- بالطبع. الآن دورك.
قبض سباش علي الجدار بيديه، متشبثا به بصدره، ومكوما ركبتيه. كالمعتاد لم يكن متأكدا إذا كان محبطا أكثر بسبب جسارة أودين أم بسبب افتقاده إياها. كان سباش في الثالثة عشر، يسبق أخيه بخمسة عشر شهرا. لكنه لا يشعر بأهميته بدون أودين. كل ذكريات طفولته، في كل خطوة، كان أخيه موجودا. فجأة لم يعودا موجودين ب تولليجانج. في إمكانهما سماع حركة السير مستمرة في الشارع ولكنه لم يعد في مجال رؤيتهما. كانا محاطين بأشجار الجوز والكافور والأشجار المزهرة.
لم ير سباش أبدا عشبًا مستويًا كسجادة مثل هذا، ممتدًا علي منحدرات الأرض المائلة. متموجًا مثل كثبان الرمال بصحراء، أو مثل موجات بحر هادئة. كان مقصوصا بعناية حول حفر الجولف، ملمسه كطحلب عند الضغط عليه. بدت الأرض ملساء كفروة رأس تنعكس الأضواء عليها.
لم ير أبدا هذا العدد الكبير من طائر البلشون في مكان واحد، تحلق بعيدا كلما اقترب منها. تمتد ظلال الأشجار علي العشب الأخضر. يتخيل ابتعاد فروعها الرقيقة كلما نظر ناحيتها، مثل أعضاء حميمية لامرأة.
كانا يشعران بالإثارة لدخولهما النادي، لخوفهما من أن يراهما أحد. لكنهما لم يريا أي حارس، سواء مرتجلا أو ممتطيا حصانًا، أو بستاني ليمسك بهما. بدآ في الاسترخاء والبحث عن الأعلام المغروسة بطول الملعب. تشير الحفر التي كانت مثل سرات في الأرض إلي حيث يجب أن تذهب كرات الجولف. هناك حفر ضحلة من الرمال منثورة هنا وهناك. البرك حول الحفر لها شكل غريب، مثل القطرات تحت الميكروسكوب.
بقيا بعيدا عن المدخل الرئيسي. لم يغامرا بالاقتراب من مبني إدارة النادي، حيث الأجانب المحبين يتنزهون وأذرعهم متشابكة، أو يجلسون علي كراسي الخيزران تحت الأشجار. أخبرهما بسم الله أنهم يقيمون أحيانا حفل عيد ميلاد لأطفال إنجليز مازالوا يعيشوا بالهند. يتناولون المثلجات ويركبون المهور، ويلتفون حول تورتة بها شموع مشتعلة. رغم أن نهرو كان رئيس الوزراء حينها، لكن كانت صورة الملكة إليزابيث الثانية تتصدر حجرة الاستقبال.
في ركنهما المهمل، بصحبة الجاموس الذي ضل طريقه للداخل، تمايل أودين بقوة رافعا ذراعيه فوق رأسه، متظاهرا باللعب وملوحا بالمضرب الحديدي مثل سيف. خرب العشب البكر، وقذف ببعض كرات الجولف في برك الماء. استقرت هناك في انتظار المضارب.
كان سباش حذرا، يسترق السمع لحوافر الأحصنة القريبة علي المسارات الحمراء الترابية العريضة. سمع صوت نقر عصافير. وصوت ضربات منجل بعيد، حيث يتم قص العشب في مكان ما بالنادي باليد.
قطعان من بنات آوي تجلس منتصبة في مجموعات، جلودها ذات اللون الأسمر المصفر أصبحت مبرقشة بالرمادي. حين انحصر الضوء، نهض القليل منها للبحث عن طعام. انتصبت هيئتها الهزيلة سريعا باستقامة. يتردد عواؤها الهائج في أنحاء النادي، في إشارة لتأخر الوقت، وحتمية عودة الأخوين إلي المنزل.
تركا علبتي الكيروسين، واحدة في كل جانب، ليميزا المكان. وتأكدا أنهما أخفيا العلبة التي وراء السور خلف بعض الشجيرات.
في الزيارات التالية، جمع سباش الريش واللوز. ورأي النسور تسبح في البرك، ثم تبسط أجنحتها لتجف.
