حوار الكاتبة الكندية أليس مونرو مع مجلة باريس ريفيو عام 1994
الجزء 2
المحاور: كيف قابلت جيري؟
مونرو: لقد عرفت جيري عندما كنا بالجامعة معا. كان الأكبر سنا وكنت لا أزال
طالبة مبتدئة. كان جنديا عائدا من الحرب العالمية الثانية، مما يعني أن هناك سبع
سنوات بيننا. وكنت مفتونة به حين كنت في الثمانية عشر من عمري لكنه لم يلاحظني
أبدا. كان يلاحظ فتيات أخريات. كانت جامعة صغيرة لذلك فأنت تعرف الجميع هناك، وكان هو عضوا في تلك المجموعات الصغيرة المكونة من الأشخاص الذين – اعتقد كنا نطلق
عليهم البوهيميون، حين كان هذا التشبيه لا يزال موجودا، كانوا يكتبون الشعر ويقوموا بإرساله إلى المجلات الأدبية،
وكانوا مثيرين للاهتمام حيث يتناولون الشراب لحد الثمالة وهكذا. اعتقد إنه كان على
اتصال مع المجلة، وعندما كتبت قصتي الأولى، كان جزء من خطتي أن أعرض عليه
مخطوطاتها. وحينها من المحتمل إجراء محادثة، وقد يقع في حبي، ومن هنا يبدأ كل شيء.
وبالفعل أخذت القصة إليه، فقال لي: "يعمل جون كايرنز محرر، إنه بالأسفل في
الردهة".
هذا بالكاد يُسمى محادثة، وقد
كانت الوحيدة بيننا.
المحاور: هل كانت هذه هي المحادثة الوحيدة التي تمت بينكما خلال دراستك
بأكملها؟
مونرو: نعم، لكن لاحقا، بعد نشري للقصة، كان قد غادر الجامعة. كنت أعمل
كنادلة ما بين عامي الأول في الجامعة والثاني، حين تلقيت خطاب من جيري. كان حقا
خطاب رائع عن القصة. لقد كان أول خطاب أتلقيه من معجب. لكنه لم يكن عني بأي حال من
الأحوال، ولم يُشير إلى جمالي، لم يقل إنه من الجميل أن نكون سويا أو أي شيء مشابه
لذلك. لقد كان ببساطة تقدير أدبي. لذلك قدرته ربما بشكل أقل من أي خطاب آخر لأني
كنت آمل أن يكون أكثر جرأة. لكنه كان خطاب لطيف. ثم، بعد عودتي إلى لندن وعملي
في ويسترن، استمع إليّ بطريقة ما في الراديو حيث أجريت حوار. لا بد أني ذكرت أين
أعيش وأعطيت انطباع اني لم أعد سيدة متزوجة، لأنه أتي ليراني.
المحاور: وقد كان هذا بعد حوالي عشرون عام؟
مونرو: بعد أكثر من عشرين عام، ولم نر بعضنا خلال كل تلك الفترة. لم يبدو
كما توقعته. لقد هاتفني قائلا: "أنا جيري فرملين. أنا في كلينتون، وكنت اتساءل إذا
ما كان في إمكاننا تناول الغداء معا في وقت ما". كنت أعرف أن بيته في كلينتون وفكرت
أنه ربما جاء ليرى والديه. كنت أعتقد في هذا الوقت إنه يعمل في اوتاوا، كما سمعت
عن ذلك من شخص ما. وأعتقدت أن زوجته وأطفاله قد عادوا إلى اوتاوا، بينما هو في
وطنه ليزور والديه، ثم فكر في تناول الغداء مع أحد معارفه الشخصية القدامى. هذا هو
ما توقعته حتى جاء وأخبرني أنه لا يزال يعيش في كلينتون وأنه غير متزوج وليس لديه
أطفال. ذهبنا إلى نادي الكلية واحتسينا ثلاث كؤوس من المارتيني أثناء الغداء. كنا
نشعر بتوتر. لكننا تداركنا الموقف بسرعة. وبحلول الظهيرة اعتقد أننا كنا نتحدث عن
الانتقال والعيش معا. كان هذا سريعا للغاية. أظن أني انتهيت من تدريس هذا الفصل
الدراسي بويسترن ثم توجهت إلى كلينتون، وانتقلنا للعيش معا هنا في المنزل حيث يعيش
هو ليعتني بوالدته.
