نُشر في المنصة - نوفمبر 2018
لقد كانت امرأة مُطلَّقَة، تكتب شعرًا صريحًا من منظور أنثوي بلا خجل، بجانب عملها السياسي وموقفها المناهض للسلطة، فأصبحت ولا تزال رمزا للثقافة المضادة.
كنت تجر العالم إلى النار
وتقول.. من يعبد إبليس يحترق!
ومن خلق إبليس الملعون سواك؟
أنت الذي خلقه كغول يأتي إلينا
وأعطيته الوقت مادام العالم قائما
...
لِمَ تلهو بنا؟..
نحن خيط مسبحة تدور بين يديك
وأعيننا حين وقعت بعيون الحياة..
أصبحنا نعرف الخطأ
أصبحنا الخطأ نفسه
- قصيدة "تمرد العبودية"*
في هذا المقطع من قصيدتها "تمرد العبودية"، تضعنا الشاعرة الإيرانية المتمردة "فُرُّوغ فرُّخزاد" أمام أنفسنا، وتجعلنا ندرك أننا، وبخاصة النساء منّا، لم نبلغ الطريق الثوري بعد. ورغم تمرد بعضنا في الآونة الأخيرة؛ إلا أن تمردنا ليس كافيًا. ومن فعلن؛ يظلَّن قليلات، وقد دفعن ثمن ذلك التمرد من سمعتهن وأعمارهن، تمامًا كما دفعت هي: الشاعرة والمخرجة الإيرانية فروغ فرخزاد (1934-1967).
كانت علاقة فروغ مضطربة بكل من حولها تقريبًا. أرهقها التمرد أكثر مما فعل مع المحيطين بها. طليقها الذي تزوجته وعمرها 16 عامًا، وابنها، ووالدها وأخوها الأقرب إليها "فريدون". كما لو أن وجودها كان مُتعبًا للوجود بأكمله، فكان عليها الاعتذار وتبرير موقفها طوال الوقت في رسائلها وفي قصائدها، وفي النثر القليل الذي كتبته بعيدا عن الشعر.
ففي رسائلها لوالدها الضابط السابق بالجيش الإيراني، تعتذر فروغ بشدة عن تأخرها في الرد على خطابه، ويبدو أنها تلقت تأنيبًا شديدًا؛ فهي تسعى بقوة لإثبات "أن من تحبهم من صميم قلبها لا تنساهم أبدا"، كما تقول له في رسالة أخرى "كنت أرغب في الكتابة لكم عن كل حياتي ومشاعري ومشاكلي، ولم أكن قادرة ومازلت عاجزة عن ذلك، إذ كيف يمكننا الوصول إلى تفاهم مشترك بيننا؛ عندما تكون قواعد أفكارنا وعقائدنا قد تشكلت في زمنيين ومجتمعين مختلفين من ناحية الشروط والمعطيات؟.. ألمي العظيم أنكم لا تعرفونني أبدا ولم ترغبوا يوما في ذلك، وربما لا زلتم عندما تفكرون بي؛ تعتبرونني مجرد امرأة فارغة الرأس حشت قراءة الروايات الغرامية والقصص التي نشرتها مجلة طهران مصور (طهران المصورة) رأسها بالأفكار الحمقاء. ليتني كنت هكذا، لكان باستطاعتي آنذاك أن أكون سعيدة".
وجهت أسئلتها للإله مباشرة، وضغطت في تساؤلاتها وكأنها تريد إجابة فورية. ربما لهذا رغبت في موت مبكر، لأنها ضاقت من تساؤلات لا تجد لها إجابة هنا.