ذات مرة، وجد بيضة سليمة وقعت من عش أحد الطيور. حملها بحرص شديد لمنزله. وضعها في وعاء طيني اشتراه من متجر حلوي، ثم غطاه بفروع أشجار صغيرة. وعندما لم تفقس، حفر حفرة من أجلها في الحديقة خلف المنزل، أسفل شجرة المانجو.
ذات أمسية، ألقيا المضرب الحديدي من أعلي الجدار، وقفزا للجانب الآخر، لكنهما لم يعثرا علي علبة الكيروسين. قال أودين:
- شخص ما وجدها وأخذها.
وبدأ في البحث عنها. كان الضوء ضعيف.
- هل هذا ما تبحثا عنه أيها الأولاد؟
كان شرطيًا ظهر فجأة، يقوم بدورية حراسة حول النادي. كان في استطاعتهما تمييز شموخه وزيه. كان ممسكا بعلبة الكيروسين بيديه. خطي بعض الخطي في اتجاههما، ونظر للمضرب الحديدي علي الأرض، ثم التقطه وفحصه. جلس فوق علبة الكيروسين وأضاء مصباحا يدويا ثم أداره نحو وجه كل منهما، نزولا لأجسامهما. سأل:
- أنتما أخوان؟
- أومأ سباش.
- ماذا بجيوبكما؟
أخرجا كرات الجولف وأعطياها له. شاهدا الشرطي يضعها في جيوبه. أبقي واحدة فحسب بيديه، يرفعها في الهواء ثم يلتقطها.
- كيف جئتما لهنا؟
لم يتكلما.
- هل دعاكما أحدهم اليوم لتلعبا الجولف بالنادي؟
هزا رأسيهما نفيا.
- أنتما لستما في حاجة لأخبركما أن هذه الأراضي خاصة.
أراح مقبض المضرب الحديدي قليلا فوق ذراع سباش. وسأله:
- هل هذه زيارتك الأولي؟
أجاب سباش::
- لا.
- هل كانت فكرتك؟ أليس أنت كبير بشكل كاف لتعرف أكثر؟
قال أودين:
- كانت فكرتي أنا.
قال الشرطي لسباش:
- لك أخ مخلص. يريد أن يحميك. ويرغب في العقاب بدلا منك.
ثم أكمل حديثه:
- سأقدم لكما خدمة, لن أذكر ما حدث لإدارة النادي. طالما لن تحاولا العودة مرة اخري.
قال سباش::
- لن نعود مرة أخري.
- جيد. هل أرافقكما إلي المنزل أم من الأفضل إنهاء محادثتنا هنا؟
- هنا.
- إذن، استدر. أنت فقط.
أدار سباش وجهه للجدار. فقال له الشرطي:
- اخطو خطوة للأمام.
ثم شعر بالمقبض الحديدي يضرب فخذيه، وقدميه. الضربة القوية الثانية كانت علي يديه وركبتيه. أخذت التورمات عدة أيام حتي اختفت.
لم يضربهما والداهما أبدا. لم يشعر بشئ في البداية، فقط بعض الخدر. ثم احساس مؤلم مثل ماء مغلي ينطلق في شرارات من مقلاة علي جلده.
صاح أودين بالشرطي:
- توقف.
وانحني بجانب سباش، ملقيا ذراعه علي كتفيه، محاولا أن يغطيه. ضغطا جسديهما معا، وحميا نفسيهما. كانت رأسهما منحنيين، وعيونهما مغلقة، بينما يترنح سباش من الألم. لم يحدث شئ آخر. سمعا صوت ارتطام المضرب الحديدي بالجدار، سقط لمرة أخيرة فوق أراضي النادي. ثم انسحب الشرطي، الذي لم يرد شيئًا آخر منهما.