المحاور: لم تقرري أن تأتي هنا للكتابة؟
مونرو: لم أتخذ أبدا قرار فيما يخص الكتابة. ولم أفكر قط في إني قد أتوقف
عنها. أعتقد أن هذا بسبب أني لا أؤمن بتوافر بعض الشروط للكتابة والتي قد تكون
أفضل من شروط أخرى. الشيء الوحيد الذي يجعلني أتوقف عن الكتابة هو العمل – عندما
كان يتم تقديمي كشخصية عامة وكاتبة ثم يتم إعطائي مكتب لأعمل به.
المحاور: هذا يذكرنا بقصتك "المكتب": السيدة التي استأجرت مكتب
لتكتب به ثم قام مالك المكتب بإلهائها حتى اضطرت في النهاية إلى الانتقال.
مونرو: كتبت هذه القصة بناء على تجربة حقيقية. لقد استأجرت مكتبا، ولم أكن
قادرة على الكتابة به إطلاقا – لم أكتب سوى تلك القصة. فلقد أخذ المالك في إزعاجي
طوال الوقت، لكن حتى بعد توقفه عن إزعاجي لم أستطع الكتابة. يحدث هذا في الوقت
الذي لا أحدد به نظام للكتابة، فضلا عن وجود مكتب. عندما اشتركت ببرنامج الكتابة
بجامعة كوينزلاند بأستراليا، كان لدي مكتب هناك، في القسم الإنجليزي. كان مكتب
أنيق وجميل. لم يسمع عني أحد، لذلك لم يأت أي شخص لرؤيتي. ولا أحد هناك كان يحاول
أن يكون كاتب بأي حال. كان الأمر مشابه لفلوريدا؛ كانوا يتجولوا طوال الوقت بلباس
البحر. لذلك كان الوقت كله ملكي، وكنت أجلس في هذا المكتب أفكر فحسب. لن أصل إلى
شيء؛ وهذا يعني العجز.
المحاور: هل كانت فانكوفر أقل فائدة بالنسبة للمادة الرئيسية؟
مونرو: لقد عشت في الضواحي، في البدء كنت في شمال فانكوفر، ثم انتقلت لغربها.
في شمال فانكوفر، يخرج جميع الرجال في الصباح ولا يعودوا إلا بحلول الليل. طوال
اليوم لا يوجد سوى ربات البيوت والأطفال. كان هناك وحدة شعبية، وكان من الصعب أن
تكون وحدك. هناك الكثير من الحوارات حول التنظيف بالمكانس الكهربائية وغسيل
الأصواف، لقد كنت مهتاجة إلى حد بعيد. عندما كان معي طفلتي الأولى فحسب، كنت أضعها
في عربة الأطفال وأمشي لأميال لأتجنب حفلات تناول القهوة. كان ذلك أكثر ضيقا وصداما
من الثقافة التي نشأت بها. لذلك كان هناك الكثير من الأشياء الممنوعة – مثل أخذ أي
شيء على محمل الجد. كانت الحياة بشكل محدود مرتبة مثل سلسلة من التسليات المسموح
بها، الآراء المسموح بها، الوسائل المسموح بها لكوني امرأة. وقد فكرت أن المخرج
الوحيد هو مغازلة الأزواج أثناء الحفلات. في الحقيقة، كان هذا هو الوقت الوحيد
الذي تشعر أن هناك شعور حقيقي، لأنه الاتصال الوحيد لك مع الرجال. إن كان هناك
واقع لهذا، فلقد بدا لي إنه جنسي. ومن ناحية أخرى، لا يتحدث الرجال إليك عادة،
وإذا فعلوا فإنهم يتحدثون من أعلى لأسفل. لقد قابلت أستاذ جامعي، وعندما أظهرت
معرفة بشيء ما هو يعرفه، اعتبر المحادثة غير مقبولة. فالرجال لا يحبوا أن تتحدث
السيدات، والسيدات لا يحبون ذلك أيضا. لذلك فإن عالمك متمركز حول الأحاديث
النسائية عن أنسب طرق لعمل الحمية، أو أفضل الوسائل للحفاظ على الأصواف. كنت مع السيدات ذوي الرجال المتسلقين. لقد كرهت ذلك بشدة ولم أكن قادرة أبدا على
الكتابة عنه. ثم انتقلنا إلى غرب فانكوفر، التي كانت ضاحية مختلطة أكثر، وليس كل
الشباب من الأزواج. هناك كونت صداقات رائعة. تحدثنا حول الكتب والقيل والقال
وسخرنا من كل شيء مثل فتيات المدرسة الثانوية. هذا شيء كنت أود الكتابة عنه لكني
لم أفعل، حيث المجتمع المُفسد للسيدات الشابات، اللاتي من خلاله يبقين بعضهن البعض
مليئات بالحياة. لكننا انتقلنا مرة أخرى إلى فيكتوريا وقمنا بفتح المكتبة والتي
كانت أكثر الأشياء الرائعة التي حدثت. كانت جيدة لأن الأشخاص المخبولون بالبلدة
كانوا يأتون إليها ونجري الأحاديث معهم.
