Thursday, October 23, 2014

عالم موديانو بعد الحرب العالمية الثانية


تصدر لجنة نوبل بيانات غامضة كتتويج للفائزين، ولا تختلف كثيرا عن اختيارتها المبهة في كثير من الأحيان. فتصل بتصريحاتها لأعلى مراتب اللغة الشعرية كما لو إنها مرتبة شرف تتمم كمال الكاتب. أما نحن، القراء العاديين، فنعكف على تلك التصريحات مثل 
حجاج يذهبون لملاقاة الآلهة في دلفي اليونانية القديمة لعلهم يلقوا علينا خبرا، ثم نعود بثروة بخسة.

كان البيان الخاص بالشاعر الفرنسي لو كليزيو، الفائز بنوبل عام 2008، إنه "كاتب الإنطلاقات الجديدة، وصاحب المغامرة الشعرية والنشوى الحسية، ومستكشف الإنسانية فيما وراء الحضارة السائدة". وكوتزي الفائز عام 2003، فقد قيل عنه "إنه ذلك الرجل الذي استعرض وبطرق لا تحصى، المفاجآت التي يقدمها الآخر". أما هارولد بنتر الذي فاز بنوبل عام 2005، فعبرت عنه لجنة نوبل بأنه "يكشف في مسرحياته مدى الإنقياد لثرثرة الحياة اليومية ويقتحم مواطن الظلم الخفية". وكان من المريح أن نعلم أن بيان العام الماضي عن أليس مونرو كان موجزا وأفاد بأنها "سيدة القصة القصيرة المعاصرة".

هذا العام، ذهبت الجائزة إلى الروائي الفرنسي باتريك موديانو، وقال البيان "بسبب تمكنه من فن الذاكرة وانتاجه أعمالا تعالج المصائر البشرية العصية على الفهم وكشف العوالم الخفية للاحتلال". موديانو الذي يبلغ من العمر 69 عام، بدأ في نشر رواياته منذ عام 1968، وتعتبر روايته الأخيرة "حتى لا تضيع في الجوار" والتي صدرت الأسبوع الفائت، مقروءة في فرنسا، ولكن عمليا، لا نعرف عن موديانو شيئا. فلقد نشرت جامعة يال مجلد يضم ثلاث من قصصه، ولكن القسم الأكبر من أعماله مازال غير متاح بالإنجليزية.

ولكن من هو هذا الروائي؟ وما هي المصائر الخفية العصية على الفهم التي كشف عنها؟ ولد موديانو بالقرب من باريس في يوليو عام 1945، لأم بلجيكية وأب يهودي تعود جذوره إلى سالونيك. درس في مدرسة ليسيه هنري الرابع وهي من أرقى المدارس التمهيدية بفرنسا، ولكنه توقف عن الدراسة في عمر 17 عام. وبعد خمس سنوات من منحه شهادة الثانوية، بدأ في الكتابة كما صرح لمجلة Les Inrockuptibles عام 2012. ثم ابتعد عن عائلته وتجول في باريس، يبيع الكتب ليجني المال؛ كما تعلم أن ينسخ أعمال الكتاب المشهوريين مثل بول فاليري وأليان روب جريلي ويزيف إهداءات صفحة العنوان. يقول موديانو "لقد كانت فترة استثنائية ومشوشة". كانت الحرب الجزائرية الكارثية، التي استغرقت أفضل جزء من خمسينات القرن الماضي، قد انتهت للتو. وقد كان هذا، بالنسبة لموديانو، "فترة غير اعتيادية، واجهت بها كبار السن، الذين غرسوا في نفسي شعور دائم بالخطر".