3
منذ طفولته، كان سباش هادئا. لم تضطر أمه أبدا للركض وراءه. كان يبقي بصحبتها، يراقبها وهي تطهو علي فحم الموقد، أو تطرز ثياب الساري والقمصان بتكليف من خياط السيدات بالحي. يساعد والده في زراعة زهور الداليا التي يزرعها في أصص في فناء المنزل. الزهور المتوردة تتلون بالبنفسجي والبرتقالي والقرنفلي، وتميل في بعض الأحيان للأبيض. كانت ألوانها الزاهية تترك أثرًا بجانب جدران الفناء الباهتة. كان ينتظر انتهاء ألعاب الفوضي وسكون الصيحات ليستمتع بالهدوء. وقته المفضل دوما عندما يكون بمفرده. مستلقيا بالفراش في الصباح، يراقب أشعة الشمس الوامضة كطائر قلق علي الجدار.
يضع الحشرات تحت الشاشة المقببة ليفحصها. عندما تغسل أمه الأطباق علي أطراف المستنقع بالحي إذا لم تأت الخادمة، يقعر يديه في الماء العكر ليبحث عن الضفادع. يعيش في عالمه الخاص. حتي أن الأقارب في التجمعات الكبيرة كانوا غير قادرين علي استخراج رد فعل منه، أحيانا كان يتحدث معهم.
بينما يجلس سباش في وضع مرئي، كان أودين يختفي: حتي في حجرتهما الخاصة حين كان صبيا، كان يختبيء بشكل لا إرادي تحت الفراش، خلف الأبواب، في الصندوق حيث ألحفة الشتاء المخزنة.
يلعب تلك اللعبة بدون الاعلان عنها. يختفي بعفوية، يتسلل للحديقة الخلفية، يتسلق شجرة، ويجبر أمه عندما تنادي عليه ولا تتلقي إجابة، أن تتوقف عما تفعله. وبينما تبحث عنه، بينما تلاطفه وتصيح باسمه، يري سباش طيف هلع خاطف علي وجهها، خوفا من اختفائه للأبد. عندما كبرا بشكل كاف، سُمح لهما بالخروج بمفردهما. كانت التعليمات ألا يغيب أحدهما عن نظر الآخر. تجولا معا في الحارات المتعرجة للمقاطعة، خلف المستنقعين وعبر الأرض المنخفضة، وصولا للملاعب حيث يقابلا أحيانا الأولاد الآخرين. كانا يذهبا للمسجد في الزاوية ليجلسا علي أدراجه الرخامية الباردة، ويستمعان أحيانا لمباراة كرة قدم في راديو أحدهم. لم يكن حارس المسجد يكترث لهما.
أخيرا حصلا علي إذن بالخروج من المقاطعة والذهاب إلي المدينة الكبيرة. هناك ابتعدا قدر إمكانهما، وركبا الترام والأوتوبيسات بنفسهما. وبقي المسجد بالزاوية، مكان عبادة أصحاب الديانة الأخري، واجهة لذهابهما وقدومهما.
في مرحلة ما، بدآ التسكع حول ستوديو الفنانين، لأن أودين اقترح ذلك. حيث كان المخرج ساتياجيت راي يصور فيلم "أغنية الطريق القصير"، وحيث يقضي نجوم السينما البنغالية وقتهم. كانا يعرفان أحد العاملين بالتصوير، ساعدهما علي الدخول وسط كومة من الأسلاك والكابلات والأضواء الساطعة. بعد دعوة السكوت والكلاكيت، رأيا المخرج وطاقمه يصورون ويعيدون تصوير مشهد واحد عدة مرات لإتمام عدد قليل من أسطر السيناريو. يوم كامل من العمل مكرس لدقيقة من الرفاهية. خطف أبصارهما ممثلات جميلات يخرجن من غرف الملابس، مختبئات وراء نظاراتهن الشمسية، ثم دخلن سيارات في انتظارهن. كان أودين جريئا بشكل كاف ليطلب منهن توقيعًا. كان عاجزًا عن كبح عواطفه، مثل حيوان جامح. لكن سباش جاهد ليقلص وجوده، مثل الحيوانات الخجولة.
رغم اختلافهما لكن الخلط بينهما سهل. لذلك عندما يُنادي علي أحدهما، كانا كلاهما يستعد للإجابة. وأحيانا كان من الصعب معرفة من الذي أجاب، لتطابق صوتيهما. يجلسان حول رقعة الشطرنج كمرآه وانعكاسها: قدم مطوية والأخري ممدودة، والذقن مسنودة علي الركبة. كانا متشابهين في بنيتهما بشكل كاف ليجعلهما يرتديان نفس الملابس. لهما نفس اللون النحاسي الفاتح الموروث من والدهما. كانا متجانسين. مفاصل أصابعهما، وملامحهما الحادة، وشعرهما المتموج.