المحاور: كيف جاءت إليك فكرة المكتبة؟
مونرو: كان جيم يرغب في ترك المتجر الكبير بالبلدة. وتحدثنا حول إذا ما كان
يريد أن يقوم ببعض الأعمال المشابه. قلت له: "حسنا، إذا كان لدينا مكتبة فقد استطيع
المساعدة".
وتوقع الجميع أننا سنفشل، وبالطبع، كنا على وشك الفشل. لقد كنا فقراء
للغاية، لكن في تلك الأثناء كان ابنتاي الكبيرتان في المدرسة، لذلك كان في مقدوري العمل
كل الوقت بالمكتبة، وقد فعلت ذلك. كان ذلك من أسعد أوقات زواجي الأول.
المحاور: هل انتابك احساس أن الزواج لن يستمر؟
مونرو: لقد كنت مثل ابنة فيكتورية – كان هناك ضغوط عظيمة حتى أتزوج، وقد
شعرت أن هذا وسيلة للخروج من هنا: حسنا، سأتزوج، ولن يستطيعوا ازعاجي حول هذا، ثم
سأصبح إنسان حقيقي وحياتي ستبدأ. اعتقد أني تزوجت لأكون قادرة على الكتابة، حتى
استقر وأعطي كل انتباهي للشيء المهم. أحيانا عندما أنظر الآن خلفي لتلك السنوات،
أفكر في أني كنت فتاة صغيرة ذات قلب قاس. الآن أنا شديدة البُعد عن السيدة
التقليدية أكثر مما كنت حينها.
المحاور: أليس كل فنان شاب، في بعض المستويات، يضطر أن
يكون له قلب قاس؟
مونرو: يكون الأمر أسوأ إذا كنت امرأة. لقد أردت أن أحيط بأطفالي واستمريت
في التفكير حول إذا ما كنت بخير! لم أكن أقصد أن أكون فقط مثل... ذلك في وسعه أن
يجعلهم بالطبع غاضبين لأن هذا يفترض ضمنا أنهم عبارة عن متاع تالف. فبعض مني كان
غائبا عن هؤلاء الأطفال، وهم قادرون على اكتشاف الأمور من هذا النوع. لم أكن
مهملة، لكني لم أكن مستغرقة في الأمومة بالكامل. عندما كانت ابنتي الكبرى في حوالي
الثانية من عمرها، جاءت حيث كنت أجلس منكبة على آلتي الكاتبة، كنت أحاول إبعادها
بيد، بينما كنت أكتب باليد الأخرى. وأخبرتها بهذا. وقد كان أمر سيئ جعلها خصم لأهم
ما أمارسه في حياتي وهو الكتابة. وشعرت أن كل شيء فعلته قد تراجع: كانت الكتابة حين
كانوا صغار أمر استحواذي تماما. والآن، بينما لم يعدوا في حاجة إلي، أشعر بحب جارف
ناحيتهم. أطوف بالمنزل وأفكر، لقد اعتدنا على أكثر من مجرد عشاء عائلي.
المحاور: لقد حصلت على جائزة الحاكم العام عن كتابك الأول، وهي موازية
تقريبا لجائزة بولتيرز في أمريكا. ومن النادر في الولايات المتحدة الأمريكية أن
يحصل كتاب أول على جائزة كبيرة كهذه. عندما يحدث هذا، يكون لأن الكاتب قام بمهمة
شاقة.