كانت تستجديهم ليسمحوا لها بنشر كتاب بدون ضغوط أو مشاكل، وتؤكد لهم أنها بالفعل تحبهم وتكترث لمشاعرهم، لكنها غير قادرة على كبح موهبتها وكتمان دخيلة صدرها. كما دافعت عن سمعتها التي ساءت بحكم إنها سيدة مطلقة أولا، وشاعرة ثانيا "من يستطيع أن يدعي أنني نمت ولو ليلة واحدة خارج المنزل؟ كلا، فأنا في غرفتي ليل نهار أنجز أعمالي، وغير راغبة حتى في الخروج. بعكس ما تتصورون فأنا امرأة تحب التجوال في الشوارع، بل أنا ذاتي، امرأة تحب الجلوس إلى الطاولة وتقرأ وتكتب الشعر وتفكر.. لو كنتم تسمحون لي وتعدون بعدم الاستياء مني لقلت أشياء كثيرة أخرى.. أما إن كنتم ستستاؤون مني فالأفضل أن تبقى شفاهي مطبقة كما كانت العادة دوما. يكفي أن تعرفوا أنني أحبكم مثل بقية أولادكم ولا أريد أن أقوم بما يزعجكم". ورغم كل هذا الاستجداء إلا أنها لم تتوقف يوما لتنظر خلفها، بل أن تمردها طال الإله نفسه، تمرد ناعم في شكل تساؤلات وعتاب حينا؛ وحينا آخر بصوت عال ومواجهة صريحة. كأن الإله كبش فداء لكل أسئلتها وروحها المتعبة التي لم تستطع بها مواجهة عائلتها بشكل مباشر.
تنبأت الشاعرة الإيرانية -التي ستظل شابة لرحيلها قبل أن تتم الثالثة والثلاثين- بأنها سترحل صغيرة. قالت فروغ لأخيها الشاعر والموسيقي فريدون في رسالة؛ "على أي حال أول من سيموت في عائلتنا هي أنا، ومن بعدي يأتي دورك، أنا واثقة من هذا".
ولثقل الحزن واليقين بقرب الموت؛ اقترنت أشعار فروغ فرخزاد بهما، وحملتهما (الحزن والموت) راية عصيان ضد الحياة، وخاصة في دواوينها الأخيرة.
عندما أخرج عباس كيارستمي فيلمًا حمل عنوان قصيدة لها "سوف تحملنا الرياح" The wind will carry us؛ كان فيلمًا عن الموت وانتظاره، تسير أحداثه في قرية جبلية صغيرة، يحضر إليها شاب مجهول ويمكث في أحد بيوتها الصغيرة في انتظار موت السيدة ملك التي تجاوزت المائة عام بكثير، حتى أن أهل القرية توقفوا عن عد سنوات عمرها. الشاب ينتظر موتها يوما بعد يوم، بينما أهل القرية جميعهم يعملون على راحتها ويدعون لها باسترداد الصحة. الموت مقابل الحياة؛ حتى لو كانت حياة فقيرة استهلكت سنواتها ومضت ذروتها.
في رسائل العتاب التي تبادلتها مع أخيها فريدون، الشاعر والفنان الذي كان يعيش في ألمانيا، كانت ترسل له النقود وتعتذر عن قلتها لأنها فقيرة، ولا يوجد أحد لتستند إليه في أيام فقرها الشديد. تشكو من الوحدة والتعاسة وتعنت الناشرين في نشر دواوينها ودفع مستحقاتها المالية، وترجوه ألا يلومها لعدم الكتابة بانتظام. كانت تحبه وتُدلِّله بـ"حماري الصغير"، وتؤمن بموهبته الشعرية. كما انتظرت منه أن يمد إليها يد العون، كونه أقرب أخوتها إليها، وأكثرهم إحساسا بمعاناتها، ولأنه كذلك يكتب الشعر ويدرك مخاطره. لكن يبدو أن هذا العون لم يأت أبدا.
كان لفروغ ولد وحيد؛ كاميار "كامي كما كانت تدعوه"، أَُخذ منها بعد الطلاق دون رغبة منها، بعدما اتهمت بتعدد علاقاتها العاطفية. لكنها لم تحاول استعادته، لقد وهبت حياتها كلها للفن وضحت بكل شيء من أجل حريتها وقلمها. تقول عنه "أنا مقطوعة الصلة عن حياتي السابقة - عندما أرى كامي في الشارع، حيث يصل طوله اليوم إلى أكتافي، يبدأ بدني بالارتعاش وقلبي بالانفجار، ولكنني لا أريده لا أريده. ما الفائدة من هذه الروابط والعلاقات؟"
مدينتي أنا وأنت يا طفلي
منذ أمد وهي بيت للشيطان
سيأتي يوم وعيناك – بحسرة - ..