تخوف سباش من طبيعته الهادئة وتساءل إذا رأي والديه أنها تعني نقص في الابتكار، ربما رأيا أنها خيبة. لم يكن علي والديه أن يقلقا عليه، لم يقوما بتمييزه. أصبحت مهمته طاعتهما، لم يكن من الممكن أن يفاجئهما أو يترك بصمته الخاصة لأن هذا من اختصاص أودين.
بالفناء الخلفي لمنزل العائلة، هناك أكبر قدر من ميراث أودين من الأخطاء التي لا تمحي. أثر طبعة قدمه. طبعها في اليوم الذي رصف فيه السطح الترابي. ذلك اليوم الذي تلقوا فيه تعليمات بعدم الخروج حتي يجف الأسمنت.
طوال اليوم كانا يراقبان البناء أثناء اعداده الأسمنت في عربة يد، ثم يفرده ويصقله بأدواته. حذرهم البناء قبل رحيله ألا يخطو فوقه لأربعة وعشرين ساعة.
أطاعه سباش. كان يشاهد من النافذة ولم يخرج للفناء. لكن بمجرد انشغال أمهما عنهما، جري أودينفوق اللوح الخشبي الطويل الذي وضع مؤقتا ليصل المنزل بالشارع. فقد توازنه في منتصف اللوح الخشبي تاركا دليل مروره بطبع باطن قدمه، مثل ساعة رملية بالمنتصف، ثم أصابع قدميه المنفصلة عن باطن القدم.
في اليوم التالي، بعث والدهما في طلب البناء مرة أخري. كان السطح قد جف، والأثر الذي تركه أودين أصبح دائما. كان الحل الوحيد لإصلاح ما حدث هو وضع طبقه أخري من الأسمنت. تساءل سباش إذا كان أخوه أخطأ خطأ كبير في هذه المرة. لكن البناء قال لوالديهما:
أتركه كما هو -
ليس للتكلفة أو للمجهود المضاعف، لكن بسبب اعتقاده أن من الخطأ محو خطوات اتخذها ولده. بذلك صار هذا الخلل علامة تميز منزلهما. علامة يلاحظها الزائرون. وأول طرفة تحكيها الأسرة.
كان من المحتمل ذهاب سباش إلي المدرسة قبل أخيه بعام. لكن لتحر الوقت المناسب وأيضا بسبب اعتراض أودين علي فكرة ذهاب سباش إلي المدرسة بدونه تأجل ذهابه للعام التالي. ذهبا سويا إلي نفس الفصل الدراسي بمدرسة بنغالية متوسطة للأولاد من العائلات المتوسطة، وراء محطة الترام، مرورا بالمقابر المسيحية.
في دفترين متطابقين، لخصا تاريخ الهند وتأسيس كلكتا. رسما الخرائط ليتعلما جغرافيا العالم. درسا أن تولليجانج قد بُنيت علي أرض محتلة. وأن مجري الخليج البنغالي عندما كان قويا منذ قرون مضت، كان ممتلئًا بأشجار القرم. المستنقعان وحقول الأرز والأرض المنخفضة بقايا كل هذا.
رسما صور لأشجار القرم كجزء من دروس العلوم. جذورها المتشابكة علي سطح الماء، مسامها الإضافية للحصول علي الهواء. شجيراتها الممتدة تسمي براعم منفصلة، تشبه السيجار.
تعلما إذا سقطت تلك البراعم في وقت انحسار الجذر تتكاثر بجانب آبائها، تغرز نفسها بالمستنقع المالح. لكن في المد المرتفع، تنجرف من منبتها، لمدة تزيد علي عام، قبل أن تنمو في بيئة ملائمة.
أزال الإنجليز الغابة المغمورة بالمياه، ورسموا وخططوا الشوارع. في عام 1770، أسسوا ضاحية وراء الحدود الجنوبية لكلكتا، كان سكانها الأوائل من الأوروبيين. ضاحية حيث يمكن للغزال التجول، وللطائر الرفراف التحليق في الأفق.