مونرو: حسنا، لم أكن حديثة السن حينها. لكنه كان أمرا صعبا
بالتأكيد. لقد قضيت حوالي عام لم أكتب أي شيء لأني كنت مشغولة تماما في التفكير في
حتمية كتابة رواية. لم يكن لدي الفكرة الرئيسية التي قد تنتج الكتاب الجبار الأكثر
مبيعا الذي سيتحدث عنه كل الأشخاص، مثل ما فعلت الكاتبة الأمريكية إيمي تان مع كتابها الأول، على
سبيل المثال. فبالكاد تم بيع الكتاب، ولم يسمع به أحد – بالرغم من إنه حاز على
جائزة الحاكم العام. قد تذهب إلى المكتبات لتسأل عنه، ولن تعثر عليه.
المحاور: هل يعني النقاد كثيرا لك؟ هل تعلمتي منهم يوما شيء ما؟ هل
شعرتي بإساءتهم إليك؟
مونرو: نعم ولا، لأن في الحقيقة لن يمكنك تعلم الكثير من النقد، ومع ذلك
يمكنك أن تشعر بإساءة بالغة. فهناك إحساس بالخزي العام إزاء النقد السيئ. حتى إذا
لم يكن الأمر يعنيك، كان من الممكن تحييك بدلا من صيحات الاستهجان التي قد تنزلك من على
المسرح.
المحاور: هل نشأتي كقارئة كبيرة؟ وأي عمل كان له تأثير؟
مونرو: كانت القراءة هي حياتي حتى وصلت إلى الثلاثين من عمري. كنت أعيش بين
طيات الكتب. كُتاب جنوب أمريكا كانوا أول من استطاعوا تحريكي لأنهم وضحوا لي ان في إمكاني الكتابة عن البلدات الصغيرة، والريفيين، وهذا الجانب من الحياة الذي أعرفه
جيدا. لكن هناك شيء ما حول كُتاب جنوب أمريكا لفت انتباهي، دون أن أكون واعية له،
كان أن كل كُتاب الجنوب الذين أحببتهم كن من السيدات. لم أستسيغ كتابات فوكنر
كثيرا. أحببت يودورا ويلتي، فلانري أوه كونر، كاثرين أن بورتر، كارسون ماكللرز.
كان هناك شعور أن السيدات في إمكانهم الكتابة عن الأمور الغريبة ذات النزوات
الهامشية.
المحاور: تلك الأمور التي كتبتي عنها دائما أيضا.
مونرو: نعم. لقد بدأت أشعر أنها كانت منطقتنا، في حين أن الرواية الكبيرة
الدارجة حول الحياة الحقيقية كانت منطقة الرجال. لا أعرف كيف حصلت على هذا الشعور
كوني على الهامش، لم يكن هذا ما دُفعت نحوه. ربما حدث هذا بسبب نشأتي على الهامش.
أدرك أن هناك شيء ما حول الكُتاب العظماء أنا بعيدة عنه، لكني لم أعرف تماما ماهيته.
لقد كنت مضطربة للغاية عندما قرأت لأول مرة للكاتب الانجليزي ديفيد هربرت لورانس.
لطالما كنت ارتبك عادة من رؤية الكُتاب للنشاط الجنسي الأنثوي.
المحاور: هل تستطيعين وضع يدك على ما كان يزعجك بالضبط؟
مونرو: لقد كان: كيف يكون في استطاعتي الكتابة وأنا المادة الرئيسية
للكُتاب الآخرين؟
المحاور: ما رأيك في الواقعية السحرية؟
مونرو: لقد أحببت مائة عام من العزلة للغاية. أحببتها بالفعل، لكن لا يمكن
تقليدها. إنها تبدو عمل سهل لكنها ليست كذلك. كان رائع حين حمل النمل الطفل، وعندما
صعدت العذراء إلى السماء، وعندما مات البطريرك، وعندما أمطرت أزهار. لكن هناك
صعوبة لإنجاز تلك الرواية بنجاح كما أنها لا تقل إدهاشا عن رواية ويليام ماكسويل
"إلى اللقاء، أراك غدا"، حيث كان الكلب هو الشخصية. وتعامله مع المادة
الرئيسية التي ربما كانت تافهة لكنه استطاع أن يجعل منها شيء رائع.
المحاور: بعض قصصك الحديثة يبدو بها تغيير في الاتجاه.