ستنزلقان على هذه الأغنية الموجعة
تبحثان عني بين كلماتها
وتقول مع نفسك.. هل كانت أمي هكذا؟
لكنها حملت مشاعر الأمومة بداخلها أينما ذهبت. فهي تهتم بأخيها وترسل له الأموال، وتقدم له نصائح تساعده في حياته الاجتماعية والزوجية، وتخبره برأيها في شعره وتشجعه على الكتابة والبقاء في ألمانيا وعدم العودة لطهران حيث الوسط الأدبي "متعفن ومناخه لا يشجع على النشر والتطور". كما تبنت طفلاً عانى والداه من مرض الجذام، وأخذته يعيش في منزل والديها. وكانت ترسل الرسائل لوالديه بانتظام لتطمئنهما عليه، وأخرجت فيلم "البيت أسود" عن مرضى الجذام ومعاناتهم.
في طيات أشعارها؛ يسير اليأس والحب والتمرد جنبا إلى جنب. وكأن أحدهم هو من يدفعنا نحو الآخر ثم ينفرنا منه، علاقة طردية وعكسية في آن، فتقول في قصيدة "الخصام"
تركت جسدك في هذا العالم
فغايتي ليست جسدك
لو أنني ركضت لأجلك
فقط لأنني أعشق العشق لا الوصال بك
حتى ظلام ليلي الحالك
الحلم بالعشق أجمل من طيفك
وهي واحدة من قصائد قليلة، تمردت فيها على العاشق الذي تناجيه طوال كتابتها السابقة. إنها ترفع راية الخصام وتقولها بوضوح إن العشق هو المعشوق النهائي، أمّا شخص المحبوب؛ فما هو إلا وسيلة تصلها لغايتها. لكنها تعود، في قصائد أخرى وتعلن عن حبها الهائل، لكنه حب خائف أحيانا، ولا يكتمل أبدا. بعد انطلاقها في الحب لحد الابتذال في قصائدها الأولى. تقول في قصيدة "الخوف"
من غصن شجرة العزلة
في سرير العشب الطري
بقيت أنا وشعلة العناق
أخشى من هذا النسيم أن يعانقني
أخشى أن تفوح من جسدي بين الأغراب رائحة العشب الطازج
بدءًا من ديوانها الثالث "العصيان"، يمكننا أن نلمس تجربة شعرية حقيقية قادتها فروغ بحساسية وحيرة وتساؤلات وجودية فريدة، حتى أنها وجهت أسئلتها للإله مباشرة، وضغطت في تساؤلاتها وكأنها تريد إجابة فورية. ربما لهذا رغبت في موت مبكر، لأنها ضاقت من تساؤلات لا تجد لها إجابة هنا، كما رغبت في جسد آخر في زمن آخر. ربما كل هذا الضيق لتستطيع الحياة مرة أخرى وقد نحَّت الحيرة جانبا، وكرَّست وجودها لـ"الوصول". تقول فروغ "لا أعرف ما الوصول، إلا أنه بلا شك هدف يتجه كل وجودي نحوه".
أتمنى أن أنتهي أو استمر هكذا. لا يهمني الصعود أو التقدم. أرغب فقط في النزول، الانحدار مع كل الأشياء التي أحبها، لأحل في كل [شيء] غير قابل للتبدل.
في رسائلها لحبيبها ابراهيم كلستان، كتبت الكثير من هواجسها وأفكارها. كان هو الوحيد الذي لم تضطر إلى الاعتذار إليه عن أي شيء، أو تبرير نفسها له. كانت تطلق يديها وتكتب له دون اكتراث لسمعتها التي تلطخت بأسباب عديدة، وعلى رأسها علاقتها به.
قالت له في أحد الخطابات؛ "عندما كنت عائدة إلى المنزل كما الأطفال اليتامى، كنت أفكر بزهوري.. زهور عباد الشمس. إلى أي حد نَمَت؟ اكتب لي. عندما تتفتح الزهور بادر بالكتابة لي. من مكاني الذي أنام فيه أستطيع أن أرى البحر.. القوارب على سطح الماء ولا أحد يعلم أين نهاية البحر. لو كنت أستطيع أن أكون جزءًا من هذه اللانهاية، لاستطعت أن أكون حيثما شئت.. أتمنى أن أنتهي أو استمر هكذا. لا يهمني الصعود أو التقدم. أرغب فقط في النزول، الانحدار مع كل الأشياء التي أحبها، لأحل في كل غير قابل للتبدل. يبدو لي أن هذا هو المهرب الوحيد من الفناء والتدهور والضياع والاندثار".