شق الرائد ويليام توللي، الذي سميت المنطقة تيمنا باسمه، فرعا من نهر أدي غانجا، وعرف باسم توللي نولا، جاعلا التجارة الملاحية ممكنة بين كلكتا وشرق بنجلاديش.
تعود أراضي نادي توللي في الأصل إلي ريتشارد جونسن، مدير البنك العام الهندي. في عام 1785 بني فيلا علي طراز بالاديو، واستورد أشجارا إلي تولليجانج من كل أنحاء البلاد والجزر شبه الاستوائية.
في بداية القرن التاسع عشر، احتجزت شركة الهند الشرقية الإنجليزية أرملة السلطان تيبو وأبناءه في ممتلكات جونسون، بعد مقتل تيبو حاكم سلطنة مايسور الهندية في حرب الأنجلو مايسور الرابعة.
نُقلت الأسرة المعزولة من سيرنجاباتم بأقصي جنوب غرب الهند. وبعد إطلاق سراحهم، مُنحوا أراض في تولليجانج ليعيشوا بها. وفي الوقت الذي انتقل فيه الإنجليز إلي وسط كلكتا، أصبحت تولليجانج مدينة ذات غالبية إسلامية. بالرغم من أن التقسيم حوّلهم إلي أقلية مرة أخري، لكن بقي الكثير من أسماء الشوارع إرث سلالة تيبو النازحة: شارع سلطان علام، شارع الأمير بختيار شاه، شارع الأمير جولام محمد شاه وزقاق الأمير رحيم الدين.
بني جولام محمد المسجد الكبير في دارمات الله في ذكري وفاة والده. ولفترة سُمح له بالإقامة في فيلا جونسون. لكن بحلول عام 1895، عندما أخطأ الاسكتلندي ويليام كروكشانك طريقه ممتطيا حصانه إلي داخل الفيلا الضخمة باحثا عن كلبه المفقود، وجد الفيلا مهجورة، يعيش بها قطط الزباد وتغطي النباتات المتسلقة جدرانها.
رمم كروكشانك الفيلا من جديد وحولها إلي النادي الريفي. أصبح أول مدير له. في بداية الثلاثينات، مد خط الترام حتي الجنوب من أجل الإنجليز. كان هذا لتسهيل رحلتهم إلي نادي توللي الذي يقصدونه هروبا من فوضي المدينة، وليكونوا في أملاكهم.
في المدرسة الثانوية درسا الأخوان علم البصريات، الأعداد الذرية للعناصر، خصائص الضوء والصوت. درسا اكتشاف هرتز للموجات الكهرومغناطيسية، وتجارب ماركوني مع الإرسال اللاسلكي. أوضح جاديش شاندرا بوس، العالم البنغالي، في تجربة بقاعة مدينة كلكتا، أن الموجات الكهرومغناطيسية قد تشعل البارود، وقد تجعل الجرس يرن من علي بعد.
كل ليلة، علي جانبي طاولة المذاكرة المعدن، يجلسا أمام كتبهما، دفاترهما، أقلامهما الرصاص والممحاة، وفي نفس الوقت معهما لعبة الشطرنج.
يسهران لوقت متأخر ليعملا علي المعادلات والقوانين الرياضية. كان الليل هادئا لدرجة تمكنهما من سماع عواء أبناء آوي بنادي توللي. في بعض الأحيان يظلان ساهرين حتي تبدأ الغربان في العراك في انسجام، في إشارة إلي بداية يوم آخر.
لم يكن أودين يخاف من معارضة معلميه حول الهيدروليات أو الصفائح التكتونية. كان يلوح بيديه ليفسر ما يقوله، ليؤكد آراءه. تبادل حركة يديه يشيرإلي أن الجزيئات والجسيمات في قبضة يديه. أحيانا كان يتم طرده من الفصل الدراسي. قيل إنه متأخر عن زملائه في حين إنه في الحقيقة كان متقدما عنهم.