مونرو: منذ حوالي 5 سنوات، عندما كنت لا أزال أعمل على القصص التي كانت في
"صديق شبابي"، أردت أن أكتب قصة مع وقائع متعاقبة. وقاومت ذلك لأني شعرت
بالقلق حيال أن ينتهي بي الأمر إلى شيء ملتبس بين أمرين مختلفين. أتعرف، حقا شيء
سخيف. لقد أصبت بهلع من ذلك. لكني كتبت "الرحيل بعيدا"، ولقد واصلت
العبث معها وكتبتها بنهاية سحرية. ربما هذا شيء يحدث مع التقدم بالسن. تغيير
التصورات حول ما يكون ممكنا، حول ما حدث – ليس فقط ما يمكن أن يحدث لكن ما حدث
بالفعل. لدي كل هذه الوقائع المنفصلة في حياتي الخاصة، وأراهم في حياة الأشخاص
الآخرين. وهذا كان أحد المشكلات – لماذا لا أستطيع أن أكتب رواية، لم أر أبدا
الأشياء المرتبطة بشكل جيد جدا.
المحاور: وماذا عن إيمانك وثقتك؟ هل تغير على مدار السنين؟
مونرو: في الكتابة، كان دائما لدي الكثير من الايمان، مختلط مع رهبة من أن
هذا الايمان/الثقة كليا ليس في محله. أعتقد بطريقة ما أن ثقتي أتت فحسب من كوني
مغفلة. لأني عشت بعيدا عن الأمور السائدة، لم أدرك أن السيدات لا يصبحن كاتبات
بسرعة مثل الرجال، وكذلك الأشخاص من الطبقات الأدنى. في البلدات، بإمكانك الكتابة
جيدا وبالكاد تقابل شخص ما يقرأ مثلك أيضا، فتشعر بالتأكيد أنه هدية نادرة.
المحاور: أنتِ خبيرة في تجنب العالم الأدبي. هل تقومي بذلك بشكل
واع أم بشكل عرضي؟
مونرو: كان هذا بشكل عرضي لفترة زمنية طويلة، ثم أصبح الأمر اختيار. أعتقد
أني الشخص الودود غير الاجتماعي جدا. بشكل أساسي لأني امرأة، وربة منزل، وأم، أردت
ان أوفر الكثير من الوقت. وقد ترجم هذا على إني فزعة منه. قد أكون فقدت ثقتي. قد أسمع الكثير جدا من الكلام
الذي لن أفهمه.
المحاور: لذلك فإنك سعيدة لكونك بعيدة عن الكتابة السائدة؟
مونرو: ربما يكون هذا ما أحاول قوله. من المحتمل ألا أكون نجوت على خلاف
ذلك. ربما كان ذلك خسارة لثقتي حين كنت مع أشخاص في مقدورهم الاستيعاب أكثر مني فيما
يخص عملهم. وحديثنا الطويل عن هذا. والثقة في نهجهم حيث وجود أرضية صلبة لعملهم
أكثر من خاصتي. لكن، من الصعب التحدث حول الكُتاب – من الواثق؟
المحاور: هل تسامح المجتمع الذي نشأت به مع مهنتك؟
مونرو: كانوا يعرفون هنا أن هناك قصص نُشرت هنا وهناك، لكن كتاباتي لم تكن
فاخرة. ولم تلق استحسانا جيد في بلدتي. الجنس، اللغة السيئة، الغموض... وطبعت
الجرائد المحلية افتتاحية عني: الرؤية المنطوية الفظة للحياة... ومشروع تشويه
الهوية الذاتية حول... كان والدي قد مات بالفعل عندما حدث ذلك. لما كانوا يجرأوا
على كتابة ذلك لو بقى والدي على قيد الحياة، لأنه كان محبوب من الجميع. كما كان
يحظى بإحترام الجميع. لكن بعد وفاته، أصبح الأمر مختلف.
المحاور: لكن هل أحب عملك؟
مونرو: لكنه أحب عملي، نعم، وكان فخور للغاية به. لقد كان يقرأ كثيرا، لكنه
كان دائما يشعر ببعض الحرج فيما يخص القراءة. ثم ألف كتاب قبل رحيله مباشرة ونُشر
بعد وفاته. كانت رواية حول عائلات رائدة في جنوب غرب البلاد، وتقع أحداثها في
الفترة قبل ميلاده، وتنتهي وهو لا يزال في طفولته. لقد كان حقا كاتبا موهوبا.