مثل تصور رواية سلمان رشدي "أطفال منتصف الليل"، فإن الأوربيون من مواليد عام 1945 يتميزون بالحدية. فلقد هربوا من ساحة الحرب وظل العار يلاحقهم، ولدوا في وقت الحرية ولكن طاردتهم الاضطرابات؛ فلقد كبروا وهم يترقبوا في خوف. في عام 1969، قام الرسام والنحات الألماني، أنسيلم كيفير الذي ولد قبل موديانو بشهرين، بإنتاج ما أطلق عليه "الاحتلالات"، وهي عبارة عن مجموعة صور فوتوغرافية له، حيث يتظاهر برفع يده بالتحية النازية بأكثر من مكان في إيطاليا وسويسرا وفرنسا. قام كيفير بزيارة أماكن القصف النازي، في دعوة للشعب الألماني ألا ينسى جنون الرايخ الثالث. وقد كانت رواية موديانو الأولى، التي نشرت قبل مجموعة الاحتلالات بعام، تتضمن إسقاط مشابه للماضي الذي نجا بأعجوبة. ولقد نشرت في عام 1942 في باريس السيريالية (في وقت تألق كل من بروست، فرويد، هتلر ودرفيوس)، تحت إسم "ساحة النجمة". كإشارة للساحة الدائرية على رأس شارع الشانزلزيه التي تحيط قوس النصر، وأيضا تشير إلى النجمة الصفراء التي فرضها هتلر على اليهود أثناء الاحتلال.

ظهرت "ساحة النجمة" في الوقت الذي بدأ فيه انهيار صميم الهوية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، أو كما قالت الروائية الفرنسية كليمانس بولوك، عندما قمت بدعوتها لمناقشة فوز موديانو، "إنها ظهرت في الوقت الذي بدأت فرنسا، كأسطورة المعارضين، في السقوط". نشر الكتاب في مايو، 1968، في نفس الشهر الذي ثارت فيه احتجاجات الطلاب، وفر شارل ديجول، رئيس فرنسا حينها والبطل المحارب، إلى قاعدة عسكرية بألمانيا في انتظار انتهاء كل شيء. واقترب موديانو من الحقيقة القذرة عن كثب. فلقد رفض والده ارتداء النجمة ولم يخضع عندما اجبروا اليهود على الترحيل إلى معسكرات الإعتقال؛ بل قضى فترة الحرب في إدارة الأعمال بالسوق السوداء والتسكع مع الجستابو المرابطة في منطقة لرويستون.

أخبرتني بولوك، وهي زميل ما بعد الدكتوراه في الدراسات اليهودية بجامعة بنسلفانيا، إنها تعود بقراءة روايات موديانو لنفس الثيمات: تأثير الماضي، والتهديد بالتلاشي، وضبابية الحدود الأخلاقية، والجانب المظلم للروح. وقالت أن موديانو يعتقد أن "الروائي لديه واجب أخلاقي ليسجل آثار الذين غابوا، والذين تلاشوا". وبالطبع لا يغيب عن انتباه أعضاء لجنة نوبل أن فوز موديانو جاء في الوقت الذي زاد فيه معاداة السامية بفرنسا، كما ارتفع معدل هجرة اليهود الفرنسيين إلى اسرائيل، لخوفهم وعدم شعورهم بالأمان في وطنهم، حيث أن ثقافتهم ربما تكون في طريقها للاندثار، وهذا شيء واضح وحقيقي.

كتبت بولوك أطروحة الماجستير عن موديانو، وساعدها هو في وقت لاحق في نشر كتابها الأول. وتعتبر موديانو أعظم الروائيين الفرنسيين الذين على قيد الحياة. وقالت: "لقد قفزت عندما علمت بفوزه بنوبل، وبكيت من الفرحة".

وكان رد الفعل في فرنسا، احتفالي على نطاق واسع. وكما نعلم فإن فرنسا ليست بعيدة عن نوبل؛ فموديانو هو الفائز الفرنسي الخامس عشر. ولكن بعد فوز الشاعر لو كليزيو عام 2008، بدا فوز فرنسي آخر قريبا شيء بعيد المنال.

وصفت جوسيان سافنيو، محررة بمجلة لاموند الفرنسية، في إيميل إلكتروني، كتابات موديانو بأنها "مرهفة، بارعة ومكبوتة". وأشادت بالرجل نفسه قائلة إنه "حذر وسخي، وبمعزل عن وضعه الأدبي المتميز. في الحقيقة، إنه لم يبدع سيمفونيات أو أوبرات، ولكنه عازف بيانو ممتاز". ثم أضافت "ولكني ساخطة، كالمعتاد، لأنهم تجاهلوا فيليب روث".


عن The new yorker