تعود أهمية فروغ وشهرتها العالمية لتجاهلها القيم المحافظة في عصرها، وهذا يعني الكثير. لقد كانت امرأة مُطلَّقَة، تكتب شعرًا صريحًا من منظور أنثوي بلا خجل، بجانب عملها السياسي وموقفها المناهض للسلطة، فأصبحت ولا تزال رمزا للثقافة المضادة. وقد كسبت معجبين ومنتقدين على نفس القدر من الحماسة. تقول في قصيدة "سألقي التحية على الشمس".
أخذني إلى بستان الورود الحمراء
وعلق على جدائلي المضطربة ورودا حمراء
وفي النهاية نام معي فوق ورقة من الورد الأحمر
أيها الحمام المشلول
أيتها الاشجار الساذجة اليائسة
أيتها النوافذ العمياء
تحت قلبي وفي أسفل ظهري الآن تنمو وردة حمراء
حمراء
كعلم في يوم المعاد
اه.. أنا حبلى.. حبلي حبلى
يقول المخرج الايراني مهدي جامي "في ثقافة أي بلد؛ هناك رموز ثقافية، مثل شكسبير في بريطانيا. فرخزاد كانت كذلك بالنسبة لإيران المعاصرة، فهي من شكلت الهوية الحديثة للشعر الإيراني. كانت تكتب بطريقة بسيطة وحميمة. لم تكن تتصنع لا في شخصيتها، ولا في شعرها... كانت آخر شخص يقول الحقيقة في بلادنا".
عاشت فروغ فرخزاد حياة بسيطة، للحد الذي جعلها تسافر أوروبا لأول مرة على متن طائرة بضائع، واستنكرت بشدة كل المظاهر الفارغة التي يتمسك بها البشر بلا قيمة حقيقة. كتبت الشعر وخاضت مختلف المجالات الفنية مثل التمثيل في أفلام ومسرحيات، والإخراج السينمائي والوثائقي. كما كتبت القصة القصيرة وعملت في الإنتاج والاعلانات والدوبلاج. تُرجِمَت أشعارها إلى العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والكردية والنيبالية والروسية والتركية والأردية والأوزبكية. حاولت الانتحار مرتين ودخلت إلى مصحة نفسية للعلاج من الاكتئاب أكثر من مرة. كما اعتقلت مرات عديدة إثر اشتراكها في نشاطات سياسية ديمقراطية.
عندما رحلت كانت مكتملة ومتوازنة بشكل كبير. لم ترحل قبل أوانها، كما يشير البعض، رغم إنها لم تكمل عامها الثالث والثلاثين.
بنظرة سريعة على قصائدها نجدها في الدواوين الأولى "الأسيرة" و"الجدار" كأنها مراهقة في حالة عشق مع الحب ذاته. تتلون حالتها المزاجية ما بين الحب واليأس ولوعة الانتظار. وتنضج المراهِقة وترى الحياة من جوانب أخري، وتدرك قيمة التمرد في ديوان "العصيان"، وتوجه تساؤلاتها وحيرتها للإله ذاته، وترفع راية الثورة وتشفق على كل من عصى وتطلب له الرحمة. وتسير ببطء في رحلة كالفردوس المفقود لميلتون، لتحكي ثنائية الإنسان والشيطان، وتوهتهما في دروب الإله المختلفة.
كيف يمكننا أن نأمر ذلك الذي يذهب الآن
بصبر..
وثقل..
وضياع..
أن يقف
كيف يمكننا أن تقول لذلك الرجل
أنه ليس على قيد الحياة..
وهو لم يكن حيا أبدا
يضم ديوانها الأخير الذي نشر بعد موتها "فلنؤمن بطليعة الموسم البارد" قصائد كأنها كُتبت من العالم الآخر، من تحت التراب، كأنها لم تنس أن تكتب الرسائل التي سترسلها لنا من هناك لتؤكد على رحيلها ووجودها داخل الأرض الطرية وشعورها الدائم بالبرد "كأنها لم تدفأ أبدا". لكنها رغم ذلك لم تتوان عن إلزام الموت بالوقوف، أو على الأقل فكرت في هذا.
أنا بعد موتي
لم أجرؤ يوما على النظر في المرآة
ومت بالقدر الذي لا أستطيع فيه أن أثبت موتي لأحد
جميع النصوص الواردة لفروغ فرخزاد. المصادر:
نصوص نثرية – ت: خليل علي حيدر – دار العين
الأعمال الشعرية الكاملة – ت: مريم العطار – دار المدى