المحاور: هل يمكنك اقتباس فقرة لنا؟
مونرو: وصف في أحد الفصول هيئة المدرسة بالنسبة للصبي الذي عاش في وقتا
أبكر مما عاش هو: "على الحوائط الأخرى كان هناك بعض الخرائط البنية الباهتة.
وأماكن مثيرة للاهتمام مثل مانغوليا واضحة للعيان، حيث المواطنون المبعثرون الذين
يتجولون في معاطف من جلد الغنم على المهور الصغيرة. كان قلب إفريقيا فراغ رُسم
عليه فحسب التماسيح الفاغرة فمها والأسود التي تصطاد الزنوج بحوافرها الضخمة. في
مركز كل هذا كان السيد ستانلي يلقي التحية على السيد ليفنجستون، وكلاهما يرتديان
قبعات قديمة".
المحاور: هل تعرفت على أي شيء يخص حياتك الخاصة في روايته؟
مونرو: ليست حياتي الخاصة، لكن تعرفت على الكثير من أسلوبي. زاوية الرؤية
التي لم تذهلني لأني عرفت أن لدينا شيء مشترك.
المحاور: هل قرأت والدتك أيا من أعمالك قبل وفاتها؟
مونرو: لم تكن أمي لتحب أعمالي. لا أعتقد ذلك – خاصة الجنس والكلمات
السيئة. إذا كانت ما زالت على قيد الحياة، كنت سأضطر إلى خوض صراع عنيف وإحداث فجوة
بيني وبين العائلة حتى أستطيع نشر أي شيء.
المحاور: وهل تعتقدين أنك فعلتي ذلك؟
مونرو: اعتقد ذلك، نعم، لأن كما قلت آنفا كنت حينها قاسية القلب وعنيدة.
الحنان الذي أكنه اليوم نحو أمي، لم أشعر به منذ فترة طويلة. لا أعرف كيف سأشعر
إذا قامت واحدة من بناتي بالكتابة عني. إنهن الآن في العمر حيث في إمكانهن كتابة أول
رواية لهن حول طفولتهن. أن تكون مجرد شخصية في كتاب كتبه أحد أطفالك، لا بد أنها
تجربة مرعبة لتمر من خلالها. يكتب الناس بلامبالاة عن الأمور الجارحة لاستعراض
الماضي مثل، حسنا، هذا والدي الذي كان مزارع ذكي بائس، وأشياء مثل هذه، تنعكس على
الفقر. قامت كاتبة نسوية بتفسير شخصية "أبي"، في قصة "حياة الصبايا
والنساء"، تفسير ذو طابع السير الذاتية الموثقة. فلقد حولتني لشخص آخر آتى من
هذه الخلفية البائسة، لأن لدي "أب عاجز". كانت أكاديمية في جامعة كندية،
وكدت أجن، وحاولت أن أعرف كيف أقاضيها. كنت أستشيط غضبا. لم أكن أعرف ماذا أفعل ثم
فكرت أن الأمر سيان عندي، لدي كل هذا النجاح، وفوق كل هذا فإن أبي يبقى أبي. لقد
رحل الآن. هل سيُعرف بأنه أب عاجز بسبب ما فعلته به؟ ثم أدركت إنها نشأت في جيل أصغر من الأشخاص
الذين تربوا في مناخ اقتصادي مختلف تماما. فلقد عاشوا في حالة رفاهية إلى حد ما وحصلوا
على التأمين الصحي. أنهم ليسوا واعيين للضرر مثل المرض الذي قد تعاني منه أسرة.
ولم يمروا أبدا بضائقة مالية. فينظرون للأسر الفقيرة ويفكرون أن هذا اختيارهم.
فعدم الرغبة في تحسين نفسك هو استهتار، غباء أو ما شابه. لقد نشأت في منزل ليس به
باب في المرحاض، وهذا أمر مروع بالنسبة لهذا الجيل، شيء جدير بالازدراء. في
الحقيقة لم يكن الأمر كذلك، لقد كان ساحرا.
المحاور: لم نسألك عن يومك أثناء الكتابة. فعليا، متى
تكتبي وكم يوم بالأسبوع؟
مونرو: أنا أكتب كل صباح، كل أيام الأسبوع. أبدأ في الكتابة في الساعة
الثامنة صباحا وانتهي حوالي الحادية عشر ظهرا. ثم أمارس يومي بعمل أشياء أخرى، إلا
إذا كنت بصدد مراجعة كتاباتي بشكل نهائي أو إذا كان هناك قصة أريد العمل عليها، في
تلك الحالات قد أعمل طوال اليوم مع استراحات قصيرة.