في نهاية المرحلة الثانوية، عين والدهما مدرسا خصوصيا ليعدهما للعبور من اختبارات الجامعة. عملت أمهما ساعات إضافية لتغطي النفقات. كان رجلا جادا، له جفون مشلولة مفتوحة دوما ومشبك علي نظارته. يأتي كل ليلة للمنزل ليراجع ازدواجية موجة-جسيم، قوانين الانكسار والانعكاس. جعلهما يحفظنا عن ظهر قلب قاعدة فيرما: أقصر الأوقات لتعيين مسار الضوء بين نقطتين.
بعد دراسة أساسيات الدوائر الكهربائية، بدأ أودين اكتشاف النظام الكهربائي بمنزلهم بنفسه. حصل علي مجموعة من الأدوات، وبدأ في تصليح الكابلات العطلانة ومفاتيح الكهرباء وربط الأسلاك، وإزالة الصدأ الذي أصاب المروحة. أصاب أمه بالهلع حتي إنها كانت تغطي إصبعها باستمرار بقماش الساري لأنها كانت مذعورة من لمس مفتاح الكهرباء بأصبعها المجرد.
عندما احترق فيوز، ارتدي أودين خفا مطاطيا غير ناقل للكهرباء. فحص الدائرة الكهربائية وفك الفيوز، بينما سباش ممسكا المصباح اليدوي له. في أحد الأيام، جاء إلي المنزل معه سلك وقرر تركيب جرس لباب المنزل من أجل الزوار. ركب المحول في صندوق الفيوز والزر الأسود الخاص بالجرس في الباب الرئيسي. طرق بالمطرقة في الجدار محدثا حفرة ليدخل الأسلاك من خلالها. بمجرد تركيب الجرس، قال أودين:
- لابد من استخدامه لممارسة شفرة مورس.
حين وجد كتابًا عن التلغراف بالمكتبة، كتب أودين نسختين من النقط والخطوط الفاصلة تطابق الحروف الأبجدية، واحدة لكل منهما ليحفظاها.
رنين الخط الفاصل أطول من رنين النقطة بثلاثة أضعاف. وكل من النقطة والخط الفاصل يتبعه فترة سكون. كما أن هناك ثلاث نقط بين الحروف، وسبع نقاط بين الكلمات. عرفا أنفسهما بالحروف الأولي من أسمائهما. فالحرف s الخاص ببسباش الذي استقبله ماركوني عبر المحيط الأطلنطي، كان ثلاث نقاط سريعة. أما U الخاص بأودين فكان نقطتين وخط فاصل.
تبادلا الأدوار. وقف أحدهما بجانب الباب خارج المنزل، والآخر بداخله. يضغط من بالخارج الجرس للآخر الذي يحاول فك الشفرة. نجحا بشكل كاف في إرسال رسائل مشفرة لم يفهمها والداهما. اقترح أحدهما "سينما" لكن رد الآخر "لا، محطة الترام، سجائر".
ألفا سيناريوهات. تظاهرا بأنهما جنديان أو جاسوسان في مأزق. يحاولان التواصل خفية في ممر جبلي بالصين أو غابة روسية أو حقل قصب السكر بكوبا.
"مستعد"
"بوضوح"
"إحداثيات؟"
"مجهولة"
"الناجون"
"إثنان"
"الخسائر"
بالضغط علي الجرس، كانا يخبران بعضهما أنهما جائعان، وأنهما يجب أن يلعبا كرة القدم، وأن هناك فتاة جميلة تمر بجانب المنزل. كان الجرس أرجوحتهما الخاصة، الطريقة التي يقذف بها لاعبان الكرة بينهما بينما يتقدمان معا ليحرزا هدفًا. وإذا رأي أحدهما معلمهما قادمًا، يضغطان SOS. ثلاث نقاط، ثلاثة خطوط فاصلة، ثلاث نقاط.
دخل إثنان من أفضل الجامعات بالمدينة. التحق أودين بجامعة برزندنسي ليدرس الفيزياء. أما سباش فالتحق بجامعة جي يو لدراسة الهندسة الكيميائية. كانا الشابين الوحيدين من الحي، والطالبين الوحيدين من مدرستهما العليا غير المميزة، لقد أنجزا بشكل جيد.