المحاور: هل أنت صارمة بشأن هذا الجدول، حتى إذا كان
هناك زفاف أو مناسبات اجتماعية أخرى؟
مونرو: لدي إحساس قهري شديد فيما يخص عدد الصفحات. فإذا علمت أني سأذهب
لمكان ما في يوم محدد، سأحاول كتابة عدد أكبر من الصفحات حتى لا يتأثر هذا اليوم.
إنه أمر قهري جدا ومخيف. لكن الأمر لم يكن سهلا، وكأني سأخسر يوما ما. إنه شيء
يتعلق بالشيخوخة. فالأشخاص يشعروا شعور قهري تجاه تلك الأشياء. الآن وسواسي القهري
حول كم من الوقت أمضيه في المشي كل يوم.
المحاور: وكم تمشي كل يوم؟
مونرو: أمشي ثلاث أميال كل يوم، وعندما أعرف اني سأفقد يوم، اضطر إلى قضاؤه.
رأيت والدي يجرب نفس الشيء. فأنت تحمي نفسك، فإذا كان لديك كل هذا الطقوس والروتين
فلا يوجد شيء قد يزعجك.
المحاور: بعد قضائك خمسة أشهر أو أكثر لتنهي قصة، هل تأخذي استراحة بعدها؟
مونرو: أمضي فورا للقصة التالية. لم أكن أفعل هذا عندما كان لدي اطفال ومسؤوليات
أخرى، لكني في تلك الأيام مصابة بالهلع من مجرد فكرة التوقف – كما لو أن، إذا
توقفت، فل ابد أن أتوقف من أجل شيء أفضل. فلدي مخزون من الأفكار غير المنجزة. إلا
إنها ليست الأفكار التي قد تحتاجها، وليست تقنية أو موهبة. فلا بد من وجود نوع من
الإثارة والإيمان لا استطيع أن أعمل من دونهم. هناك وقت حيث لم أفقد ذلك أبدا، وقد
كان أمرا لا ينضب. الآن أحيانا يحدث بعض التغيير البسيط عندما أدرك ما سيكون عليه
الأمر إذا فقدت هذا الإيمان ولا يمكنني حتى وصف ذلك. اعتقد أن وجود مثل هذا
الإيمان يكون حيوي تماما لماهية تلك القصة. حتى أني لا أملك الكثير لأفعله حول ما
إذا كانت القصة ستنجح أم لا. ما يحدث في الشيخوخة يمكنه أن يكون فحسب استنزاف
للاهتمامات بطريقة أو بأخرى بشكل لا تتوقعه، لأن هذا في الأغلب يحدث مع الأشخاص
الذين ربما لديهم الكثير من الاهتمامات والالتزامات بالحياة. أنه أمر مشابه أن تعيش
لتنتظر الوجبة التالية. فعندما تسافر فإنك ترى ذلك في كثير من وجوه أشخاص في منتصف
أعمارهم في المطاعم، الناس في نفس عمري – في نهاية منتصف العمر وفي بداية مراحل
الشيخوخة. ترى ذلك، أو تشعر به كحلزون، هذا النوع من الضحكات الخافتة الذي يمكنك
ملاحظاته خلال رؤيتك للمشهد. الشعور بأن إمكانية الاستجابة للأشياء تتوقف بشكل أو
بآخر. أشعر الان بإمكانية الإصابة بإلتهاب مفاصل، لذلك لا بد من ممارسة التدريبات
ومن ثم لا أفعل. الآن أنا أكثر وعيا لإمكانية أن يضيع كل شيء، قد تفقد كل ما كان
يملأ حياتك من قبل. ربما الاستمرار، من خلال المحفزات، يكون بالفعل هو السبب في
منع ذلك من الحدوث. هناك أجزاء من القصة التي تُضعف القصة. ليس هذا هو ما أتحدث
عنه. فالقصة تفشل لكن إيمانك بأهمية كتابة تلك القصة لا يضعف. وربما يكون هذا مكمن
الخطر. وخاصة في الشيخوخة وهو فقد تلك الأشياء التي تستحق.
المحاور: والمرء يتعجب من ذلك، لأن الفنانين يبدو أنهم يعملوا حتى النهاية.
مونرو: أعتقد أن من الممكن ألا تتوقف أبدا. ربما يجب أن تكون أكثر حذرا.
الأمر الذي لم أستطع أبدا التفكير في فقده خلال العشرين عاما الماضية هو الايمان
والرغبة. افترض أن هذا يشبه عدم الوقوع في الحب مرة أخرى أبدا. لكن يمكن أن تؤمن رغم
ذلك، لأن الوقوع في الحب لا يكون بنفس ضرورة التحلي بالإيمان. أخمن أن هذا ما
جعلني استمر. نعم، لم أتوقف ليوما واحد. مثل ممارستي للمشي كل يوم. فجسدي يفقد
انسجامه إذا توقفت لأسبوع فحسب. لذلك لا بد أن أكون حذرة طوال الوقت. بالطبع لن
يكون أمرا هاما إذا استسلمت وتوقفت عن الكتابة. وهذا ما لم أكن أخشاه. بل كنت أخشى
التوقف عن الإثارة، عن الشغف الذي جعلني أكتب. وهذا ما اتساءل حوله: ماذا يفعل
الناس عندما تنتهي ضرورة عملهم؟ حتى الأشخاص المتقاعدون الذين يحصلون على دورات
تدريبية ولديهم هوايات يبحثون عن شيء ما يملأ هذا الفراغ. أشعر بالرعب من الوصول
لهذه المرحلة وأن تكون هذه هي حياتي. فالشيء الوحيد الذي لن يجعلني اضطر إلى ملأ
حياتي هو الكتابة. لذلك لم أعرف كيف أعيش حياة بها الكثير من التنوع. الحياة
الأخرى الوحيدة التي قد أتخيلها هي الحياة الجديرة بأحد العلماء، التي ربما تجعلني
مثالية.
المحاور: حياتهم مختلفة تماما أيضا، حياة ذات ممارسة مهنية واحدة بدلا من
التسلسل.
مونرو: أذهب وألعب جولف واستمتع به، ثم قم للعمل في البستنة، ثم دع الناس
للعشاء، هكذا يكون التسلسل. لكني أفكر في بعض الأحيان ماذا لو توقفت عن الكتابة؟
ماذا لو نفذت؟ حسنا، اعتقد أني حينها سأبدأ في تعلم شيء آخر. لن يمكنك التحول من
كتابة الأدب إلى كتابة المقالات وما شابه، لا أعتقد هذا. فكتابة أي شيء بخلاف
الأدب أمر في غاية الصعوبة ومن متطلباته تعلم أمر جديدا كاملا، لكن ربما سأحاول
ذلك. لقد حاولت عدة مرات تأليف كتاب، تلك الكتب التي يكتبها أي شخص حول عائلته. لكن
لم يكن لدي أي إطار لذلك أو محور.
المحاور: ماذا عن مقال "العمل من أجل العيش"، الذي ظهر
في كتاب "قارئ الشارع النبيل"؟ يمكن قراءته كمذكرات.
مونرو: نعم. أود أن أكتب كتابا مؤلفا من مقالات وأضمه به.
المحاور: حسنا، ويليام ماكسويل كتب عن عائلته بهذه الطريقة في كتاب
"الأسلاف".
مونرو: لقد أحببت هذا الكتاب، وسألته عنه. كان لديه الكثير من المادة
الرئيسية ليكتبه. لقد فعل الشيء الذي عليك فعله، حيث حصل من تاريخ الأسرة على شيء كبير
حدث في تلك الأيام. كما في حالته، إعادة إحياء الأحدث الدينية الكاملة في أوائل
القرن التاسع عشر، التي لا أعرف أي شيء عنها. لم أكن أعرف أن أمريكا بشكل عملي
دولة ملحدة، ثم فجأة في جميع أنحاء البلاد بدأ الناس يسقطون بشكل غير منتظم. هذا
كان رائعا. إذا حصلت على شيء من هذا القبيل، ثم وجدت الكتاب، قد يأخذ مني الأمر
برهة. ومع التفكير سأفعل شيء ما مثل هذا. لكن تأتي فكرة قصة أخرى، وتبدو دائما
أكثر أهمية، بالرغم من إنها مجرد قصة بالنسبة للأعمال الأخرى. لقد قرأت الحوار الذي جرى مع ويليام تريفور في نيويوركر، عندما قال شيء ما مثل، قصة قصيرة أخرى جاءت وكشفت
صورة عن كيف تكون الحياة.