من أجل الاحتفال، ذهب والدهما إلي المتجر واشتري كاجو وماء الورد لطهو أرز البيلاف، ونصف كيلو من أفخر أنواع الجمبري. بدأ عمله وهو في التاسعة عشر من عمره ليساعد عائلته. وكان عدم إلتحاقه بالجامعة أسفه الوحيد. عمل بمنصب كهنوتي بسكة حديد الهند، وعندما شاع نجاح ولديه في الحي، قال إنه لم يعد قادراعلي المشي خارج المنزل بدون أن يوقفه أحدهم ليهنئه.
أخبرهم ألا يقوموا بتهنئته هو. فالفضل يعود لولديه اللذين عملا بشكل جدي، وميزا نفسيهما. وما وصلا إليه، حققاه بنفسيهما. سألهما ماذا يريدان كهدية، اقترح سباش أن يجلب لهما شطرنج رخامي بدلا من الشطرنج الخشبي الرث. لكن أودين كان يريد راديو قصير الموجات. كان يريد معرفة أخبار عن العالم أكثر مما يقدمه لهما راديو والديهما القديم المغطي بخزانة خشبية، أو ما كانت تقدمه جريدة بنغالي اليومية الملفوفة كغصن شجرة رفيع لإلقائها من فوق جدار فناء المنزل في الصباح.
قاما بجمع أجزاء الراديو بأنفسهما، بحثا في متجر كلكتا الجديد ودكاكين الخردة، ووجدا أجزاء من فائض الجيش الهندي. اتبعا مجموعة من التعليمات المعقدة، ومخطط الدائرة الكهربائية المهترئ. وضعا القطع علي السرير: هيكل راديو معدني، المكثفات، المقاومات المختلفة، والسماعات. لحما الأسلاك، وعملا سويا لإتمام المهمة. عندما أتماها في النهاية وأغلقا هيكل الراديو، أصبح يشبه حقيبة سفر صغيرة، بمقبض مربع. مصنوع من المعدن، ولونه أسود.
كان الإرسال دوما أفضل في الشتاء عن الصيف. وبشكل عام أفضل أثناء الليل. كان هذا عندما تتوقف الفتونات الشمسية عن تفتيت الجزيئات في الغلاف الأيوني. عندما تنضم الجزيئات الإيجابية والسلبية معا بسرعة.
كانا يتبادلان الأدوار بجانب النافذة، والراديو بأيديهم في أوضاع مختلفة، يضبطان الهوائي ويتلاعبان بأزرار تلقي الموجات. يديران إبرة الردايو ببطء قدر استطاعتهما. لقد نشئا مطلعين علي نطاقات/خطوط التردد.
بحثا عن الإذاعات الأجنبية. نشرة أخبار من راديو موسكو، صوت أمريكا، راديو بكين، إذاعة بي بي سي. سمعا معلومات عشوائية آتية من علي بعد مئات الأميال، برزت من تداخلات متشابكة مهتاجة كأمواج محيط، ومرتعشة مثل رياح. حالة الطقس في وسط أوروبا، أغاني فولكورية من أثينا وخطاب لجمال عبد الناصر. تقارير من دول تمكنت من تخمين لغتها: فنلندي، تركي، كوري، برتغالي. كان هذا في عام 1964، معركة خليج تونكن سمحتلأمريكا بالتدخل العسكري في فيتنام، وهناك انقلاب عسكري في البرازيل.
في كلكتا، تم إطلاق فيلم "الزوجة الوحيدة" في السينما. حدوث موجة جديدة من الشغب بين المسلمينوالهندوس وقتل أكثر من مائة شخص بعد سرقة أثر مقدس من أحد المساجد في سرينجار. هناك انقسام بين الشيوعيين الهنود حول الصراع علي الحدود مع الصين الذي حدث منذ عامين. المجموعة المنشقة التي تعاطفت معالصين، تطلق علي نفسها الآن الحزب الشيوعي الهندي أو الماركسيين.
حزب الكونجرس الوطني الهندي لا يزال قيد الحكومة المركزية بدلهي. بعد رحيل "نهرو" أثر إصابته بأزمة قلبية في هذا الربيع، دخلت ابنته "انديرا" مجلس الوزراء. وفي خلال عامين ستصبح رئيسة الوزراء.
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015